الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أمر الحاكم بالقود

( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : وينبغي للحاكم أن يعرف موضع رجل مأمون على القود وإذا أمره به أحضر عدلين عاقلين فأمرهما أن يتعاهدا حديده ولا يستقيد إلا وحديده حديد مسقى لئلا يعذب المستقاد منه وينبغي للحاكم أن يأمر المستقيد أن يختم على حديده لئلا يحتال فيسم فيقتل المستقاد منه أو يزمنه ، وكذلك لا ينبغي أن يكون بحديده علة من ثلم ولا وهن فيبطئ في رأس ولا وجه حتى يكون عليه عذابا ، وينبغي له أن يأمر العدلين إذا أقاد تحت شعر في وجه أو رأس أن يأمر بحلاق الرأس أو موضع القود منه ثم يأخذ قياس شجة المستقاد له ويقدر رأسه ثم يضع مقياسها في موضعه من رأس الشاج ثم يعلمه بسواد أو غيره ثم يأخذ المستقيد بشق ما شرط في العلامتين حتى يستوظف الشجة ويأخذانه بذلك في عرضها وعمقها وينظر فإن كان شقا واحدا أيسر عليه فعل وإن كان شقه شيئا بعد شيء أيسر عليه فعل ، وإن قيل شقه واحدة أيسر عليه أجرى يده مرة واحدة فإذا خيفت زيادته أمر أن يحرفها من الطرف الذي يأخذ منه إلى موضع لا يخاف فعله فإذا قارب منتهاها أبطأ بيده لئلا يزيد شيئا . فإن أقاد وعلى المستقاد منه شعر فقد أساء ولا شيء عليه ، وإنما أعني بذلك شعر الرأس واللحية فأما إن كان القود في جسد وكان شعر الجسد خفيفا لا يحول دون النظر فأحب إلي أن يحلقه وإن لم يفعل فلا بأس إن شاء الله تعالى وإن كان كثيرا حلقه ( قال الشافعي ) ويؤمر بالمقتص منه فيضبط لئلا يضطرب فتذهب الحديدة حيث لا يريد المقتص فإن أغفل ضبطه أو ضبطه من لا يقوى منه على الاضطراب في يديه فاضطرب والحديدة موضوعة في رأسه في موضع القود فذهبت الحديدة موضعا آخر فهو هدر ; لأن المقتص له لم يتعد موضع القصاص ، وإن ذهابها في غير موضعه بفعل المقتص منه [ ص: 60 ] بنفسه ( قال الشافعي ) ويعاد للمقتص فيشق في موضع القود أو يقطع في موضعه إن كان القود قطعا حتى يأتي على موضع القصاص فإذا كان القصاص جراحا أقص منه في مجلس واحد جرح بعد جرح ( قال الشافعي ) ولو كان جرحها هو متفرقة أو جرحها من نفر بأعيانهم ، وكذلك لو كان القصاص قطعا أو جراحا وقطعا ليس فيه نفس إلا أن يكون في القصاص منه شيء إذا نيل منه كثير خيف عليه التلف فيؤخذ منه ما لا يخاف عليه ويحبس حتى يبرأ ثم يؤخذ منه الباقي فإن مات قبل أن يؤخذ فعقل الباقي في ماله .

( قال الشافعي ) وإن أصاب جراحا ونفسا من رجل أقيد منه في الجراح ، الأول فالأول في مقام ما كانت وإن كانت مما يتخوف به التلف أخذت ثم أقيد فإن مات قبل القود فقد أتى على نفسه ولا حق لورثة المستقاد له في ماله ; لأنه أتى على نفسه ولو كانت الجراح لرجل والنفس لآخر بدئ بالجراح فأقص منها كما وصفت من الجراح إذا كانت لا نفس معها يؤخذ في مقام واحد ما ليس فيه تلف حاضر ويحبس حتى يبرأ ثم يؤخذ الباقي إذا كان الباقي ليس فيه تلف فإن مات فقد قيل يضمن أرش ما بقي من الجراح والنفس ( قال الشافعي ) وإن لم يكن في الجراح تلف أخذت كلها ثم دفع إلى أولياء المقتول فقتلوه إن شاءوا ( قال ) ولو دفع إلى أولياء المقتول فقتلوه ضمن الجراح في ماله ولا يبطل عنه القتل جراح من يقتل له ( قال الشافعي ) ولو كان جراحا لا نفس فيها لرجل فاقتص من جرح منها فمات ضمن الجارح الميت ما بقي من أرش الجراح التي لم يقتص منه فيها وإن اجتمعت على رجل حدود : حد بكر في الزنا وحد في القذف وحد في سرقة يقطع فيها ، وقطع طريق يقطع فيه أو يقتل وقتل رجل : بدئ بحق الآدميين فيما ليس فيه قتل ثم حق الله تبارك وتعالى فيما لا نفس فيه ثم كان القتل من ورائها يحد أولا في القذف ثم حبس فإذا برئ حد في الزنا ثم حبس حتى يبرأ ، ثم قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى من خلاف وكانت يده اليمنى للسرقة وقطع الطريق معا ، ورجله لقطع الطريق مع يده ثم قتل قودا أو بردة فإن مات في الحد الأول أو الذي بعده أو قتل بحد سقطت عنه الحدود التي لله عز وجل كلها .

وإن كان قاتلا لرجل فمات قبل يقتل قودا كان عليه دية النفس ، وكذلك إن كان جرحا لم يسقط أرش الجرح ; لأنه يملك بالجرح والنفس مال ولا يملك بحد القذف ولا حد السرقة مال بحال ( قال الشافعي ) وإن قتله الإمام لولي الدم أو ردة فقد أساء وتبطل عنه الحدود التي لله عز وجل ; لأنه ميت ولا مال فيها ( قال الشافعي ) وإنما حددته بالحدود كلها ; لأنه ليس منها واحد إلا واجب عليه مأمور بأخذه فلا يجوز - والله أعلم - أن أعطل مأمورا به لمأمور به أعظم ولا أصغر منه وأنا أجد السبيل إلى أخذه كما تكون عليه الحقوق للآدميين فلا يجوز إلا أن تؤخذ منه كلها إذا قدر على أخذها . وإذا كان المستقاد منه مريضا ولا نفس عليه لم يقتص منه فيما دون النفس حتى يبرأ فإذا برئ اقتص منه .

، وكذلك كل حد وجب عليه لله عز وجل أو أوجبه الله للآدميين فإن كانت على المريض نفس قتل مريضا أو صحيحا . وإن كان جرح فمات المجروح من الجرح أقيد منه من الجرح والنفس معا في مقام واحد ; لأني إنما أؤخره فيما دون النفس لئلا يتلف بالقود مع المرض وإذا كنت أقيد بالقتل لم أؤخره بالمرض وهكذا إذا كان القود في بلاد باردة وساعة باردة أو بلاد حارة وساعة حارة فإذا كان ما دون النفس أخر حتى يذهب حد البرد وحد الحر ويقتص منه في الحال التي ليست بحال تلف ولا شديدة المباينة لما سواها من الأحوال وكان حكم الحر والبرد حكم مرضه يقتص منه في النفس ولا يقتص منه فيما دونها . والمرأة والرجل في هذا سواء إلا أن تكون المرأة حاملا فلا يقتص منها ولا تحد حتى تضع حملها ( قال الشافعي ) وإن كان القصاص في رجل في جميع أصابع كفه أو بعضها فقال اقطعوا يدي [ ص: 61 ] ورضي بذلك المقتص له قيل لا يقطع إلا من حيث قطع ولا أقبل في هذا اجتماعهما عليه ; لأنه عدوان وإذا قطع الرجل يد الرجل الشلاء ، ويد القاطع صحيحة فتراضيا بأن يقتص من القاطع فيقطع يده الصحيحة لم أقطع يده الصحيحة برضاه ورضا صاحبه وجعلت عليه حكومة . وإذا كانت يد المقطوع الأول صحيحة ويد القاطع هي الشلاء ففي يد المقطوع الأرش لنقص يد القاطع عنها فإن رضي المقتص له بأن يقطع ولم يرض ذلك القاطع سألت أهل العلم بالقطع ، فإن قالوا : إن اليد الشلاء إذا قطعت كانت أقرب من التلف على من قطعت منه من يد الصحيح لو قطعته لم أقطعها بحال وإن قالوا ليس فيها من التلف إلا ما في يد الصحيح قطعتها ولم ألتفت إلى مشقة القطع على المستقاد منه ولا المستقاد له إذا كان يقدر على أن يؤتى بالقطع لا يزاد عليه .

( قال الشافعي ) ولو رضي الأشل أن يقطع لم ألتفت إلى رضاه وكان رضاه وسخطه في ذلك سواء وهذا هكذا في الأصابع والرجل وغيرهما مما يشل وإذا قطع الأشل يد الصحيح فسأل الصحيح القود وأرش فضل ما بين اليدين قيل إن شئت أقتص لك وإذا اخترت القصاص فلا أرش وإن شئت فلك الأرش ولا قصاص . وإنما يكون له أرش وقصاص إذا كان القطع على أطراف تعدد فقطع بعضها وبقي بعض كأن يقطع ثلاثة أصابع فوجد له أصبعين ولا يجد له ثالثة فنقطع أصبعين ونجعل في الثالثة الأرش وإن كانت الثلاثة شلا فسأل أن يقطع ويأخذ له فضل ما بينهما لم يكن ذلك له وقطعت له إن شاء أو آخذ له الأرش .

( قال الشافعي ) ولا يصلب المقتص منه في القتل ولا المقتول في الزنا ولا الردة بحال لا يصلب أحد أحدا إلا قاطع الطريق الذي أخذ المال وقتل فإنه يقتل ثم يصلب ثلاثا ، ثم ينزل ويصلى عليهم كلهم إلا المرتد فإنه لا يصلى على كافر ، وإن وجب على رجل قصاص في نفس اقتص منه مريضا وفي الحر الشديد والبرد الشديد .

وكذلك كل ما وجب عليه يأتي على نفسه وإذا كان الذي يجب عليه جراحا لا يأتي على النفس لم يؤخذ ذلك منه مريضا ولا في حر شديد وبرد شديد وحبس حتى تذهب تلك الحال ، ثم يؤخذ منه . ولا يؤخذ من الحبلى حتى تضع حملها في حال . وإذا وجب عليه رجم ببينة أخذ في الحر والبرد وأخذ وهو مريض ، وإذا وجب عليه باعتراف لم يؤخذ مريضا ولا في حر ولا برد ; لأنه متى رجع قبل الرجم وبعده تركته .

التالي السابق


الخدمات العلمية