الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 178 ] الخلاف في المرتد

( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : فخالفنا بعض أهل ناحيتنا في المرتد بوجهين . أحدهما : أن قائلا منهم قال من ولد على الإسلام فارتد قتلته إلى أي دين ارتد وقتلته وإن تاب . وقال آخر منهم : من رجع إلى دين يظهره كاليهودية والنصرانية استتبته فإن تاب قبلت منه وإن لم يتب قتلته ، وإن رجع إلى دين يستخفي به كالزندقة وما يستخفي به قتلته وإن أظهر التوبة لم أقبلها وأحسبه سوى بين من ولد على الإسلام ومن لم يولد عليه ( قال الشافعي ) فوافقنا بعض أصحابنا من المدنيين والمكيين والمشرقيين وغيرهم من أهل العلم في أن لا يقتل من أظهر التوبة وفي أن يسوي بين من ولد على الإسلام ومن لم يولد عليه ودان دينا يظهره أو دينا يستخفي به لأن كل ذلك كفر ( قال الشافعي ) والحجة على من فرق بين من ولد على الإسلام ومن لم يولد عليه أن الله أنزل حدوده فلم نعلم كتابا نزل ولا سنة مضت ولا أحدا من المسلمين خالف في الحدود بين أحد من المسلمين ولد على الكفر فأحدث إسلاما أو ولد على الإسلام والقتل على الردة حد ليس للإمام أن يعطله ولا يجوز لأحد إلا من فرضت طاعته أن يفرق بين الحدود والله أعلم .

تكلف الحجة على قائل القول الأول وعلى من قال أقبل إظهار التوبة إذا كان رجع إلى دين يظهره ولا أقبل ذلك إذا رجع إلى دين لا يظهره

( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : ولولا غفلة في بعض السامعين الذين لعل من نوى الأجر في تبيينهم أن يؤجر ما تكلفت لأنه إنما يكتفي في هذين القولين بأن يحكيا فيعلم أن ليس فيهما مذهب يجوز أن يغلط به عالم بحال وأن كتاب الله تعالى ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثم المعقول والقياس يدل على غير ما قال من قال هذا والله أعلم . ومن أوجز ما بين به أن الأمر على غير ما قيل أن يقال قد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من بدل دينه فاضربوا عنقه } فهل يعد وهذا القول أبدا واحدا من معنيين ؟ أن يكون من بدل دينه وأقام على تبديله ضربت عنقه كما تضرب عناق أهل الحرب . أو تكون كلمة التبديل توجب القتل وإن تاب كما يوجبه الزنا بعد الإحصان وقتل النفس بغير النفس فليس قولك واحدا منهما وأن يقال له لم قبلت إظهار التوبة من الذي رجع إلى النصرانية واليهودية ودين أظهره ؟ ألأنك على ثقة من أنه إذا أظهر التوبة فقد صحت توبته أو قد يكون يظهرها وهو مشتمل على الكفر ودين النصرانية أو منتقل عنه إلى دين يخفيه ؟ ولم أبيت قبول من أظهر التوبة وقد كان مستخفيا بالشرك ؟ أعلى علم أنت من أن هذا لا يتوب توبة صحيحة أم قد يتوب توبة صحيحة ؟ فلا يجوز لأحد أن يدعي علم هذا لأنه لا يعلم حقيقة علم هذا أحد من الآدميين غير المؤمن نفسه وإنما تولى الله عز ذكره علم الغيب ، أو رأيت لو قال رجل من استسر بالكفر قبلت توبته لضعفه في استسراره ومن أعلنه لم تقبل توبته لما انكشف به من الكفر بالله وإن المنكشف بالمعصية أولى أن تنفر القلوب منه ويكاد أن يؤيس من صحة توبته لأنا رأينا من انكشف بالمعاصي سوى الشرك كان أحرى أن لا يتوب ما الحجة عليه ؟ هل هي إلا أن هذا مما لا يعلمه إلا الله عز وجل وأن حكم الله تعالى في الدنيا قبول ظاهر [ ص: 179 ] الآدميين وأنه تولى سرائرهم ولم يجعل لنبي مرسل ولا لأحد من خلقه أن يحكم إلا على الظاهر وتولى دونهم السرائر لانفراده بعلمها وهكذا الحجة على من قال هذا القول . وأخبر الله عز وجل عن قوم من الأعراب فقال { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } فأعلم أنه لم يدخل الإيمان في قلوبهم وأنهم أظهروه وحقن به دماءهم قال مجاهد في قوله " أسلمنا " ، قال أسلمنا مخافة القتل والسباء ( قال الشافعي ) وأخبر الله جل ثناؤه عن المنافقين في عدد آي من كتابه بإظهار الإيمان والاستسرار بالشرك وأخبرنا بأن قد جزاهم بعلمه عنهم بالدرك الأسفل من النار فقال { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا } فأعلم أن حكمهم في الآخرة النار بعلمه أسرارهم وأن حكمه عليهم في الدنيا إن أظهروا الإيمان جنة لهم ، وأخبر عن طائفة غيرهم فقال { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا } وهذه حكاية عنهم وعن الطائفة معهم مع ما حكى من كفر المنافقين منفردا وحكى من أن الإيمان لم يدخل قلوب من حكى من الأعراب وكل من حقن دمه في الدنيا بما أظهر مما يعلم جل ثناؤه خلافه من شركهم لأنه أبان أنه لم يول الحكم على السرائر غيره وأن قد ولى نبيه الحكم على الظاهر وعاشرهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقتل منهم أحدا ولم يحبسه ولم يعاقبه ولم يمنعه سهمه في الإسلام إذا حضر القتال ولا مناكحة المؤمنين وموارثتهم والصلاة على موتاهم وجميع حكم الإسلام وهؤلاء من المنافقين والذين في قلوبهم مرض والأعراب لا يدينون دينا يظهر بل يظهرون الإسلام ويستخفون بالشرك والتعطيل قال الله عز وجل { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول } فإن قال قائل فلعل من سميت لم يظهر شركا سمعه منه آدمي وإنما أخبر الله أسرارهم فقد سمع من عدد منهم الشرك وشهد به عند النبي صلى الله عليه وسلم فمنهم من جحده وشهد شهادة الحق فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أظهر ولم يقفه على أن يقول أقر ومنهم من أقر بما شهد به عليه وقال تبت إلى الله وشهد شهادة الحق فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أظهر . ومنهم من عرف النبي صلى الله عليه وسلم عليه ( أخبرنا ) سفيان بن عيينة عن الزهري عن أسامة بن زيد وقال شهدت من نفاق عبد الله بن أبي ثلاثة مجالس فإن قال قائل فقد قال الله عز وجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله } إلى قوله { وهم كافرون } قيل فهذا يبين ما قلنا وخلاف ما قال من خالفنا ، فأما أمره أن لا يصلي عليهم فإن صلاته بأبي هو وأمي مخالفة صلاة غيره وأرجو أن يكون قضى إذ أمره بترك الصلاة على المنافقين أن لا يصلي على أحد إلا غفر له وقضى أن لا يغفر للمقيم على شر فنهاه عن الصلاة على من لا يغفر له .

فإن قال قائل ما دل على هذا ؟ قيل لم يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليهم مسلما ولم يقتل منهم بعد هذا أحدا وترك الصلاة مباح على من قامت بالصلاة عليه طائفة من المسلمين فلما كان جائزا أن يترك الصلاة على المسلم إذا قام بالصلاة عليه بعض المسلمين لم يكن في ترك الصلاة معنى يغير ظاهر حكم الإسلام في الدنيا . وقد [ ص: 180 ] عاشرهم حذيفة فعرفهم بأعيانهم ثم عاشرهم مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وهم يصلون عليهم وكان عمر رضي الله عنه إذا وضعت جنازة فرأى حذيفة فإن أشار إليه أن اجلس جلس وإن قام معه صلى عليها عمر ولا يمنع هو ولا أبو بكر قبله ولا عثمان بعده المسلمين الصلاة عليهم ولا شيئا من أحكام الإسلام ويدعها من تركها بمعنى ما وصفت من أنها إذا أبيح تركها من مسلم لا يعرف إلا بالإسلام كان أجوز تركها من المنافقين .

فإن قال فلعل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة . قيل فلم لم يقتل أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله عنهم ولا غيرهم منهم أحدا ولم يمنعه حكم الإسلام وقد أعلمت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي اشرأب النفاق بالمدينة .

( قال الشافعي ) ويقال لأحد إن قال هذا ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد من أهل دهره لله حدا بل كان أقوم الناس بما افترض الله عليه من حدوده صلى الله عليه وسلم حتى قال في امرأة سرقت فشفع لها { إنما أهلك من كان قبلكم أنه كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الوضيع قطعوه } وقد آمن بعض الناس ثم ارتد ثم أظهر الإيمان فلم يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل من المرتدين من لم يظهر الإيمان . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله } فأعلم أن حكمهم في الظاهر أن تمنع دماؤهم بإظهار الإيمان وحسابهم في المغيب على الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله عز وجل تولى منكم السرائر ودرأ عنكم بالبينات فتوبوا إلى الله واستتروا بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله عز وجل } وقال صلى الله عليه وسلم { إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار } فأعلم أن حكمه كله على الظاهر وأنه لا يحل ما حرم الله وحكم الله على الباطن لأن الله عز وجل تولى الباطن وقال عمر بن الخطاب لرجل أظهر الإسلام كان يعرف منه خلافه إني لأحسبك متعوذا فقال أما في الإسلام ما أعاذني ؟ فقال أجل إن في الإسلام ما أعاذ من استعاذ به قال ولو لم يعلم قائل هذا القول شيئا مما وصفنا إلا أنه وافقنا على قتل المرتد وأن يجعل ماله فيئا فكان حكمه عنده حكم المحارب من المشركين وكان أصل قوله في المحارب أنه إذا أظهر الإيمان في أي حال ما كان إسار أو تحت سيف أو غيرها أو على أي دين كان حقن دمه كان ينبغي أن يمنع من أن يقتل من أظهر الإيمان بأي حال كان وإلى أي دين كان رجع ( قال الربيع ) إذا قال بعض الناس فهم المشرقيون وإذا قال بعض أصحابنا أو بعض أهل بلدنا فهو مالك .

التالي السابق


الخدمات العلمية