الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن جابر قال دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له صليت ؟ قال لا ، قال صل ركعتين وفي رواية لمسلم الركعتين وزاد في رواية وتجوز فيهما ثم قال إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما وله جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر يخطب : ولابن ماجه بإسناد صحيح أصليت ركعتين قبل أن تجيء .

                                                            التالي السابق


                                                            الحديث الخامس وعن جابر قال دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له صليت قال لا قال صل ركعتين (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) اتفق عليه الشيخان وابن ماجه من طريق سفيان بن عيينة وفي رواية مسلم يخطب يوم الجمعة وفي رواية له قم فصل الركعتين واتفق عليه الأئمة الخمسة من طريق حماد بن زيد بلفظ قم فاركع [ ص: 182 ] وقال الترمذي هذا حديث صحيح أصح شيء في هذا الباب واتفق عليه الشيخان والنسائي من طريق شعبة بلفظ إن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فقال : إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليصل ركعتين لفظ مسلم وأخرجه مسلم والنسائي من طريق ابن جريج وأخرجه مسلم من طريق أيوب السختياني خمستهم عن عمرو بن دينار عن جابر وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من طريق أبي الزبير عن جابر أنه قال جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر فقعد سليك قبل أن يصلي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أركعت ركعتين قال لا قال قم فاركعهما ، وأخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه من طريق أبي سفيان عن جابر قال جاء سليك الغطفاني بمعناه إلا أنه قال فاركع ركعتين وتجوز فيهما ثم قال إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ويتجوز فيهما لفظ مسلم وفيه رواية ابن ماجه أصليت ركعتين قبل أن تجيء وروى ابن حبان في صحيحه من طريق ابن إسحاق حدثني أبان بن صالح عن مجاهد عن جابر قال دخل سليك الغطفاني المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اركع ركعتين ولا تعودن لمثل هذا فركعهما ثم جلس قال ابن حبان أراد به الإبطاء وروى الطبراني في معجمه الكبير من رواية منصور بن أبي الأسود عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال دخل النعمان بن قوقل ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب يوم الجمعة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم صل ركعتين تجوز فيهما فإذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليصل ركعتين وليخففهما ومنصور بن أبي الأسود وثقه ابن معين ونسبه للتشيع وقال أبو حاتم يكتب حديثه .

                                                            (الثانية) قد عرفت اختلاف الروايات في هذا الرجل المبهم هل هو سليك الغطفاني أو النعمان بن قوقل وحكى ابن بشكوال في المبهمات قولا آخر أنه أبو هدبة والذي في صحيح مسلم أنه سليك كما تقدم قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي لا مانع من أن يكونان واقعتين فمرة مع سليك ومرة مع النعمان بن قوقل .

                                                            (الثالثة) فيه استحباب تحية المسجد للداخل يوم الجمعة والإمام يخطب وهو مذهب الشافعي وأحمد ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن الحسن البصري وحكاه ابن المنذر عن مكحول [ ص: 183 ] وسفيان بن عيينة والمقرئ يعني أبا عبد الرحمن والحميدي وإسحاق وأبي ثور وطائفة من أهل الحديث وقال به محمد بن الحسن وأبو القاسم السيوري عن مالك وحكاه ابن حزم عن جمهور أصحاب الحديث وذهب آخرون إلى أنه لا يفعلها وهو قول مالك وأبي حنيفة وسفيان الثوري ورواه ابن أبي شيبة عن علي وابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير ومحمد بن سيرين وشريح القاضي والزهري وعن ثعلبة بن أبي مالك القرطبي قال أدركت عمر وعثمان فكان الإمام إذا خرج يوم الجمعة تركنا الصلاة ، وبين والدي رحمه الله في شرح الترمذي أن الأثر عن علي لم يصح وأنه هو والمذكورين بعده ليس كلامهم صريحا في ترك التحية والظاهر أن مرادهم ترك الصلاة لمن هو في المسجد وحكى ابن المنذر ترك التحية في هذه الحالة عن عطاء بن أبي رباح وشريح والنخعي وقتادة والليث والثوري وسعيد بن عبد العزيز ثم إن القائلين بأنه لا يصلي التحية في هذه الحالة اقتصر أكثرهم على الكراهة وبه جزم ابن قدامة في المغني ناقلا له عن مالك والليث وأبي حنيفة وطائفة من السلف وقال القاضي أبو بكر بن العربي الجمهور على أنه لا يفعل وهو الصحيح أن الصلاة حرام إذا شرع الإمام في الخطبة قال والدليل من ثلاثة أوجه وسنحكيها عنه بعد ذلك وذهب أبو مجلز لاحق بن حميد إلا أنه مخير بين فعل التحية وتركها فقال إن شئت ركعت ركعتين وإن شئت جلست رواه ابن أبي شيبة في مصنفه فهذه أربعة مذاهب الاستحباب والكراهة والتحريم والتخيير .

                                                            (الرابعة) القائلون بسقوط التحية في هذه الصورة محتاجون إلى الجواب عن هذا الحديث وقد أجابوا عنه بأجوبة قال ابن العربي بعد أن استدل على التحريم بثلاثة أدلة :

                                                            (أحدها) قوله تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له قال فكيف يترك الفرض الذي شرع الإمام فيه إذا دخل عليه فيه ويشتغل بغير فرض .

                                                            (الثاني) قال صح عنه من كل طريق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب أنصت فقد لغوت فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأصلان المفروضان [ ص: 184 ] الركنان في المسألة يحرمان في حالة الخطبة فالنفل أولى أن يحرم .

                                                            (الثالث) قال لو دخل والإمام في الصلاة لم يركع ، والخطبة صلاة إذ يحرم فيه من الكلام والعمل ما يحرم في الصلاة قال فأما حديث سليك فلا تعارض به هذه الأصول من أربعة أوجه : (أحدها) أنه خبر واحد تعارضه أخبار أقوى منه وأصول من القرآن والشريعة فوجب تركه .

                                                            (الثاني) أنه يحتمل أن يكون في وقت كان الكلام مباحا في الصلاة لأنه لا يعلم تاريخه فكان مباحا في الخطبة فلما حرم في الخطبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو آكد فريضة من الاستماع فأولى أن يحرم ما ليس بفرض .

                                                            (الثالث) أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم سليكا وقال له قم فصل فلما كلمه وأمره سقط عنه فرض الاستماع إذا لم يكن هنالك قول ذلك الوقت منه صلى الله عليه وسلم إلا مخاطبته له وسؤاله وأمره وهذا أقوى في الباب .

                                                            (الرابع) أن سليكا كان ذا بذة وفقر فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشهره ليرى فيغير منه قال وأما فعل الحسن فيحتمل أنه خطب الإمام بما لا يجوز فبادر الحسن إلى الصلاة قال وقد رأينا الزهاد بمدينة السلام والكوفة إذا بلغ الإمام إلى الدعاء لأهل الدنيا قاموا فصلوا ورأيتهم أيضا يتكلمون مع جلسائهم فيما يحتاجون إليه من أمورهم أو في علم ولا يصغون إليهم حينئذ فالاشتغال بالطاعة عنهم واجب انتهى قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي وليس فيما احتج به من الأوجه السبعة حجة له .

                                                            (الأول) احتجاجه بالآية ولا حجة فيها لوجوه :

                                                            (أحدها) أن المتكلم سرا منصت بل ورد وصفه في الحديث الصحيح بأنه ساكت وذلك في حديث أبي هريرة إذ سئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه فقال أقول اللهم فذكر الحديث فسماه ساكتا لكونه مسرا .

                                                            (الثاني) أن الخطيب ليس بقارئ للقرآن إلا في الآية التي اختلف في وجوبها في الخطبة وعلى تقدير كونه يأتي بالتحية في حالة قراءة الخطيب الآية مع القول بوجوبها فإنما يجب الإنصات على العدد الذين تنعقد بهم الجمعة على الخلاف المعروف في ذلك وعلى القول بوجوب الإنصات على الجمع فلا مانع من استماعه وإنصاته في حال قراءته سرا .

                                                            (الثالث) بتقدير حمل القرآن على جميع الخطبة فيجوز [ ص: 185 ] تخصيص الكتاب بالسنة على الصحيح الذي عليه جمهور الأصوليين .

                                                            (الوجه الثاني) استدل له بحديث إذا قلت لصاحبك الحديث فإنما ذلك في المتكلم بحيث يسمعه غيره لأن به يحصل التشويش على السامعين والمتكلم سرا كالداعي سرا فهو منصت بل ساكت كما تقدم وبتقدير كونه غير مستمع وغير منصت فحديث الباب مخصص لذلك الحديث .

                                                            (الوجه الثالث) أنه لو دخل والإمام في الصلاة لم يركع والخطبة صلاة مردود من أوجه :

                                                            (أحدها) أنه إذا دخل والإمام في الصلاة أجزأه ذلك عن التحية لأن المقصود شغل البقعة بالصلاة وقد حصل صرح به أصحابنا .

                                                            (الثاني) ما بين الصلاة والخطبة من الفرق وقد فرق بينهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة وأمر الداخل والإمام يخطب بصلاة التحية فلا يجمع بين ما فرق بينهما صاحب الشرع وليست الخطبة بصلاة حقيقة إجماعا ونهاية ما قيل إن الخطبتين بدل عن الركعتين على قول (والثالث) أنه لا يحرم فيها ما يحرم في الصلاة من الكلام والعمل كما زعم فإنه يجوز أن يتكلم الخطيب في أثنائها بأمر أجنبي عنها وينزل عن المنبر ويمشي ويشرب ويأكل اليسير الذي لا يحصل به التفريق وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي رفاعة قال انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقال يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه فأقبل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك الخطبة حتى انتهى فأتي بكرسي خلت قوائمه حديدا فقعد عليه وجعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم آخرها فإن قال فلعل ما علمه للأعرابي مما يصلح أن يؤتى به من الخطبة قلنا نعم يجوز لكن لا تجوز المخاطبة بالتعليم في الصلاة ولا النزول والمشي والصعود على كرسي آخر مع توالي ذلك فهو فعل كثير وجوز كثير من العلماء الخطبة محدثا ولا كذلك الصلاة إجماعا بل جوز أحمد أن يخطب جنبا ثم يغتسل ويصلي بهم والصلاة يشترط فيها استقبال القبلة والخطبة يشترط فيها استدبارها فكيف يستويان .

                                                            (الرابع) قوله إن هذا خبر واحد عارضه أقوى منه جوابه أن الكل أخبار آحاد ولا نسلم أن الذي يعارضه أقوى منه فقد قال الشافعي في رواية حرملة إن هذا الحديث ثابت غاية الثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الترمذي إنه أصح شيء [ ص: 186 ] في هذا الباب ولو كان أقوى منه لم يترك بل يجمع بينهما كما تقدم .

                                                            (الخامس) قوله إنه يحتمل أن الكلام في الصلاة كان في ذلك الوقت مباحا لأنه لا يعلم تاريخه فكان مباحا في الخطبة جوابه أن سليكا لم ينقل تقدم إسلامه ولا يعرف له ذكر إلا في هذا والظاهر أن إسلامه متأخر مع قبيلته غطفان ولو قدر تقدم إسلامه فالجمعة إنما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة اتفاقا وتحريم الكلام في الصلاة كان بمكة حين قدم ابن مسعود من الهجرة بمكة وحديثه في الصحيحين وفيه فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا قلنا يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فقال إن في الصلاة شغلا وفي رواية أبي داود والنسائي فلما قضى الصلاة قال إن الله عز وجل يحدث من أمره ما يشاء وإن الله قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة وابن مسعود إنما هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى باتفاق السير ورجعوا وهو بمكة قال ابن حبان في صحيحه كان رجوع ابن مسعود من عند النجاشي قبل الهجرة بثلاث سنين .

                                                            (السادس) قوله إنه عليه الصلاة والسلام لما كلم سليكا وقال له قم فصل سقط عنه فرض الاستماع كلام عجيب أليس الذي أمر سليكا بالصلاة أمر جميع من دخل والإمام يخطب بذلك بقوله في بقية الحديث إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليركع ركعتين فما الذي خصص سليكا بهذا الحكم ؟ فإن قال سكت له عن الخطبة حتى فرغ من صلاته قلنا هذا لا يصح كما ذكره الدارقطني وغيره ولو كان المسوغ للصلاة إمساكه عن الخطبة لقال إذا جاء أحدكم إلى الصلاة فليمسك له الخطيب عن الخطبة حتى يركع وقد روى أبو سعيد الخدري أن رجلا جاء يوم الجمعة في هيئة بذة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فأمره فصلى ركعتين والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب رواه الترمذي وقال حسن صحيح .

                                                            (السابع) أن قوله كان سليكا ذا بذة وفقر فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشهره ليرى فيغير منه جوابه أنه لو كانت العلة ذلك لقال إذا جاء أحدكم وهو ذو بذة فليقم فليركع حتى يتصدق عليه الناس بل ليس لذكر التحية فائدة بل كان يقول لهم : إذا رأيتم ذا بذة فتصدقوا عليه قال والدي وأما جوابه عن صلاة الحسن البصري باحتمال أن الإمام خطب بما لا يجوز وأن الزهاد بمدينة السلام والكوفة كانوا يقومون إذا بلغ الإمام للدعاء لأهل الدنيا فيصلون فمن أعجب الأمور ، فبالاحتمال البعيد [ ص: 187 ] يخرج الحسن عن كونه فعله اتباعا للحديث وقد قال الترمذي وإنما فعله الحسن اتباعا للحديث وقد روي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث قال والدي ورواه الحسن عن سليك كما عند الطبراني وأرسله في مصنف ابن أبي شيبة ومن أهل الدنيا الذين يدعى لهم على المنابر إنما يدعى للسلطان بالصلاح والتوفيق وعز الإسلام به وقد كان يدعى للأئمة في زمن عمر رضي الله عنه قال وأما فعل زهاد مدينة السلام والكوفة على رأيه فليسوا أهلا للاقتداء بهم خصوصا عند مخالفة الأحاديث الصحيحة وما رأينا من يفعل ذلك ببلاد مصر والشام إلا جهلة العوام فيترك أحدهم السنة عند إتيانه ويجلس يسمع فإذا كان في آخر الخطبة الثانية قام فصلى سنة الجمعة مع كونه منهيا عن صلاة السنة وغيرها في هذا الوقت هذا كله كلام والدي رحمه الله وقال أبو العباس القرطبي وقد تأول أصحابنا حديث جابر تأويلات في بعضها بعد وأولى معتمد المالكية في ترك العمل به أنه خبر واحد عارضه عمل أهل المدينة خلفا عن سلف من لدن الصحابة إلى زمن مالك رحمه الله فيكون العمل بهذا العمل أولى وهذا على أصل مالك وأما أبو حنيفة فيرد العمل به على أصله في رد أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى قال والدي رحمه الله وما أدري ما عموم البلوى في ذلك ؟ قلت وأما عمل أهل المدينة إن كان لهم في ذلك عمل فإنما غير السنة فيه التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم بنو أمية فترك الناس ذلك مداراة لهم واستمروا عليه وفي الترمذي عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح أن أبا سعيد الخدري دخل يوم الجمعة ومروان يخطب فقام فصلى فجاء الحرس ليجلسوه فأبى حتى صلى فلما انصرف أتيناه فقلنا رحمك الله إن كادوا ليقعوا بك فقال ما كنت لأتركها بعد شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث المتقدم



                                                            (الخامسة) وفيه استحباب تحية المسجد مطلقا لأنها إذا لم يسقط استحبابها في هذه الحالة فغيرها من الأحوال أولى بذلك وفيه أنها لا تحصل بأقل من ركعتين وبه قال الجمهور من أصحابنا وغيرهم وقال بعض أصحابنا تحصل بركعة واحدة وبالصلاة على الجنازة وبسجود التلاوة والشكر لأن المقصود إكرام المسجد وهو حاصل بذلك وهذا ضعيف مخالف لظاهر الحديث .

                                                            (السادسة) وفيه استحباب تحقيقها في هذه [ ص: 188 ] الحالة وبه صرح أصحابنا وغيرهم .



                                                            (السابعة) يستثنى من استحباب تحية المسجد في هذه الحالة ما إذا دخل في آخر الخطبة بحيث لو اشتغل بها فاتته تكبيرة الإحرام فلا يفعلها وقد نص على ذلك الشافعي فقال في الأم إذا دخل والإمام في آخر الكلام ولا يمكنه صلاة ركعتين خفيفتين قبل دخول الإمام في الصلاة فلا عليه أن لا يصليهما قال وأرى للإمام أن يأمره بهما ويزيد في كلامه ما يمكنه إكمالهما فيه فإن لم يفعل كرهت ذلك له ولا شيء عليه انتهى وقوله فإن لم يفعل يحتمل أن يريد به الخطيب أي لم يأمر الداخل ولا زاد في كلامه ليتم الداخل الركعتين ويحتمل أن يريد به الداخل بأن أمره الخطيب بذلك فلم يفعل وقال النووي في شرح المهذب في هذه الصورة يقف حتى تقام الصلاة ولا يقعد لئلا يكون جالسا في المسجد قبل التحية هكذا فصله المحققون منهم صاحب الشامل .



                                                            (الثامنة) استثنى أصحابنا من استحباب الركعتين المسجد الحرام فقالوا إن تحيته الطواف فالداخل إليه يبدأ بالطواف قال المحاملي تكره تحية المسجد في حالين (أحدهما) إذا دخل والإمام في المكتوبة (والثاني) إذا دخل المسجد الحرام فلا يشتغل بها عن الطواف وقال النووي في شرح مسلم وأما المسجد الحرام فأول ما يدخله الحاج يبدأ بطواف القدوم فهو تحيته ويصلي بعده ركعتي الطواف انتهى وعبارة المحاملي تقتضي أن سائر مرات دخول المسجد الحرام في ذلك سواء وعبارة النووي تقتضي اختصاص ذلك بأول دخول الحاج وبطواف القدوم وحكى القاضي عياض وغيره عن مالك أنه رأى تقديم الطواف في مسجد مكة على التحية ومقتضاه أن التحية لم تسقط في هذه الصورة ولا قام غيرها مقامها وإنما قدم الطواف عليها ومقتضى ما ذكره المحاملي وغيره الاكتفاء بالطواف بمكة ولو كان الخطيب على المنبر فإنه لم يستثن هذه الحالة وقد يتوقف في ذلك ويقال الاشتغال بالتحية لا يطول زمنه وقد لا ينافي استعمال الخطبة بخلاف الطواف فيطول زمنه ويبعد عن الخطيب لدورانه من غير جهته فلا يسمع كلامه ولم أر لأحد من أصحابنا إفصاحا عن شيء من ذلك والله أعلم .



                                                            (التاسعة) استدل بالرواية التي فيها أمره بالتحية بعد قعوده على أنها لا تفوت بالجلوس [ ص: 189 ] إذا كان جاهلا بمشروعية التحية في هذه الحالة ولم يطل الفصل قال النووي في شرح المهذب أطلق أصحابنا فواتها بالجلوس وهو محمول على العالم بأنها سنة أما الجاهل فيتداركها على قرب لهذا الحديث .

                                                            (العاشرة) في معنى الجاهل الناسي فلو جلس ناسيا ولم يطل الفصل استحب له الإتيان بها كما صرح به من أصحابنا الشافعية أبو الفضل بن عبدان وقال النووي إنه المختار المتعين انتهى وأطلق أكثر أصحابنا فواتها بالجلوس وقضية سليك محتملة لهذا الأمر وللذي قبله يحتمل جلوسه الجهل بسنيتها والنسيان لها فالحديث دال على إحدى الحالتين نصا وعلى الأخرى قياسا والله أعلم .

                                                            (الحادية عشرة) قوله عليه الصلاة والسلام للداخل صليت يحتمل أن يريد أصليت حين دخلت المسجد أو صليت في بيتك قبل أن تجيء والظاهر أن المراد الأول بدليل قوله في رواية مسلم قم فصل الركعتين فدل على أن المراد الركعتان المعهودتان عند دخول المسجد وهما تحية المسجد وتحية المسجد إنما تفعل فيه لا في البيت لكن تقدم أن رواية ابن ماجه قبل أن تجيء وظاهره الاستفهام عن فعلها في البيت إلا أن يكون المراد قبل أن يجيء إلى قرب المنبر بأن يكون صلى في طرف المسجد أول دخوله وبتقدير أن يكون الاستفهام عن فعلها في البيت فهو حجة لما حكي عن الأوزاعي أن داخل المسجد والإمام يخطب إنما يركع الركعتين إذا لم يكن ركعهما في بيته حكاه صاحب المفهم وقد استدل بعضهم برواية ابن ماجه هذه على سنة الجمعة التي قبلها وفيه نظر من أوجه :

                                                            (أحدها) أن سنة الجمعة إنما يدخل وقتها بدخول وقت الجمعة وهو زوال الشمس على قول الجمهور وإنما كان يؤذن لها بين يديه عليه الصلاة والسلام إذا صعد المنبر فمتى تمكن سليك أن يصلي سنة الجمعة في بيته إلا أن يقال لعله تأخر زمنا يمكنه فيه ذلك بحيث لم يحضر إلا في أواخر الخطبة (ثانيها) أن الخلاف بين العلماء إنما هو في تحية المسجد فأما الرواتب فإنها لا تفعل بعد شروع الإمام في الخطبة بلا خلاف (ثالثها) أنه لم يتعين كونها سنة الجمعة بتقدير أنها ليست التحية فلعلها سنة الوضوء .



                                                            (الثانية عشرة) قال الخطابي فيه جواز الكلام في الخطبة لأمر يحدث وأن ذلك لا يفسد الخطبة قال وقال بعض الفقهاء إذا " [ ص: 190 ] تكلم أعاد الخطبة قال والسنة أولى ما اتبع .



                                                            (الثالثة عشرة) استدل به على أن تحية المسجد تفعل في أوقات النهي عن الصلاة لكونها ذات سبب فإنها لو تركت في حال لكانت هذه الحال أولى الأحوال بذلك لأنه مأمور فيه بالإنصات لاستماع الخطبة فلما ترك لها استماع الخطبة وقطع النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة لأجلها دل على تأكدها وأنها لا تترك في وقت من الأوقات إلا عند إقامة البينة وبهذا قال الشافعي وأحمد وكرهها في هذه الحالة أبو حنيفة والأوزاعي والليث وحكاه القرطبي عن الجمهور .



                                                            (الرابعة عشرة) مذهبنا أن إقامة الجمعة لا تختص بالمسجد بل تقام في خطة الأبنية فلو فعلوها في غير مسجد لم يصل الداخل إلى ذلك الموضع في حالة الخطبة إذ ليست له تحية فلا يترك استماع الخطبة لغير سبب وهذا الحديث محمول على الغالب من إقامة الجمعة في المساجد والله أعلم .



                                                            (الخامسة عشرة) استدل به على رد السلام وتشميت العاطس في حال الخطبة لأن أمرهما أخف وزمنهما أقصر من زمن التحية مع وجوب رد السلام وكون التحية نفلا وسيأتي إيضاح المسألة في الكلام على الحديث الذي بعده




                                                            الخدمات العلمية