الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد كصلاته على الميت (النبي) ، ثم انصرف إلى المنبر فقال إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإنى قد أعطيت مفاتيح الأرض وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ، ولكني أخاف أن تنافسوا فيها

                                                            [ ص: 294 ]

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 294 ] الحديث الخامس) وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ، ثم انصرف إلى المنبر فقال إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) اتفق عليه الشيخان وأبو داود والنسائي من هذا الوجه من رواية الليث بن سعد ورواية أبي داود والنسائي مختصرة وأخرجه البخاري وأبو داود أيضا من رواية حيوة بن شريح بلفظ صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات الحديث وفيه وإن موعدكم الحوض ، وفي آخره فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفظ أبي داود مختصر ورواه مسلم أيضا من رواية يحيى بن أيوب وفيه ، ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات وفيه وإن عرضه كما بين أيلة إلى الجحفة ، وفي آخره فتقتتلوا كما هلك من كان قبلكم قال عقبة فكانت آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ثلاثتهم عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة .

                                                            (الثانية) فيه الصلاة على الشهداء في حرب الكفار ، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والجمهور إلى أنه لا يصلى عليهم وذهب أبو حنيفة إلى الصلاة عليهم كغيرهم وبه قال المزني وهو رواية عن أحمد اختارها الخلال وحكاه ابن بطال عن الثوري والأوزاعي [ ص: 295 ] وعكرمة ومكحول وحجة الجمهور أنه عليه الصلاة والسلام لم يصل على قتلى أحد كما رواه البخاري في صحيحه عن جابر رضي الله عنه .

                                                            وأما هذه الصلاة ففيها جوابان :

                                                            (أحدهما) أن المراد بها الدعاء ، وليس المراد بها صلاة الجنازة المعهودة قال النووي : أي دعا لهم بدعاء صلاة الميت .

                                                            (والثاني) أنها مخصوصة بشهداء أحد فإنه لم يصل عليهم قبل دفنهم كما هو المعهود في صلاة الجنازة ، وإنما صلى عليهم في القبور بعد ثماني سنين والحنفية يمنعون الصلاة على القبر مطلقا والقائلون بالصلاة على القبر يقيدونه بمدة مخصوصة لعلها فائتة هنا ولو كانت الصلاة عليهم واجبة لما تركها في الأول .

                                                            ثم إن الشافعية اختلفوا في معنى قولهم لا يصلى على الشهيد فقال أكثرهم معناه تحريم الصلاة عليه وهو الصحيح عندهم وقال آخرون منهم معناه لا تجب الصلاة عليهم لكن تجوز وذكر ابن قدامة أن كلام أحمد في الرواية التي قال فيها يصلى عليهم يشير إلى أنها مستحبة غير واجبة قال ، في موضع إن صلى عليه فلا بأس وقال في موضع آخر يصلي عليه وأهل الحجاز لا يصلون عليه وما تضره الصلاة لا بأس به وصرح بذلك في رواية المروزي فقال الصلاة عليه أجود وإن لم يصلوا عليه أجزأ قال ابن قدامة فكأن الروايتين في استحباب الصلاة لا في وجوبها أحدهما تستحب انتهى .

                                                            وقال ابن حزم الظاهري : إن صلى على الشهيد فحسن وإن لم يصل عليه فحسن واستدل بحديثي جابر وعقبة وقال : ليس يجوز أن يترك أحد الأثرين المذكورين للآخر بل كلاهما حق مباح ، وليس هذا مكان نسخ ؛ لأن استعمالهما معا ممكن في أحوال مختلفة انتهى .

                                                            وقال ابن القاسم صاحب مالك : إنما لا يصلى على الشهيد فيما إذا كان المسلمون هم الذين غزوا الكفار فإن كان الكفار هم الذين غزوا المسلمين في بلادهم فيصلى على من قتل في تلك المعركة ومقتضى ذلك أن مذهبه الصلاة على شهداء أحد فإن الكفار هم الغازون للمسلمين بخلاف بدر والمشهور عندهم أنه لا فرق بين الحالتين كما هو مذهب الجمهور والله أعلم .

                                                            قال أصحابنا والمراد بالشهيد هنا من مات بسبب قتال الكفار حال قيام القتال سواء قتله كافر [ ص: 296 ] أو أصابه سلاح مسلم خطأ أو عاد إليه سلاحه أو سقط عن فرسه أو رمحته دابته أو وجد قتيلا عند انكشاف الحرب ولم يعلم سبب موته سواء كان عليه أثر دم أم لا ولذلك تفاريع مذكورة في كتب الفقه لا نطول بها .

                                                            وأما تغسيل الشهيد فنفاه الجمهور ومنهم أبو حنيفة وحكي عن سعيد بن المسيب والحسن البصري تغسيله قال ابن بطال وهو مخالف للآثار فلا وجه له .

                                                            (الثالثة) قال أهل اللغة الفرط بفتح الفاء والراء والفارط هو الذي يتقدم رواد الماء ليصلح لهم الحياض والدلاء ونحوها من أمور الاستسقاء فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام إني فرط لكم أي سابقكم إلى الحوض كالمهيئ له ولهذا قال في رواية البخاري وإن موعدكم الحوض ولهذا المعنى ذكره في هذه الرواية فقال إني والله لأنظر إلى حوضي الآن ، وفي هذا إشارة إلى قرب وفاته عليه الصلاة والسلام وتقدم أصحابه ولهذا قال في رواية الصحيحين كالمودع للأحياء والأموات وكان هذا قبل وفاته في السنة الحادية عشرة فإنه بعد ثماني سنين من وقعة أحد وكانت سنة ثلاث ولهذا قال عقبة فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية له تقييد ذلك بكونه على المنبر ويحتمل أن لا يكون قيدا بل حكاية للواقع ولعله أظهر والله أعلم .

                                                            (الرابعة) فيه إثبات حوض النبي صلى الله عليه وسلم وأنه حوض حقيقي على ظاهره مخلوق موجود اليوم وهو كذلك عند أهل السنة والجماعة لا يتأولونه ويجعلون الإيمان به فرضا وأحاديثه قد بلغت التواتر قال القاضي عياض بعد الإشارة إلى كثير منها ، وفي بعض هذا ما يقتضي كون الحديث متواترا ، وقد عرفت أنه في رواية مسلم وأن عرضه كما بين أيلة إلى الجحفة ، وفي رواية بين ناحيتيه كما بين جرباء وأذرح ، وفي رواية " عرضه مثل صوله ما بين عمان إلى المدينة " ، وفي رواية من مقامي إلى عمان وفي رواية قدر حوضي ما بين أيلة وصنعاء اليمن ، وفي رواية ما بين ناحيتي حوضي كما بين صنعاء والمدينة ، وفي رواية حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء وكل هذه الروايات في الصحيح قال القاضي عياض وهذا الاختلاف في قدر عرض الحوض ليس موجبا للاضطراب فإنه لم يأت في حديث واحد بل في أحاديث مختلفة الرواة عن جماعة من الصحابة سمعوها في مواطن مختلفة ضربها النبي صلى الله عليه وسلم في كل منها [ ص: 297 ] مثلا لبعد أقطار الحوض وسعته وقرب ذلك من الإفهام لبعد ما بين البلاد المذكورة لا على التقدير الموضوع للتحديد بل للإعلام بعظم بعد المسافة فبهذا تجتمع الروايات وقال النووي بعد حكايته ، وليس في القليل من هذه المسافات منع الكثير فالكثير ثابت على ظاهر الحديث ولا معارضة والله أعلم

                                                            . (الخامسة) قوله وأنا شهيد عليكم موافق لقوله تعالى وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ولقوله تعالى ويكون الرسول عليكم شهيدا وقد ذكر التفسير أنه عليه الصلاة والسلام يشهد على جميع الأمم من رآه ومن لم يره ، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث بأمرين كونه فرطا لهم يتقدمهم بعمل مصلحتهم وشهيدا عليهم يشهد بأعمالهم فكأنه باق معهم لم يتقدمهم بل يبقى بعدهم حتى يشهد بأعمال آخرهم فجمعها الله تعالى له ما بين هاتين الصفتين اللتين تتنافيان في حق غيره فهو عليه الصلاة والسلام قائم بأمرهم في الدارين في حالتي حياته وموته وروى أبو بكر البزار في مسنده بإسناد جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله عليه وما رأيت من شر استغفرت الله لكم

                                                            (السادسة) فيه الحلف من غير استحلاف بل لتفخيم الأمر وتوكيده .

                                                            (السابعة) قوله وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض هكذا هو في رواية المصنف رحمه الله وغيره من أصحاب الكتب وكأنه شك من بعض الرواة في اللفظ المقول وأشار إليه عليه الصلاة والسلام بذلك إلى ما فتح على أمته من الملك والخزائن وقوله وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي أي مجموعكم وإن كان قد يقع ذلك لبعضهم وقوله ، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها أي في خزائن الأرض المتقدم ذكرها ويحتمل أن يعود الضمير على الدنيا وإن لم يتقدم ذكرها صريحا ويدل لذلك قوله في رواية مسلم " ، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها " ، وفي هذا الحديث معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم فإن معناه الإخبار بأن أمته تملك خزائن الأرض ، وقد وقع ذلك وأنها لا ترتد جملة ، وقد عصمهم الله تعالى من ذلك وأنها تتنافس في الدنيا وتقتتل عليها ، وقد وقع ذلك عصمنا الله منه آمين




                                                            الخدمات العلمية