الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب الدفن في الأرض المقدسة عن همام عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ملك الموت إلى موسى صلى الله عليه وسلم فقال له أجب ربك قال فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها ، قال فرجع الملك إلى الله عز وجل فقال إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، وقد فقأ عيني ، قال فرد الله عز وجل إليه عينه وقال ارجع إلى عبدي فقل الحياة تريد ؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما توارت بيدك من شعرة فأنك تعيش بها سنة ؛ قال ، ثم مه ؟ قال تموت ، قال فالآن من قريب ، قال رب ادنني من الأرض المقدسة رمية بحجر وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر جمع الشيخان الحديثين في متن واحد .

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 298 ] عن همام عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ملك الموت إلى موسى صلى الله عليه وسلم فقال له أجب ربك قال فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها قال فرجع الملك إلى الله عز وجل فقال إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، وقد فقأ عيني قال فرد الله عز وجل إليه عينيه وقال ارجع إلى عبدي فقل الحياة تريد فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما توارت بيدك من شعرة فأنك تعيش بها سنة قال ، ثم مه ؟ قال تموت قال فالآن من قريب قال رب ادنني من الأرض المقدسة رمية بحجر وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر [ ص: 299 ] فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) أخرجه الشيخان من طريق عبد الرزاق بهذا الإسناد واتفق عليه الشيخان أيضا والنسائي من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة وفي هذه الرواية الثانية تحت الكثيب الأحمر ، وقد جمع هؤلاء الأئمة بين هذين الحديثين في متن واحد وهما في مسند أحمد حديثين كما ترى ، وقد ظهر بذلك أن لمعمر فيه إسنادين .

                                                            (الثانية) قال المازري : هذا الحديث مما تطعن به الملحدة وتتلاعب بنقله الآثار لسببه وتقول كيف يجوز على نبي مثل موسى أن يفقأ عين ملك وكيف تفقأ عين الملك ولعله لما جاء عيسى أذهب عينه الأخرى فعمي ولأصحابنا عن هذا ثلاثة أجوبة قال بعضهم : إن الملك يتصور في أي الصور شاء مما يقدره الله عز وجل عليها ، وقد قال الله سبحانه وتعالى فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا وقيل إنه تمثل لها في صورة رجل يسمى تقيا ولهذا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا وقد تمثل جبريل عليه السلام بصورة دحية وقال أصحاب هذه الطريقة إن هذه الصورة قد تكون تخيلا فيكون موسى عليه السلام فقأ عينا مخيلة لا عينا حقيقية وهذا الجواب عندي لا يقنعهم ويقولون : إنه علم أنه ملك وأن ذلك تخيل فكيف يصكه ويقابله بهذه المقابلة وهذا لا يليق بالنبيين (وقال آخرون من أصحابنا) الحديث فيه تجوز إذا حمل عليه اندفع طعن الملحدة ومحمله أن موسى عليه السلام حاجه وأوضح الحجة لديه يقال فقأ عين فلان إذا غلبه بالحجة ويقال عورت هذا الأمر إذا أدخلت نقصا فيه وهذا قد يبعد من ظاهر اللفظ لقوله فرد الله إليه عينيه فإن قالوا فرد الله إليه حجته كان كذلك بعيدا عن مقتضى سياق الكلام (وجواب ثالث) مال إليه بعض أئمتنا من المتكلمين وهو مثل ما قالوه فيه وهو أنه لا يبعد أن يكون موسى عليه الصلاة والسلام أذن الله له في هذه اللطمة محنة للملطوم وهو سبحانه يتعبد خلقه بما شاء ولا أحد من عباده يمنعه فضيلته من أن يتصرف فيه بما شاء (ويظهر لي جواب رابع) وهو أن يكون موسى عليه السلام لم يعلم أنه ملك من قبل الله عز وجل وظن أنه رجل أتاه يريد نفسه فدافعه عنها مدافعة أدت إلى فقء عينه وهذا سائغ في شريعتنا أن يدافع الإنسان عن نفسه من أراد قتله وإن أدى إلى قتل الطالب [ ص: 300 ] له فضلا عن فقء عينه ، وفي الصحيح إباحته عليه الصلاة والسلام فقء عين من اطلع على قوم بغير ، إذنهم ، وإنما يبقى على هذا الجواب أن يقال فقد رجع إليه ثانية واستسلم له موسى فدل على معرفته به قلنا قد يكون أتاه في الثانية بعلامة علم بها أنه ملك الموت وأنه قال من قبل الله فاستسلم لأمر الله وأحسن ما اعتمد عليه في هذه المسألة هذا الجواب الذي ظهر لنا والجواب الثالث الذي ذكرناه عن بعض أئمتنا وعندي أن جوابنا أرجح منه ا هـ كلام المازري قال القاضي عياض قال بعض الشيوخ ليس في لطم موسى لملك الموت ما يعظم ويشنع ، وليس ذلك بأعظم من أخذه برأس أخيه ولحيته وجره إياه وهو نبي مكرم كما ذلك ملك معظم والنبي عند المحققين أفضل من الملك وموسى فاعل باجتهاده في ذات الله ما رآه من جر هذا إليه ودفع ذلك عنه وأما فقؤه عينه فلم يتعمد ذلك لكن لما لطمه حدث بقدرة الله عند ذلك فقء عينه فهو الفعال لما يريد قال والوجه الذي ذكره المازري أنه ظهر له وحسنه هو حسن وهو تأويل أبي بكر بن خزيمة وغيره من المتقدمين ا هـ وقال أبو العباس القرطبي ظهر لي وجه حسن يحسم مادة الإشكال وهو أن موسى عليه السلام عرف ملك الموت فلطمه فانفقأت عينه امتحانا وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجازم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير وعند موسى ما قد نص عليه نبينا صلى الله عليه وسلم من أن الله تعالى لا يقبض روح نبي حتى يخيره فلما جاءه على غير الوجه الذي أعلم به بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدب ملك الموت فلطمه فانفقأت عينه امتحانا لملك الموت ، إذ لم يصرح له بالتخيير ومما يدل على صحة هذا أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم هذا الوجه إن شاء الله أصح ما قيل فيه وأسلم ا هـ وقال القرطبي أيضا في الوجه المتقدم عن ابن خزيمة والمازري هو وجه حسن غير أنه اعترض بباقي الحديث وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله قال يا رب أرسلتني إلي عبد لا يريد الموت فلو لم يعرفه موسى ، وإنما دافعه عن نفسه لما صدق هذا القول من ملك الموت ا هـ . فإن قلت إذا كان أجل موسى عليه السلام قد حضر فكيف تأخر مدة هذه المراجعة وإن كان لم يحضر فكيف جاء الملك ليقبض روحه قبل حضوره ، وقد قال الله تعالى [ ص: 301 ] فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قلت لم يكن أجل موسى قد حضر ولم يبعث إليه ملك الموت ليقبض روحه ، وإنما بعث إليه اختبارا وابتلاء كما أمر الله تعالى خليله إبراهيم بذبح ابنه ولم يرد عز وجل إمضاء الفعل ففداه بذبح عظيم ولو أراد الله تعالى قبض روح موسى حين لطم ملك الموت لكان ما أراد قال الله تعالى : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون وقد أجاب بما ذكرته الإمام أبو بكر بن خزيمة وهو حسن .

                                                            (الثالثة) متن الثور بالتاء المثناة ظهره وقوله فيما توارت أي تغطت وقوله ، ثم مه هي ما الاستفهامية دخلت عليها هاء السكت للوقف عليها وهي لغة العرب إذا وقفوا على أسماء الاستفهام فإذا وصلوا حذفوها وقوله فالآن ظرف زمان غير متمكن مبني على الفتح وهو اسم لزمان الحال التي يكون المتكلم عليها وهو الزمان الفاصل بين الماضي والمستقبل .

                                                            (الرابعة) في هذه الجملة ما يدل على أن موسى عليه السلام لما خيره بين الحياة والموت اختار الموت طلبا للقاء الله تعالى واستعجالا لما له عنده من الثواب والخير واستراحة من أكدار الدنيا وهذا كما أن نبينا عليه الصلاة والسلام لما خير عند موته قال اللهم الرفيق الأعلى فكذلك سائر الأنبياء . عليهم الصلاة والسلام



                                                            (الخامسة) قوله رب ادنني من الأرض المقدسة رمية بحجر أي مقدار رمية فهو منصوب على أنه ظرف مكان والأرض المقدسة هي بيت المقدس وقال المهلب إنما سأل ذلك ليقرب عليه المشي إلى المحشر وتسقط عنه المشقة الحاصلة لمن بعد عنه وقال غيره إنما سأل ذلك لفضل من دفن في الأرض المقدسة من الأنبياء والأولياء فأحب مجاورتهم في الممات كما يستحب مجاورتهم في الحياة ولشرف البقعة وفضلها قال القاضي عياض وهذا أظهر قلت ، وقد خطر لي في ذلك وجه لم أر من ذكره وهو أن موسى عليه السلام إنما سأل الإدناء من الأرض المقدسة مسارعة لامتثال أمر الله تعالى في قتال الجبارين الذين كانوا ببيت المقدس فأمر النبي بني إسرائيل بالدخول عليهم فعصوا فعوقبوا بالتيه أربعين سنة وهذا بناء على أن موسى عليه السلام مات في التيه قبل فتح الأرض المقدسة وكان فتحها على يد يوشع [ ص: 302 ] عليه السلام وهو أحد القولين والقول الآخر أنه كان فتحها على يد موسى عليه السلام والخلاف في ذلك معروف والله أعلم .

                                                            (السادسة) حكى ابن بطال عن بعضهم أن معنى بعده منها رمية بحجر ليعمى قبره لئلا يعبده جهال أهل ملته ويقصدونه بالتعظيم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن اليهود تفعل ذلك بقوله لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا انتهى : قلت هذا الكلام مقتضاه أن موسى عليه السلام سأل الإدناء من الأرض المقدسة حتى يكون بينه وبينها رمية بحجر ولا يدخلها والذي يقتضيه الحديث أنه سأل تقريبه من المكان الذي هو فيه إلى جهة بيت المقدس بمقدار رمية بحجر وما ندري ما يبقى بعد ذلك بينه وبين الأرض المقدسة فقد تكون المسافة بعيدة ، وقد تكون قريبة وإذا طلب التقريب من بيت المقدس بمقدار رمية بحجر فتقريبه إليها بأكثر من ذلك أبلغ في مقصوده بل اتصاله إلى نفس الأرض المقدسة أبلغ وأعظم وما كان موسى عليه السلام في الأرض المقدسة فطلب البعد منها ، وإنما كان بعيدا منها فطلب القرب منها وذكر ابن حبان في صحيحه أن قبر موسى عليه السلام بمدين بين المدينة وبيت المقدس واعترض عليه الحافظ ضياء الدين المقدسي وقال فيه نظر واستدل بهذا الحديث قال ومدين ليست قريبة من بيت المقدس ولا من الأرض المقدسة ، وقد اشتهر أن قبرا قريبا من أريحاء وهي من الأرض المقدسة يزار ويقال إنه قبر موسى وعنده كثيب أحمر وطريق ، وقد حدثنا عنه غير واحد ممن زاره انتهى .

                                                            (السابعة) إنما سأل موسى عليه الصلاة والسلام التقريب من الأرض المقدسة ؛ لأنه لا يمكن نقله إليها بعد وفاته فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما يدفنون في البقعة التي ماتوا فيها بخلاف غيرهم فإنهم ينقلون من بيوتهم التي ماتوا فيها إلى مدافنهم ومقابرهم كما هي عادة الناس ، وإنما يمتنع نقل الميت إلى بلد واختلف أصحابنا الشافعية في حكمه فنقل الماوردي في الحاوي عن الشافعي أنه قال إني لا أحبه ، وقال أبو نصر البندنيجي والبغوي في التهذيب يكره نقله .

                                                            وقال القاضي حسين [ ص: 303 ] وأبو الفرج الدارمي والمتولي في والتتمة يحرم نقله قال النووي وهذا أصح فإن في نقله تأخير دفنه وتعريضه لهتك حرمته من وجوه ومحل هذا الخلاف ما إذا لم يكن بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس فيختار أن ينقل إليها لفضل الدفن فيها ، نص عليه الشافعي رحمه الله وهذا الحديث يدل له لما دل عليه من طلب القرب من الأرض المقدسة للدفن بها لكن لما كان الأنبياء عليهم السلام لا ينقلون بعد وفاتهم طلب القرب في حياته ولما لم يمتنع نقل غيرهم بعد الوفاة استحب النقل مع قرب المسافة لطلب هذا الفضل ، وقد ورد حديث في فضل الموت ببيت المقدس رواه البزار في مسنده عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من مات في بيت المقدس فكأنما مات في السماء وإسناده ضعيف والله أعلم .

                                                            (الثامنة) الكثيب بالثاء المثلثة قطعة من الرمل مستطيلة محدودبة سمي بذلك ؛ لأنه انصب في مكان فاجتمع فيه وفيه استحباب معرفة قبور الصالحين لزيارتها والقيام بحقها ، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لقبر السيد موسى عليه السلام علامة موجودة في قبر مشهور عند الناس الآن بأنه قبره والظاهر أن الموضع المذكور هو الذي أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد دل على ذلك حكايات ومنامات وقال الحافظ الضياء حدثني الشيخ سالم التل قال : ما رأيت استحبابه الدعاء أسرع منها عند هذا القبر ، وحدثني الشيخ عبد الله بن يونس المعروف بالأرمني أنه زار هذا القبر وأنه نام فرأى في منامه قبة عنده وفيها شخص أسمر فسلم عليه وقال له أنت موسى كليم الله أو قال نبي الله فقال نعم فقلت قل لي شيئا فأومى إلي بأربع أصابع ووصف طولهن فانتبهت فلم أدر ما قال ، فأخبرت الشيخ ذيال بذلك فقال : يولد لك أربعة أولاد فقلت أنا قد تزوجت امرأة فلم أقربها فقال : تكون غير هذه فتزوجت أخرى فولدت لي أربعة أولاد انتهى .

                                                            وليس في قبور الأنبياء ما هو محقق سوى قبر نبينا صلى الله عليه وسلم وأما قبر موسى فمظنون بالعلامة التي في الحديث وقبر إبراهيم الخليل ومن معه عليهم السلام أيضا مظنون بمنامات ونحوها .




                                                            الخدمات العلمية