الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن همام عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ ذكره البخاري تعليقا ووصله ابن ماجه وفي الصحيحين أن أبا هريرة سمعه من الفضل . زاد مسلم ولم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهذا إما منسوخ كما رجحه الخطابي أو مرجوح كما قاله الشافعي رحمه الله والبخاري بما في الصحيحين من حديث عائشة وأم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم ولمسلم من حديث عائشة (التصريح بأنه ليس من خصائصه)

                                                            وعنده أن أبا هريرة رجع عن ذلك حين بلغه حديث عائشة وأم سلمة .

                                                            التالي السابق


                                                            الحديث الخامس عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ ذكره البخاري تعليقا [ ص: 122 ] ووصله ابن ماجه وهو منسوخ أو مرجوح ، وقد رجع عنه أبو هريرة . (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) ذكره البخاري في صحيحه تعليقا فقال ، وقال همام بن عبد الله بن عمر عن أبي هريرة كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالفطر والأول أسند . ورواه النسائي في سننه الكبرى وابن ماجه في سننه من رواية سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة قال سمعت عبد الله بن عمر والقارئ قال سمعت أبا هريرة يقول (لا ورب هذا البيت ما أنا قلت من أدركه الصبح وهو جنب فلا يصم محمد ورب الكعبة قاله) لفظ النسائي ولفظ ابن ماجه بمعناه .

                                                            ورواه النسائي في الكبرى أيضا من رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عمر (أنه احتلم ليلا في رمضان فاستيقظ قبل أن يطلع الفجر ثم نام قبل أن يغتسل فلم يستيقظ حتى أصبح قال فلقيت أبا هريرة حين أصبحت فاستفتيته في ذلك فقال أفطر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالفطر إذا أصبح الرجل جنبا قال عبد الله بن عبد الله فجئت عبد الله بن عمر فذكرت له الذي أفتاني به أبو هريرة فقال أقسم بالله لئن أفطرت لأوجعن متنيك صم فإن بدا لك أن تصوم يوما آخر فافعل) . ثم رواه النسائي أيضا من رواية عقيل عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر [ ص: 123 ] فذكر مثله . قال ابن عبد البر : اختلف عن ابن شهاب في اسم ابن عبد الله بن عمر فلم يسمه

                                                            وقول البخاري والأول أسند أشار به إلى ما رواه قبله عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم وأن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ذكر ذلك لمروان بن الحكم فقال له مروان أقسم بالله لتقرعن بها أبا هريرة فذكر له عبد الرحمن قول عائشة وأم سلمة فقال كذلك حدثني الفضل بن عباس وهو أعلم " . وأخرجه مسلم أيضا وفي روايته فقال أبو هريرة أهما قالتاه لك ؟ قال نعم قال هما أعلم ، ثم رد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن العباس فقال سمعت ذلك من الفضل ولم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك الحديث . وفي سنن النسائي الكبرى أن أبا هريرة قال هي يعني عائشة أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منا إنما كان أسامة بن زيد حدثني بذلك

                                                            وفي صحيح مسلم وغيره من رواية أبي يونس مولى عائشة عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتيه وهي تسمع من وراء الباب فقال يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم فقال لست مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقاكم .

                                                            (الثانية) فيه نهي من أجنب ليلا واستمر جنبا فلم يغتسل حتى طلع الفجر عن الصوم وظاهره يقتضي أنه لا فرق بين أن يكون ذلك باختياره كالجماع أو بغير اختياره لاحتلام ولا بين صوم رمضان وغيره ، وقد كان يذهب إلى هذا المذهب أبو هريرة رضي الله عنه ويقول إنه لو صام لم يصح صومه هذا هو الأشهر عنه عند أهل العلم كما قاله ابن المنذر وحكى النووي في شرح المهذب أن ابن المنذر حكاه عن سالم بن عبد الله بن عمر ، والذي حكاه ابن المنذر عنه ما سأحكيه عنه بعد ذلك . قال النووي في شرح مسلم وحكي عن الحسن بن صالح بن حي وفيه (قول ثان) أنه إن علم بجنابته ثم نام حتى أصبح من غير اغتسال فهو مفطر وإن لم يعلم حتى أصبح فهو صائم قال ابن المنذر روي ذلك عن أبي هريرة أيضا وطاوس وعروة بن الزبير . قال ابن عبد البر [ ص: 124 ] والنووي في شرح مسلم وحكي عن إبراهيم النخعي وفيه قول (ثالث) أنه يتم صومه ويقضيه حكاه ابن المنذر عن سالم بن عبد الله بن عمر والحسن البصري في قول ، وذكر النووي في شرح مسلم أنه حكي أيضا عن الحسن بن صالح بن حي وفيه قول (رابع) أنه يجزئه في التطوع ويقضي في الفرض حكاه ابن المنذر عن إبراهيم النخعي وحكاه النووي في شرح مسلم عن الحسن البصري وفيه قول (خامس) وهو صحة صومه مطلقا ولا قضاء عليه سواء في ذلك رمضان وغيره وسواء علم بجنابته أم لا وهذا قول الجمهور حكاه ابن المنذر عن ابن عمر وعائشة ومالك والثوري والشافعي وأحمد وأبي ثور وأصحاب الرأي قال ، وروي ذلك عن علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي الدرداء وأبي ذر وابن عباس .

                                                            وقال العبدري هو قول سائر الفقهاء ، وقال النووي في شرح مسلم بعد حكاية الأقوال الأربعة الأولى ثم ارتفع هذا الخلاف ، وأجمع العلماء بعد هذا على صحته وبه قال جماهير الصحابة والتابعين والصحيح أن أبا هريرة رجع عن القول الأول كما صرح به في صحيح مسلم وقيل لم يرجع عنه وليس بشيء قال وفي صحة الإجماع بعد الخلاف خلاف مشهور لأهل الأصول قال وحديث عائشة وأم سلمة حجة على كل مخالف والله أعلم .

                                                            وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة صار ذلك إجماعا أو كالإجماع .

                                                            (الثالثة) أجاب الجمهور عنه بأجوبة :

                                                            (أحدها) أنه منسوخ بحديث عائشة وأم سلمة وغيرهما قال الخطابي أحسن ما سمعت في تأويل ما رواه أبو هريرة في هذا أن يكون محمولا على النسخ وذلك أن الجماع كان في أول الإسلام محرما على الصائم في الليل بعد النوم كالطعام والشراب فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم ذلك اليوم لارتفاع الحظر المتقدم فيكون تأويل قوله من أصبح جنبا فلا يصم أي من جامع في الصوم بعد النوم فلا يجزئه صوم غده ؛ لأنه لا يصبح جنبا إلا وله أن يطأ قبل الفجر بطرفة عين فكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل على الأمر الأول ولم يعلم بالنسخ فلما سمع خبر عائشة وأم سلمة رجع إليه ، وقد روي عن ابن المسيب أنه قال رجع أبو هريرة عن فتياه فيمن أصبح جنبا أنه لا يصوم انتهى وحكى البيهقي مثل ذلك عن أبي بكر بن المنذر فقال روينا عن أبي بكر بن المنذر أنه قال أحسن ما سمعت في هذا [ ص: 125 ] أن يكون محمولا على النسخ ، وذكر مثل ما تقدم عن الخطابي ، وقال إمام الحرمين في النهاية قال العلماء الوجه حمل الحديث على أنه منسوخ .

                                                            (ثانيها) أنه مرجوح قد عارضه ما هو أصح منه فيقدم عليه ذهب إلى هذا البخاري فقال كما تقدم عنه في الفائدة الأولى والأول أسند وذهب إليه الشافعي رضي الله عنه فقال فأخذنا بحديث عائشة وأم سلمة زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم دون ما روى أبو هريرة عن رجل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعان :

                                                            (منها) أنهما زوجتاه وزوجتاه أعلم بهذا من رجل إنما يعرفه سماعا أو خبرا .

                                                            (ومنها) أن عائشة مقدمة في الحفظ وأن أم سلمة حافظة ورواية اثنين أكثر من رواية واحد .

                                                            (ومنها) أن الذي روتا عن النبي صلى الله عليه وسلم المعروف في المعقول والأشبه بالسنن حكاه عنه البيهقي في المعرفة قال وبسط الكلام في شرح هذا ، ومعناه أن الغسل شيء وجب بالجماع وليس في فعله شيء محرم على صائم ، وقد يحتلم بالنهار فيجب عليه الغسل ويتم صومه ؛ لأنه لم يجامع في نهار ، وجعله شبيها بالمحرم ينهى عن الطيب ثم يتطيب حلالا ثم يحرم وعليه لونه وريحه ؛ لأن نفس التطيب كان وهو مباح ، وقال في حديث أبي هريرة ، وقد يسمع الرجل سائلا يسأل عن رجل جامع بليل فأقام مجامعا بعد الفجر شيئا فأمر بأن يقضي (فإن قال) فكيف إذا أمكن هذا على محدث ثقة ثبت حديثه ولزمت به حجة ، قيل كما يلزم بشهادة الشاهدين الحكم في المال والدم ما لم يخالفهما غيرهما ، وقد يمكن عليهما الغلط والكذب ولو شهد غيرهما بضد شهادتهما لم تسمع شهادتهما كما تسمع إذا انفرد ، وبسط الكلام في شرح هذا انتهى .

                                                            ومن العجيب إهمال النووي في شرح المهذب هذا الجواب مع كونه جواب صاحب مذهبه الذي هو مقلده .



                                                            (ثالثها) أنه محمول على من طلع عليه الفجر وهو مجامع فاستدام مع علمه بالفجر حكاه النووي في شرح المهذب وتقدم في كلام الشافعي رضي الله عنه الإشارة إليه ، وذكره الخطابي ، وقال يكون معناه من أصبح مجامعا والشيء يسمى باسم غيره إذا كان مآله في العاقبة إليه .

                                                            (رابعا) إنه إرشاد إلى الأفضل فالأفضل أن يغتسل قبل الفجر فلو خالف جاز قال النووي في شرح مسلم : وهذا مذهب أصحابنا وجوابهم عن هذا الحديث ، ثم قال (فإن قيل) كيف يقولون الاغتسال قبل الفجر أفضل ، وقد ثبت عن النبي [ ص: 126 ] صلى الله عليه وسلم خلافه (فالجواب) أنه عليه الصلاة والسلام فعله لبيان الجواز ويكون في حقه حينئذ أفضل ؛ لأنه يتضمن البيان للناس وهو مأمور بالبيان وهذا كما توضأ مرة مرة في بعض الأوقات بيانا للجواز ، ومعلوم أن الثلاث أفضل وهو الذي واظب عليه وتظاهرت به الأحاديث وطاف على البعير لبيان الجواز ومعلوم أن الطواف ماشيا أفضل وهو الذي تكرر منه عليه الصلاة والسلام ونظائره كثيرة انتهى .



                                                            (الرابعة) قال النووي في شرح المهذب قال الماوردي وغيره : أجمعت الأمة على أن من احتلم في الليل وأمكنه الاغتسال قبل الفجر ولم يغتسل وأصبح جنبا بالاحتلام أو احتلم بالنهار فصومه صحيح ، وإنما الخلاف في صوم الجنب بالإجماع انتهى .

                                                            وعبارة الشافعي رحمه الله في الفائدة قبلها قد توافقه في الصورتين لتصويره المسألة بالجماع ولقياسه على الاحتلام بالنهار وهذا يدل على أن حديث أبي هريرة متروك الظاهر إجماعا قديما قبل إجماع المتأخرين وأنه لم يقل أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين به في جميع صوره لكن فتوى أبي هريرة لولد عبد الله بن عمر صريحة في أنه لم يخص فتواه بالجماع بل طرده في الاحتلام أيضا ، وكلام ابن المنذر في نقل المذاهب يوافق ذلك أيضا فإنه حكى قولا مفصلا بين أن يعلم بجنابته ثم ينام قبل الصبح أم لا ، وقد تقدمت حكايته وذلك صريح في إدخال صورة الاحتلام في موضع الخلاف والله أعلم .



                                                            (الخامسة) في معنى من أصبح جنبا الحائض أو النفساء إذا انقطع دمها ليلا ثم طلع الفجر قبل اغتسالها فقال الجمهور بصحة صومها وخالف فيه بعضهم قال النووي في شرح مسلم هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة ، إلا ما حكي عن بعض السلف مما لا نعلم أصح عنه أم لا . قال وسواء تركت الغسل عمدا أو سهوا بعذر أو بغير عذر كالجنب (قلت) في حكاية النووي إجماع الكافة إلا ما لا يعلم صحته نظر ، ففي مذهب مالك في وجوب القضاء في هذه الصورة قولان حكاهما الشيخ تقي الدين في شرح العمدة وحكاه النووي في شرح المهذب عن الأوزاعي أنه لا يصح صوم منقطعة الحيض حتى تغتسل وحكى ابن عبد البر في الاستذكار عن عبد الملك بن الماجشون أنها إذا أخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر ؛ لأنها في بعضه غير طاهر [ ص: 127 ] وليست كالذي يصبح جنبا فيصوم ؛ لأن الاحتلام لا ينقض الصوم والحيض ينقضه ، وقال هذه غفلة شديدة وكيف تكون في بعضه حائضا ، وقد كمل طهرها قبل الفجر وحكى ابن عبد البر أيضا عن الحسن بن حي أنه رأى عليها قضاء ذلك اليوم ، وقد ظهر بذلك أن الخلاف في هذا أشهر والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية