الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب ليلة القدر عن سالم عن أبيه رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين أو كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى رؤياكم قد تواطأت فالتمسوها في العشر البواقي في الوتر منها وعن نافع عن ابن عمر أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر .

                                                            التالي السابق


                                                            باب ليلة القدر (الحديث الأول)

                                                            عن سالم عن أبيه رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين أو كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى رؤياكم قد تواطأت فالتمسوها في العشر البواقي في الوتر منها

                                                            الحديث الثاني وعن نافع عن ابن عمر أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أرى رؤياكم قد تواطأت [ ص: 148 ] في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر .

                                                            (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) حديث ابن عمر الأول أخرجه مسلم عن عمر والناقد وزهير بن حرب كلاهما عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه قال رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أري رؤياكم في العشر الأواخر فاطلبوها في الوتر منها ، وأخرجه البخاري أيضا من طريق عقيل بن خالد ، وأخرجه مسلم أيضا والنسائي من طريق يونس كلاهما عن الزهري عن سالم عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لليلة القدر إن ناسا منكم قد أروا أنها في السبع الأول وأري ناس منكم أنها في السبع الغوابر فالتمسوها في العشر الغوابر لفظ مسلم ولفظ البخاري عن ابن عمر لأن ناسا أروا ليلة القدر في السبع الأواخر وأن ناسا أروا أنها في العشر الأواخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم التمسوها في السبع الأواخر ويوافق الأول ما في صحيح مسلم أيضا عن جبلة بن سحيم عن ابن عمر مرفوعا من كان ملتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر وفيه أيضا عن جبلة ومحارب عن ابن عمر مرفوعا تحينوا ليلة القدر في العشر الأواخر أو قال في التسع الأواخر وحديث ابن عمر الثاني اتفق عليه الشيخان والنسائي من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر ، واعلم أن هذا هو الموجود عند أكثر رواة الموطإ كما ذكره ابن عبد البر ورواه يحيى بن يحيى الأندلسي عن مالك بلاغا من غير ذكر نافع ولا ابن عمر . قال ابن عبد البر وتابعه قوم قال وهو محفوظ معلوم من حديث نافع عن ابن عمر لمالك وغيره انتهى .

                                                            وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعا تحروا ليلة القدر في السبع الأواخر ، وروى البيهقي من طريق شعبة قال عبد الله بن دينار أخبرني قال سمعت ابن عمر يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر من كان متحريا فليتحرها ليلة سبع وعشرين . قال شعبة فذكر لي رجل ثقة عن سفيان [ ص: 149 ] أنه كان يقول إنما قال من كان متحريا فليتحرها في السبع البواقي فلا أدري ذا أم ذا . شك شعبة ثم قال البيهقي الصحيح رواية الجماعة دون رواية شعبة ، وروى مسلم عن عقبة بن حريث عن ابن عمر مرفوعا التمسوها في العشر الأواخر يعني ليلة القدر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي .

                                                            (الثانية) قوله أرى بفتح الهمزة الظاهر أنه بمعنى أعلم ويحتمل أنه من الرؤية البصرية مجازا ، وقوله رؤياكم أي في المنام والمشهور اختصاص الرؤيا بالمنام فلا تستعمل في غيره ، وذكر بعضهم أنها تستعمل مصدرا لرأى مطلقا ولو كانت في اليقظة وهي هنا للمنام قطعا ، وقوله قد تواطأت أي توافقت والموطأة الموافقة كأن كلا منهما وطئ ما وطئه الآخر ، وروي تواطت بترك الهمز ، وقوله فالتمسوها أي اطلبوها استعار له اللمس ، وقوله في العشر البواقي أي في الليالي العشر البواقي من الشهر وهي العشر الأخيرة من الشهر ، وقوله في الوتر بدل من العشر بإعادة العامل وهو بدل بعض من كل ، والوتر الفرد وفي واوه لغتان الكسر والفتح ، وقوله في الرواية الثانية رأوا كذا في روايتنا بتقديم الراء وفي رواية الشيخين أروا بتقديم الهمزة وضمها وضم الراء ، وقوله فليتحرها أي فليتعمد طلبها والتحري القصد والاجتهاد في الطلب والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول .

                                                            (الثالثة) ليلة القدر بفتح القاف وإسكان الدال ويجوز فتحها كما سأبينه سميت بذلك لعظم قدرها لما لها من الفضائل أي ذات القدر العظيم أو لما يحصل لمحييها بالعبادة من القدر العظيم ، أو لأن الأشياء تقدر فيها وتقضى أقوال ويؤيد الأولين قوله تعالى ليلة القدر خير من ألف شهر ويؤيد الأخير قوله تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر وقوله فيها يفرق كل أمر حكيم وإنما جوزت فتح الدال لأنها إن كانت سميت بذلك لعظم قدرها فقد قال في الصحاح قدر الشيء مبلغه وقدر الله وقدره بمعنى وهو في الأصل مصدر وقال تعالى وما قدروا الله حق قدره أي ما عظموا الله حق تعظيمه وإن كان من التقدير فقد قال في الصحاح عقبه والقدر ، والقدر أيضا ما يقدره الله من القضاء وأنشد الأخفش [ ص: 150 ]

                                                            ألا يـــا لقـــوم للنـــوائب والقـــدر وللأمـر يـأتي المـرء مـن حيث لا يدري

                                                            وكذا قال في المحكم القدر والقدر القضاء انتهى .

                                                            وقال ابن العربي في شرح الترمذي هي ليلة القدر والقدر فأما .

                                                            (الأول) فالمراد به الشرف كقولهم لفلان قدر في الناس يعنون بذلك مزية وشرفا (والثاني) القدر بمعنى التقدير قال الله تعالى فيها يفرق كل أمر حكيم قال علماؤنا يلقي الله فيها لملائكته ديوان العام انتهى .

                                                            وهو يوهم أنه لا يجوز مع تسكين الدال إرادة التقدير وليس كذلك كما علمت وقد جوز المفسرون في الآية إرادة الشرف والتقدير مع كونه لم يقرأ إلا بالإسكان وجزم الهروي وابن الأثير في تفسيرها بالتقدير فقالا وهي الليلة التي تقدر فيها الأرزاق وتقضى وصححه النووي فقال في شرح المهذب سميت ليلة القدر أي ليلة الحكم والفصل هذا هو الصحيح المشهور وحكاه في شرح مسلم عن العلماء .

                                                            (الرابعة) فيه فضل ليلة القدر وذلك من اسمها ومن الأمر بتحريها وطلبها وقد أفصح به القرآن الكريم في قوله تعالى إنا أنزلناه في ليلة القدر الآية ، وهو مجمع عليه وقد خص الله تعالى بها هذه الأمة فلم تكن لمن قبلهم على الصحيح المشهور واختلف في سبب ذلك فروى الترمذي عن الحسن بن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت إنا أعطيناك الكوثر يا محمد يعني نهرا في الجنة ونزلت إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر يملكها بعدك بنو أمية يا محمد قال القاسم بن الفضل الحراني أحد رواته فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تنقص يوما ولا تزيد يوما ، وروى مالك في الموطإ أنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر ، وروى البيهقي في سننه عن مجاهد مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر فعجب المسلمون من ذلك فأنزل الله إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر [ ص: 151 ] التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر وقال القاضي أبو بكر بن العربي بعد ذكره حديث الترمذي الذي بدأنا به وهذا لا يصح والذي روى مالك من أن النبي صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته أصح منه وأولى ، ولذلك أدخله ليبين بذلك الفائدة فيه ويدل على بطلان هذا الحديث انتهى .

                                                            وفيه نظر فإن البلاغ الذي ذكره مالك لا يعرف له إسناد قال ابن عبد البر لا أعلم هذا الحديث يروى مسندا ولا مرسلا من وجه من الوجوه إلا ما في الموطإ وهو أحد الأربعة الأحاديث التي لا توجد في غير الموطإ قال وليس منها حديث منكر ولا ما يدفعه أصل (قلت) حتى يثبت له أصل نعم المرسل الذي ذكرناه من عند البيهقي يشهد له .



                                                            (الخامسة) فيه بقاء ليلة القدر واستمرارها وأنها لم ترفع قال النووي في شرح مسلم وأجمع من يعتد به على وجودها ودوامها إلى آخر الدهر للأحاديث الصحيحة المشهورة ، قال القاضي عياض وشذ قوم فقالوا رفعت لقوله عليه السلام حين تلاحى الرجلان فرفعت وهذا غلط من هؤلاء الشاذين ؛ لأن آخر الحديث يرد عليهم فإنه عليه الصلاة والسلام قال وعسى أن يكون خيرا لكم التمسوها في السبع والتسع هكذا هو في أول صحيح البخاري وفيه تصريح بأن المراد برفعها رفع بيان علم عينها ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها انتهى وقال في شرح المهذب وكذا حكى أصحابنا هذا القول عن قوم لم يسمهم الجمهور وسماهم صاحب التتمة فقال هو قول الروافض .

                                                            (السادسة) في الرواية الأولى الأمر بطلبها في أوتار العشر الأواخر وفي الرواية الثانية الأمر بطلبها في السبع الأواخر وبينهما تناف وإن اتفقتا على أن محلها منحصر في العشر الأواخر من رمضان والأول وهو انحصارها في أوتار العشر الأخير قول حكاه القاضي عياض وغيره ونص عليه أحمد بن حنبل ، فقال هي في العشر الأواخر في وتر من الليالي لا يخطئ إن شاء الله وأما انحصارها في السبع الأواخر فلا نعلم الآن قائلا به ولنحك المذاهب في هذه المسألة :

                                                            (فأحدها) أنها في السنة كلها وهو محكي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وتابعه أبو حنيفة وصاحباه لكن في صحيح مسلم وغيره عن زر بن حبيش قال (سألت أبي بن كعب فقلت إن أخاك ابن مسعود يقول من يقم الحول يصب ليلة القدر ، فقال [ ص: 152 ] رحمه الله أراد أن لا يتكل الناس أما إنه علم أنها في رمضان وأنها في العشر الأواخر وأنها ليلة سبع وعشرين ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين فقلت بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر ؟ قال بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها) ويشهد لما فهمه أبي رضي الله عنه من كلام عبد الله ما رواه أحمد في مسنده عن أبي عقرب قال غدوت إلى ابن مسعود ذات غداة في رمضان فوجدته فوق بيت جالسا فسمعنا صوته وهو يقول صدق الله وبلغ رسوله فقلنا سمعناك تقول صدق الله وبلغ رسوله فقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليلة القدر في النصف من السبع الأواخر من رمضان تطلع الشمس غداتئذ صافية ليس لها شعاع فنظرت إليها فوجدتها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه البزار في مسنده بنحوه .

                                                            وفي معجم الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فقال أيكم يذكر ليلة الصهباوات فقال عبد الله أنا بأبي أنت وأمي يا رسول الله حين طلع الفجر وذلك ليلة سبع وعشرين والحديث رواه أحمد وغيره لكن لم أر التصريح بليلة سبع وعشرين إلا في معجم الطبراني الكبير فلذلك اقتصرت على عزوه إليه . القول الثاني أنها في شهر رمضان كله وهو محكي عن ابن عمر رضي الله عنهما وطائفة من الصحابة وفي سنن أبي داود عن ابن عمر قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر وأنا أسمع قال هي في رمضان وقال أبو داود وروي موقوفا عليه ( قلت ) والحديث محتمل للتأويل بأن يكون معناه أنها تتكرر وتوجد في كل سنة في رمضان لا أنها وجدت مرة في الدهر فلا يكون فيه دليل لهذا القول وكذلك ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن الحسن وهو البصري قال (ليلة القدر في كل رمضان) محتمل لهذا التأويل وقال المحاملي في التجريد مذهب الشافعي أن ليلة القدر تلتمس في جميع شهر رمضان وآكده العشر الأخر وآكده ليالي الوتر من العشر الأواخر انتهى .

                                                            والمشهور من مذهب الشافعي اختصاصها بالعشر الأواخر كما سيأتي .

                                                            (الثالث) (أنها أول ليلة من شهر رمضان) وهو محكي عن أبي رزين العقيلي أحد الصحابة رضي الله عنهم .

                                                            (الرابع) أنها في العشر الأوسط والأواخر حكاه

                                                            [ ص: 153 ] القاضي عياض وغيره ويرده ما في الصحيح عن أبي سعيد الخدري من قول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم لما أن اعتكف العشر الأوسط إن الذي تطلب أمامك .

                                                            (الخامس) أنها في العشر الأواخر فقط ويدل له قوله عليه الصلاة والسلام التمسوها في العشر الأواخر ، وقوله عليه الصلاة والسلام إني أعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة ثم إني أعتكفت العشر الأوسط ثم أتيت فقيل لي إنها في العشر الأواخر وكلاهما في الصحيح وبهذا قال جمهور العلماء .

                                                            (السادس) أنها تختص بأوتار العشر الأخير وعليه يدل حديث ابن عمر الأول كما تقدم وفي مسند أحمد ومعجم الطبراني الكبير عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر ، فقال : في رمضان فالتمسوها في العشر الأواخر فإنها في وتر في إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين أو في آخر ليلة فمن قامها ابتغاءها ثم وفقت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيه عبد الله بن محمد بن عقيل وهو حسن الحديث وفي قوله أو في آخر ليلة سؤال ؛ لأنها ليست وترا إن كان الشهر كاملا ، وقد قال أولا فإنها في وتر وإن كان ناقصا فهي ليلة تسع وعشرين فلا معنى لعطفها عليها وجوابه أن قوله أو في آخر ليلة معطوف على قوله فإنها في وتر لا على قوله أو تسع وعشرين فليس تفسيرا للوتر بل معطوفا عليه .

                                                            (السابع) إنها تختص بإشفاعه لحديث أبي سعيد في الصحيح التمسوها في العشر الأواخر من رمضان والتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة فقيل له يا أبا سعيد إنكم أعلم بالعدد منا قال أجل نحن أحق بذلك منكم قال قلت ما التاسعة والسابعة والخامسة ؟ قال إذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها ثنتان وعشرون وهي التاسعة فإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة .

                                                            (الثامن) أنها ليلة سبع عشرة وهو محكي عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضا والحسن البصري ففي معجم الطبراني وغيره عن زيد بن أرقم قال ما أشك وما أمتري أنها ليلة سبع عشرة ليلة أنزل القرآن ويوم التقى الجمعان وعن زيد بن ثابت أنه كان يحيي ليلة سبع عشرة فقيل له : تحيي ليلة سبع عشرة ؟ قال : إن فيها نزل القرآن ، وفي صبيحتها فرق بين الحق والباطل وكان يصبح فيها [ ص: 154 ] بهيج الوجه .

                                                            (التاسع) : أنها ليلة تسع عشرة وهو محكي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود أيضا .

                                                            (العاشر) أنها تطلب في ليلة سبع عشرة أو إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين حكي عن علي وابن مسعود أيضا ويدل له ما في سنن أبي داود عن ابن مسعود قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر اطلبوها ليلة سبع عشرة من رمضان وليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين ثم سكت .

                                                            (الحادي عشر) أنها ليلة إحدى وعشرين ويدل له حديث أبي سعيد الثابت في الصحيح الذي فيه وإني أريتها ليلة وتر وإني أسجد في صبيحتها في ماء وطين فأصبح من ليلة إحدى وعشرين ، وقد قام إلى الصبح فمطرت السماء فوكف المسجد فأبصرت الطين والماء فخرج حين فرغ من صلاته وجبينه وأرنبة أنفه فيها الطين والماء وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر .

                                                            (الثاني عشر) أنها ليلة ثلاث وعشرين وهو قول جمع كثيرين من الصحابة وغيرهم ويدل له ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أريت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني صبيحتها أسجد في ماء وطين قال فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه وفي سنن أبي داود عنه أيضا قال قلت يا رسول الله إن لي بادية أكون فيها وأنا أصلي فيها بحمد الله فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد ، فقال أنزل ليلة ثلاث وعشرين .

                                                            (الثالث عشر) أنها ليلة أربع وعشرين وهو محكي عن بلال وابن عباس وقتادة والحسن وفي صحيح البخاري عن ابن عباس موقوفا عليه (التمسوا ليلة القدر في أربع وعشرين) ذكره عقب حديثه هي في العشر في سبع تمضين أو سبع تبقين [ ص: 155 ] وظاهره أنه تفسير للحديث فيكون عمدة ، وفي مسند أحمد عن بلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليلة القدر ليلة أربع وعشرين .

                                                            (الرابع عشر) إنها ليلة خمس وعشرين حكاه ابن العربي في شرح الترمذي قال ، وفي ذلك أثر .

                                                            (الخامس عشر) أنها ليلة ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين وهو محكي عن ابن عباس ويدل له ما في صحيح البخاري عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي في العشر في سبع تمضين أو سبع يبقين يعني ليلة القدر .

                                                            (السادس عشر) أنها ليلة سبع وعشرين وبه قال جمع كثيرون من الصحابة وغيرهم وكان أبي بن كعب يحلف عليه كما تقدم ، وفي مصنف ابن أبي شيبة عن زر بن حبيش كان عمر وحذيفة وأناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشكون فيها ليلة سبع وعشرين ، وحكاه الشاشي في الحلية عن أكثر العلماء ، وقال النووي في شرح المهذب إنه مخالف لنقل الجمهور ، وقد وردت أحاديث صريحة في أنها ليلة سبع وعشرين ففي سنن أبي داود عن معاوية مرفوعا ليلة القدر ليلة سبع وعشرين ، وفي مسند أحمد عن ابن عمر مرفوعا من كان متحريها فليتحرها ليلة سبع وعشرين ، وفي المعجم الأوسط للطبراني عن جابر بن سمرة مرفوعا التمسوا ليلة القدر ليلة سبع وعشرين واستدل ابن عباس على ذلك بأن الله تعالى خلق السموات سبعا والأرضين سبعا والأيام سبعا وأن الإنسان خلق من سبع وجعل رزقه في سبع ويسجد على سبعة أعضاء والطواف سبع والجمار سبع واستحسن ذلك عمر بن الخطاب واستدل بعضهم على ذلك بأن عدد كلمات السورة إلى قوله هي سبع وعشرون ، وفيه إشارة إلى ذلك ، وحكي ذلك عن ابن عباس نفسه حكاه عنه ابن العربي وابن قدامة ، وقال ابن عطية في تفسيره بعد نقل ذلك ونظيرين له وهذا من ملح التفسير وليس من متعين العلم ، وحكاه ابن حزم عن ابن بكير المالكي وبالغ في إنكاره ، وقال إنه من طوائف الوسواس ولو لم يكن فيه أكثر من دعواه أنه وقف على ما غاب من ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى .

                                                            (السابع عشر) : أنها ليلة تسع وعشرين حكاه ابن العربي .

                                                            (الثامن عشر) أنها آخر ليلة حكاها القاضي عياض وغيره ويتداخل هذا القول مع الذي قبله إذا كان الشهر ناقصا ، وروى محمد بن نصر المروزي في [ ص: 156 ] الصلاة من حديث معاوية مرفوعا التمسوا ليلة القدر آخر ليلة من رمضان ، وفي حديث ابن عمر الثاني الأمر بتحريها في السبع الأواخر ولم أر قائلا بذلك كما تقدم وإذا عددناه قولا كان .

                                                            (تاسع عشر) وإن نظرنا لما تدل عليه الأحاديث وإن لم يقل به أحد اجتمعت من ذلك أقوال أخر فنذكرها مع ذكر ما يدل عليها وإن لم نقف على القول بها .

                                                            (العشرون) إنها ليلة اثنين وعشرين أو ثلاث وعشرين في سنن أبي داود عن عبد الله بن أنيس قال كنت في مجلس بني سلمة وأنا أصغرهم ، فقالوا من يسأل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر وذلك صبيحة إحدى وعشرين فخرجت فوافيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب فذكر الحديث ، وفيه أرسلني إليك رهط من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر ، فقال كم الليلة قلت اثنتان وعشرون قال هي الليلة ، ثم رجع ، فقال أو القابلة يريد ليلة ثلاث وعشرين .

                                                            (الحادي والعشرون) ليلة إحدى أو ثلاث أو خمس أو سبع وعشرين أو آخر ليلة ، في جامع الترمذي عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في العشر الأواخر فإني سمعته يقول التمسوها لتسع يبقين أو سبع يبقين أو خمس يبقين أو ثلاث أو آخر ليلة قال الترمذي حسن صحيح .

                                                            (الثاني والعشرون) ليلة إحدى أو ثلاث أو خمس وعشرين في صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى رجلان فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة فالظاهر أن المراد في التاسعة تبقى لتقديم التاسعة على السابعة وهي على الخامسة ويدل له ما في سنن أبي داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى ، وفي المدونة قال مالك رحمه الله في قول النبي صلى الله عليه وسلم التمسوا ليلة القدر في التاسعة والسابعة والخامسة فأرى والله أعلم أن التاسعة ليلة إحدى وعشرين والسابعة ليلة ثلاث وعشرين والخامسة ليلة خمس وعشرين يريد في هذا على نقصان الشهر وكذلك ذكر ابن حبيب .

                                                            (الثالث والعشرون) [ ص: 157 ] ليلة ثلاث أو خمس وعشرين في مسند أحمد عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ليلة القدر ، فقال هي في العشر الأواخر قم في الثالثة أو الخامسة ، فالظاهر أن المراد قم في الثالثة تمضي لتقديمه لها على الخامسة .

                                                            (الرابع والعشرون) ليلة السابع أو التاسع والعشرين في مسند أحمد وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر : إنها ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين إن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى ، وفي رواية الطبراني في معجمه الأوسط من عدد النجوم .

                                                            (الخامس والعشرون) أنها في أوتار العشر الأخير أو في ليلة سبع عشرة أو تسع عشرة ، في معجم الطبراني الأوسط عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال التمسوا ليلة القدر في سبع عشرة أو تسع عشرة أو إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين .

                                                            (السادس والعشرون) أول ليلة من شهر رمضان أو ليلة التاسع أو الرابع عشر أو ليلة إحدى وعشرين أو آخر ليلة ، روى ابن مردويه في تفسيره عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال التمسوا ليلة القدر في أول ليلة من رمضان ، وفي تسعة ، وفي أربع عشرة ، وفي إحدى وعشرين ، وفي آخر ليلة من رمضان وهذا كله تفريع على أنها تلزم ليلة بعينها كما هو مذهب الشافعي وغيره وبه قال ابن حزم والصحيح في مذهب الشافعي أنها تختص بالعشر الأخير وأنها في الأوتار أرجى منها في الأشفاع وأرجاها ليلة الحادي والعشرين والثالث والعشرين ، وحكى الترمذي في جامعه عن الشافعي رحمه الله أنه قال في اختلاف الأحاديث في ذلك كان هذا عندي والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب على نحو ما يسأل عنه يقال له نلتمسها في ليلة كذا فيقول التمسوها في ليلة كذا قال الشافعي وأقوى الروايات عندي فيها ليلة إحدى وعشرين ، وحكى البيهقي في المعرفة عن الشافعي في القديم أنه قال وكأني رأيت والله أعلم أقوى الأحاديث فيه ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين انتهى .

                                                            وذهب جماعة من العلماء إلى أنها تنتقل فتكون سنة في ليلة وسنة في ليلة أخرى وهكذا ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي قلابة وهو قول مالك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل [ ص: 158 ] وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وغيرهم وعزاه ابن عبد البر في الاستذكار للشافعي ولا نعرفه عنه ولكن قال به من أصحابه المزني وابن خزيمة وهو المختار عند النووي وغيره واستحسنه الشيخ تقي الدين للجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك فإنها اختلفت اختلافا لا يمكن معه الجمع بينها إلا بذلك ، وقال ابن عبد البر الأغلب من قوله في السبع الأواخر أنه في ذلك العام والله أعلم لئلا يتضاد مع قوله في العشر الأواخر ويكون قاله ، وقد مضى من الشهر ما يوجب قول ذلك انتهى وإذا فرعنا على انتقالها فعليه أقوال :

                                                            (أحدها) أنه تنتقل فتكون إما في ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين أو الخامس والعشرين .

                                                            (الثاني) أنها في ليلة الخامس والعشرين أو السابع والعشرين أو التاسع والعشرين وكلاهما في مذهب مالك قال ابن الحاجب ، وقول من قال من العلماء أنها في جميع العشر الأواخر أو في جميع الشهر ضعيف .

                                                            (الثالث) أنها تنتقل في العشر الأخير وهذا قول من قال بانتقالها من الشافعية .

                                                            (الرابع) أنها تنتقل في جميع الشهر وهو مقتضى كلام الحنابلة قال ابن قدامة في المغني يستحب طلبها في جميع ليالي رمضان ، وفي العشر الأخير آكد ، وفي ليالي الوتر منه آكد ثم حكى قول أحمد هي في العشر الأواخر في وتر من الليالي لا تخطئ إن شاء الله ، وقد قدمت ذلك عنه ومقتضاه اختصاصها بأوتار العشر الأخير فإذا انضم إليه القول بانتقالها صار هذا قولا خامسا على الانتقال فتنضم هذه الأقوال الخمسة لما تقدم فتكون أحدا وثلاثين قولا ، وقال ابن العربي بعد حكايته ثلاثة عشر قولا مما حكيناه والصحيح منها أنها لا تعلم انتهى .

                                                            وهو معنى قول بعض أهل العلم أخفى الله تعالى هذه الليلة عن عباده لئلا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها فأراد منهم الجد في العمل أبدا وهذا يحسن أن يكون قولا ثانيا وثلاثين وهو الكف عن الخوض فيها وأنه لا سبيل إلى معرفتها ، وقال ابن حزم الظاهري : هي في العشر الأواخر في ليلة واحدة بعينها لا تنتقل أبدا إلا أنه لا يدرى أي ليلة هي منه إلا أنها في وتر منه ولا بد فإن كان الشهر تسعا وعشرين فأول العشر الأواخر ليلة عشرين منه فهي إما ليلة عشرين وإما ليلة اثنين وعشرين وإما ليلة أربع وعشرين وإما ليلة ست [ ص: 159 ] وعشرين وإما ليلة ثمان وعشرين ؛ لأن هذه الأوتار من العشر وإن كان الشهر ثلاثين فأول العشر الأواخر ليلة إحدى وعشرين فهي أما ليلة إحدى وعشرين وإما ليلة ثلاث وعشرين وإما ليلة خمس وعشرين وإما ليلة تسع وعشرين وإما ليلة تسع وعشرين ؛ لأن هذه أوتار العشر بلا شك ثم ذكر كلام أبي سعيد المتقدم وحمله على أن رمضان كان تسعا وعشرين وهو مسلك غريب بعيد وبه كملت الأقوال في هذه المسألة ثلاثة وثلاثين قولا والله أعلم .

                                                            (السابعة) قال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة فيه دليل على عظم الرؤيا والاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجوديات وعلى ما لا يخالف القواعد الكلية من غيرها ، وقد تكلم الفقهاء فيما لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأمره بأمر هل يلزم ذلك ؟ وقيل فيه إن ذلك إما أن يكون مخالفا لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من الأحكام في اليقظة أولا ، فإن كان مخالفا عمل بما ثبت في اليقظة ؛ لأنا وإن قلنا إن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه المنقول من صفته فرؤياه حق فهذا من قبيل تعارض الدليلين والعمل بأرجحهما وما ثبت في اليقظة فهو أرجح ، وإن كان غير مخالف لما ثبت في اليقظة ففيه خلاف والاستناد إلى الرؤيا هنا في أمر ثبت استحبابه مطلقا وهو طلب ليلة القدر وإنما ترجح السبع الأواخر بسبب المرائي الدالة على كونها في السبع الأواخر وهو استدلال على أمر وجودي لزمه استحباب شرعي مخصوص بالتأكيد بالنسبة إلى هذه الليالي مع كونه غير مناف للقاعدة الكلية الثابتة من استحباب طلب ليلة القدر انتهى .

                                                            ونقل ابن الصلاح في فوائد الرحلة عن كتاب آداب الجدل لأبي إسحاق الإسفراييني وجهين فيما إذا رأى شخص النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ، وقال له غدا من رمضان هل يعمل به أم لا ؟ وحكى القاضي عياض الإجماع على أنه لا يعمل به .




                                                            الخدمات العلمية