الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح ، الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور .

                                                            وعن سالم عن أبيه قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عما يقتل المحرم من الدواب فقال خمس لا جناح في قتلهن على من قتلهن في الحرم والمحرم العقرب والفأرة والغراب والحدأة والكلب العقور .

                                                            وفي رواية لهما عن ابن عمر عن حفصة وفي رواية لهما حدثتني إحدى نسوة النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                            وزاد مسلم فيها والحية وقال وفي الصلاة أيضا ولم يقل في أوله خمس .

                                                            وعن عروة عن عائشة قالت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم الحدأة والغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور .

                                                            وفي رواية لمسلم الحية بدل العقرب وقال فيها والغراب الأبقع .

                                                            وللبيهقي من حديث ابن مسعود بقتل المحرم الحية وفي الصحيحين من حديثه الأمر بقتل الحية في غار المرسلات.

                                                            وفي النسائي أن ذلك كان ليلة عرفة ولأبي داود والترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث أبي سعيد يقتل المحرم السبع العادي قال أبو داود ويرمي الغراب ولا يقتله وللشيخين من حديث عائشة قال للوزغ فويسق ولم أسمعه أمر بقتله ولهما من حديث أم شريك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بقتل الأوزاغ .

                                                            ولمسلم من حديث سعد بن أبي وقاص أمر بقتل الوزغ وسماه فويسقا وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها قالت كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت .

                                                            وقال البخاري حين أحرم .

                                                            وكذا لمسلم في رواية وللنسائي حين أراد أن يحرم .

                                                            وللشيخين حين أحل قبل أن يطوف .

                                                            وللنسائي عند إحلاله قبل أن يحل وله ولحله بعد ما رمى جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت ولهما بذريرة .

                                                            للبخاري بأطيب ما أجد .

                                                            وقال مسلم ما وجدت وله بأطيب الطيب وله بطيب فيه مسك وللبخاري في رأسه ولحيته .

                                                            التالي السابق


                                                            (الحديث الثاني)

                                                            وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح، الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور وعن سالم عن أبيه قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عما يقتل المحرم من الدواب فقال خمس لا جناح في قتلهن على من قتلهن في الحرم والمحرم العقرب والفأرة والغراب والحدأة والكلب العقور .

                                                            [ ص: 56 ] (الحديث الثالث)

                                                            وعن عروة عن عائشة قالت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم ، الحدأة والغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور .

                                                            (فيهما) فوائد:

                                                            (الأولى) حديث ابن عمر أخرجه من الطريق الأولى الشيخان والنسائي من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر وفي رواية البخاري ضم عبد الله بن دينار إلى نافع وقال ابن عبد البر لا خلاف عن مالك في إسناد هذا الحديث ولفظه انتهى.

                                                            (فإن قلت) قد ذكر مالك عبد الله بن دينار تارة ولم يذكره أخرى (قلت) ليس هذا اختلافا فله فيه شيخان حدث به في الأكثر عن نافع وتارة [ ص: 57 ] عن عبد الله بن دينار وتارة عنهما وقد أخرجه مسلم من رواية إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار فهو معروف عنه من غير طريق مالك وأخرجه مسلم والنسائي من طريق الليث بن سعد وأيوب السختياني ويحيى بن سعيد وأخرجه مسلم وابن ماجه من حديث عبيد الله بن عمر وأخرجه مسلم وحده من حديث ابن جريج وجرير بن حازم كلهم عن نافع قال مسلم ولم يقل أحد منهم عن نافع عن ابن عمر سمعت (النبي صلى الله عليه وسلم) إلا ابن جريج وحده وقد تابع ابن جريج على ذلك ابن إسحاق ثم رواه من طريقه عن نافع وفيه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                            وأخرجه من الطريق الثانية مسلم وأبو داود والنسائي من هذا الوجه من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه وأخرجه الشيخان والنسائي من رواية يونس بن يزيد عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة واتفق عليه الشيخان من رواية زيد بن جبير عن ابن عمر قال حدثتني إحدى نسوة النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية لمسلم (والحية) قال وفي الصلاة أيضا ولا يضر هذا الاختلاف فالحديث مقبول سواء كان من رواية ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أو بواسطة حفصة أو غيرها من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.

                                                            وقد تقدم من حديث ابن جريج في صحيح مسلم التصريح بسماع ابن عمر له من النبي صلى الله عليه وسلم وحديث عائشة أخرجه مسلم والنسائي من هذا الوجه من رواية عبد الرزاق وأخرجه الشيخان والترمذي من رواية يزيد بن زريع كلاهما عن معمر واتفق عليه الشيخان والنسائي من رواية يونس بن يزيد [ ص: 58 ] كلاهما عن الزهري عن عائشة وهذا وجه آخر من الاختلاف على الزهري قال ابن عبد البر : ويمكن أن يكون إسنادا آخر ثم روى عن الحميدي أنه قيل لسفيان يعني ابن عيينة إن معمرا يرويه عن الزهري عن عروة عن عائشة فقال حدثنا والله الزهري عن سالم عن أبيه ما ذكر عروة عن عائشة . وأخرجه مسلم والنسائي من رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وأخرجه مسلم أيضا من رواية عبيد الله بن مقسم عن القاسم عن عائشة بلفظ أربع كلهن فاسق وأسقط العقرب وفيه قلت للقاسم أفرأيت الحية ؟ قال تقتل بصغر لها .

                                                            وأخرجه مسلم أيضا من رواية قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة وذكر الحية بدل العقرب وقيد فيها الغراب بالأبقع وذكر عبد الحق أن الصحيح من حديث عائشة وغيرها رواية خمس وقال ابن عبد البر ذكر الحية محفوظ من حديث عائشة ورواه البيهقي بلفظ الحية أو العقرب على الشك وقال كأن رواية أبي داود الطيالسي أي في ذكر العقرب أصح لموافقتها سائر الروايات عن عائشة قال وابن المسيب إنما روى الحديث في الحية والذئب مرسلا.

                                                            (الثانية) اتفق العلماء على جواز قتل هذه الخمس المذكورة في الحديث في الحل والحرم للمحرم وغيره إلا ما شذ مما سنحكيه، واختلفوا في المعنى في ذلك فقال الشافعية والحنابلة : المعنى فيه كونهن مما لا يؤكل ولا ينتفع به فكل ما لا يؤكل ولا هو متولد من مأكول وغيره ولا منفعة فيه فقتله جائز للمحرم ولا فدية عليه، وعبارة الشافعي في ذلك كما حكاه البيهقي في المعرفة فكل ما جمع [ ص: 59 ] من الوحش أن يكون غير مباح اللحم في الإحلال وأن يكون يضر قتله المحرم لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر أن تقتل الفأرة والغراب والحدأة مع ضعف ضرهما إذا كانت مما لا يؤكل لحمه كان ما جمع أن لا يؤكل لحمه وضره أكثر من ضرها أولى أن يكون قتله مباحا انتهى وقال أصحابه هذا الضرب ثلاثة أقسام:

                                                            (أحدها) ما يستحب قتله للمحرم وغيره وهي المؤذيات كالحية والفأرة والعقرب والخنزير والكلب العقور والغراب والحدأة والذئب والأسد والنمر والدب والنسر والعقاب والبرغوث والبق والزنبور والقراد والحلمة والقرقس وأشباهها.

                                                            (القسم الثاني) ما فيه نفع ومضرة كالفهد والعقاب والبازي والصقر ونحوها فلا يستحب قتله لما فيه من المنفعة وهو أنه يعلم الاصطياد ولا يكره لما فيه من المضرة وهو أنه يعدو على الناس والبهائم.

                                                            (القسم الثالث) ما لا يظهر فيه نفع ولا ضرر كالخنافس والجعلان والدود والسرطان والبغاثة والرخمة والذباب وأشباهها فيكره قتلها ولا يحرم كما قاله جمهورهم وحكى إمام الحرمين وجها أنه يحرم قتل الطيور دون الحشرات وحكى ابن عبد البر هذا التقسيم عن الشافعي نفسه من رواية الحسن بن محمد الزعفراني عنه وكلام الحنابلة في ذلك مثل كلام أصحابنا قال الشيخ مجد الدين بن تيمية في المحرر ولا يضمن بالإحرام ما لا يؤكل لحمه لكن يكره له قتله إذا لم يكن مؤذيا وجوز الشيخ موفق الدين بن قدامة في المغني في قول الخرقي في مختصره وكلما عدا عليه أو آذاه وجهين :

                                                            (أحدهما) أنه أراد ما بدأ المحرم فعدا عليه في نفسه أو ماله.

                                                            (والثاني) أنه أراد ما طبعه الأذى والعدوان وإن لم يوجد منه أذى في الحال وكلام ابن حزم الظاهري يوافق ذلك أيضا وإن كان لا ينظر إلى المعنى ولا يعدي بالقياس لكنه اعتمد أن التحريم إنما ورد في الصيد فلا يتعدى ولا ذلك لغيره وأجاب عن الاقتصار على هذه الخمس بما سنذكره بعد إن شاء الله تعالى ونقل الشيخ تقي الدين في شرح العمدة كون المعنى عند الشافعي منع الأكل بواسطة بعض الشارحين وأراد به النووي ثم قال وهذا عندي فيه نظر فإن جواز القتل غير جواز الاصطياد وإنما يرى الشافعي جواز الاصطياد وعدم وجوب الجزاء بالقتل لغير [ ص: 60 ] المأكول.

                                                            وأما جواز الإقدام على قتل ما لا يؤكل فما ليس فيه ضرر فغير هذا انتهى وفيه نظر فقد حكى الربيع عن الشافعي أنه قال: لا شيء على المحرم في قتله من الطير كل ما لا يحل أكله قال وله أن يقتل من دواب الأرض وهوامها كل ما لا يحل أكله انتهى فصرح بأن له قتل ما لا يحل أكله من الطير والهوام وقال آخرون المعنى في ذلك كونهن مؤذيات فيلتحق بالمذكورات كل مؤذ وعزاه النووي في شرح مسلم لمالك ولنذكر تفصيل مذهبه في ذلك.

                                                            قال ابن شاس في الجواهر بعد أن قرر تحريم صيد المأكول وغيره ولا يستثنى من ذلك إلا ما تناوله الحديث وهو هذه الخمس قال والمشهور أن الغراب والحدأة يقتلان وإن لم يبتدئا بالأذى وروى أشهب المنع من ذلك وقاله ابن القاسم ، قال إلا أن يؤذي فيقتل إلا أنه إن قتلهما من غير أذى فلا شيء عليه.

                                                            وقال أشهب : إن قتلهما من غير ضرر وداهما واختلف أيضا في قتل صغارهما ابتداء وفي وجوب الجزاء بقتلهما وأما غيرهما من الطير فإن لم يؤذ فلا يقتل فإن قتل ففيه الجزاء وإن أذى فهل يقتل أم لا ؟ قولان وإذا قلنا لا يقتل فقتل، فقولان أيضا المشهور نفي وجوب الجزاء وقال أشهب عليه في الطير الفدية وإن ابتدأت بالضرر وقال أصبغ من عدا عليه شيء من سباع الطير فقتله وداه بشاة، قال ابن حبيب : وهذا من أصبغ غلط وحمل بعض المتأخرين قول أصبغ هذا على أنه كان قادرا على الدفع بغير القتل، فأما لو تعين القتل في الدفع لا يختلف فيه.

                                                            وأما العقرب والحية والفأرة فيقتلن حتى الصغير وما لم يؤذ منها لأنه لا يؤمن منها الأذى إلا أن تكون من الصغر بحيث لا يمكن منها الأذى فيختلف في حكمها وهل يلحق صغير غيرها من الحيوان المباح القتل لأذية بصغارها في جواز القتل ابتداء فيه خلاف ؛ والمشهور من المذهب أن المراد من الكلب العقور الكلب الوحشي فيدخل فيه الأسد والنمر وما في معناهما وقيل المراد الكلب الإنسي المتخذ وعلى المشهور يقتل صغير هذه وما لم يؤذ من كبيرها انتهى كلامه.

                                                            وذكر الشيخ تقي الدين [ ص: 61 ] أن المشهور عند المالكية قتل صغار الغراب والحدأة وشنع عليهم ابن حزم الظاهري في تفرقتهم بين صغار الغربان والحديا وبين صغار السباع والحيات وبين سباع الطير وبين سباع ذوات الأربع وقال هلا قاسوا سباع الطير على الحدأة كما قاسوا سباع ذوات الأربع على الكلب العقور ؟، وقوى الشيخ تقي الدين في شرح العمدة التعليل بالأذى على التعليل بحرمة الأكل فقال: واعلم أن التعدية بمعنى الأذى إلى كل مؤذ قوي بالإضافة إلى تصرف القياسين فإنه ظاهر من جهة الإيماء بالتعليل بالفسق وهو الخروج عن الحد.

                                                            وأما التعليل بحرمة الأكل ففيه إبطال ما دل عليه إيماء النص من التعليل بالفسق لأن مقتضى العلة أن يتقيد الحكم بها وجودا وعدما فإن لم يتقيد وثبت الحكم عند عدمها بطل تأثيرها بخصوصها وهو خلاف ما دل عليه ظاهر النص من التعليل بهذا واقتصر الحنفية على الخمس المذكورة في الحديث إلا أنهم ضموا إليها الحية أيضا وهي منصوصة كما تقدم وضموا إليها الذئب أيضا قال صاحب الهداية منهم وقد ذكر الذئب في بعض الروايات.

                                                            وقيل المراد بالكلب العقور الذئب ويقال إن الذئب في معناه ا هـ وعلى هذا الأخير فيقال لم اقتصر في الإلحاق على الذئب ولم لا يلحق بالكلب العقور كل ما هو في معناه من نمر وخنزير ودب وقرد وغيرها وذكر الذئب ذكره ابن عبد البر من طريق إسماعيل القاضي ، حدثنا نصر بن علي أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا الحجاج عن وبرة قال: سمعت ابن عمر يقول أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الذئب الحديث.

                                                            قال القاضي إسماعيل فإن كان محفوظا فإن ابن عمر جعل الذئب في هذا الموضع كلبا عقورا أي لذكره بدله قال وهذا غير ممتنع في اللغة والمعنى ورواه البيهقي من رواية مالك بن يحيى عن يزيد بن هارون وفيه قال يزيد بن هارون (يعني المحرم) ثم قال البيهقي : الحجاج بن أرطاة لا يحتج به. وقد رويناه من حديث ابن المسيب مرسلا جيدا ثم رواه كذلك

                                                            وقال ابن عبد البر وقول الأوزاعي والثوري والحسن بن حي نحو قول أبي حنيفة انتهى.

                                                            ومحل المنع [ ص: 62 ] عند الحنفية فيما عدا الخمس والذئب إذا لم تبدأه السباع فإن بدأته فقتلها دفعا فلا شيء عليه عندهم إلا زفر فإنه قال يلزمه دم وذكر الشيخ تقي الدين في شرح العمدة أن المذكور في كتب الحنفية الاقتصار على الخمس.

                                                            ونقل غير واحد من المصنفين المخالفين لأبي حنيفة أن أبا حنيفة ألحق الذئب بها وعدوا ذلك من مناقضاته ثم قال ومقتضى مذهب أبي حنيفة الذي حكيناه أنه لا يجوز اصطياد الأسد والنمر وما في معناهما من بقية السباع العادية، والشافعية يردون هذا بظهور المعنى في المنصوص عليه من الخمس وهو الأذى الطبيعي والعدوان المركب في هذه الحيوانات والمعنى إذا ظهر في المنصوص عليه عدى القائسون ذلك الحكم إلى كل ما وجد فيه المعنى كالستة التي في الربا.

                                                            وقد وافق أبو حنيفة على التعدية فيها وإن اختلف هو والشافعي في المعنى الذي يعدى به قال وأقول المذكور ثم تعليق الحكم بالألقاب وهو لا يقتضي مفهوما عند الجمهور، فالتعدية لا تنافي مقتضى اللفظ وهنا لو عدينا لبطلت فائدة التخصيص بالعدد وعلى هذا المعنى عول بعض مصنفي الحنفية في التخصيص بالخمس المذكورات أعني مفهوم العدد انتهى.

                                                            وفي نقله الذئب من غير كتب الحنفية نظر فهو مصرح به في الهداية وغيرها من كتبهم وما نقله عن مقتضى مذهبهم من منع اصطياد الأسد ونحوه قد صرحوا به في كتبهم وقالوا إن على قاتله الجزاء وممن صرح به صاحب الهداية إلا أن يقتله لصياله عليه فلا شيء إلا عند زفر فإنه أوجب الجزاء بقتله للدفع عند الصيال لكن صاحب الهداية قال بعد كلامه المتقدم أولا والضب واليربوع ليسا من الخمسة المستثناة لأنهما لا يبتدئان بالأذى وليس في قتل البعوض والنمل والبراغيث والقراد شيء لأنها ليست بصيود وليست بمتولدة من البدن بل هي مؤذية بطباعها انتهى ومقتضاه موافقة من قال إنه يلحق بالمذكورات كل مؤذ بالطبع فإن كون الضب واليربوع ليسا من الخمسة أمر معلوم وإنما أراد ليس لهما حكمهما.

                                                            وعلل ذلك [ ص: 63 ] بأنهما لا يبتدئان بالأذى ومقتضى ذلك ثبوت الحكم لكل ما يبتدئ بالأذى ثم قوى ذلك بما ذكره في البعوض ونحوه ولا سيما تعليله بأنها مؤذية بطباعها ثم إن الشيخ تقي الدين رحمه الله اقتصر في رد ذلك على القياس مع ورود النص فيه رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقتل المحرم السبع العادي والكلب العقور والفأرة والعقرب والحدأة والغراب . لفظ الترمذي وقال هذا حديث حسن

                                                            والعمل على هذا عند أهل العلم قالوا يقتل المحرم السبع العادي ولفظ أبي داود إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم ؟ قال الحية والعقرب والفويسقة ويرمي الغراب ولا يقتله والكلب العقور والحدأة والسبع العادي . ولم يذكر ابن ماجه الحدأة ولا الغراب وزاد فقيل له لم قيل لها الفويسقة ؟ قال لأن رسول الله صلى اللهل عليه وسلم استيقظ لها وقد أخذت الفتيلة لتحرق بها البيت

                                                            فتناول قوله عليه الصلاة والسلام السبع العادي الأسد والنمر وغيرهما من السباع بل قوله الكلب العقور يتناول هذه الأشياء كما سنحكيه بعد ذلك وما ذكره من أن مفهوم العدد حجة محكي عن الشافعي رحمه الله لكن ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين وغيرهما إلى أنه ليس بحجة وجزم به البيضاوي في مختصره.

                                                            وكذا قال الإمام فخر الدين إنه ليس بحجة إلا أنه قال يدل عليه لدليل منفصل، ثم إن المشهور عن الحنفية أنهم لا يقولون بالمفاهيم مطلقا لا هذا المفهوم ولا غيره وبتقدير قولهم بالمفهوم فهم لم يقفوا عند هذا المفهوم بل ضموا إليها الحية والذئب أيضا كما تقدم والنص على الحية في صحيح مسلم وغيره كما تقدم ، وفي حديث أبي سعيد الخدري ذكر السبع العادي وهو ينافي الوقوف عند هذا المفهوم فإنها مع الحية والسبع العادي ليست خمسا بل سبعا كيف وقد جاء في بعض الروايات خمس وفي بعضها أربع فلو كان هذا المفهوم حجة لتدافع هذان المفهومان وسقطا.

                                                            (الثالثة) إن قلت فعلى القول بأن مفهوم العدد حجة ما جوابكم عن تخصيص هذه المذكورات بالذكر ؟ قلت، قال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة [ ص: 64 ] قال من علل بالأذى إنما اختصت بالذكر لينبه بها على ما في معناها وأنواع الأذى مختلفة فيكون ذكر كل نوع منها منبها على جواز قتل ما فيه ذلك النوع فنبه بالحية والعقرب على ما يشاركهما في الأذى باللسع كالبرغوث مثلا عن بعضهم ونبه بالفأرة على ما أذاه بالنقب والتقريض كابن عرس ونبه بالغراب والحدأة على ما أذاه بالاختطاف كالصقر والبازي ونبه بالكلب العقور على كل عاد بالعقر والافتراس بطبعه كالأسد والنمر والفهد وأما من قال بالتعدية إلى كل ما لا يؤكل لحمه فقد أحالوا التخصيص في الذكر بهذه الخمس على الغالب فإنها الملابسات للناس المخالطات في الدور بحيث يعم أذاها فكان ذلك سببا للتخصيص والتخصيص لأجل الغلبة إذا وقع لم يكن له مفهوم على ما عرف في الأصول إلا أن خصومهم جعلوا هذا المعنى معترضا عليه في تعدية الحكم إلى بقية السباع المؤذية وتقريره أن اللحاق المسكوت بالمنطوق قياسا شرطه مساواة الفرع للأصل أو رجحانه أما إذا انفرد الأصل بزيادة يمكن أن تعتبر فلا إلحاق ولما كانت هذه الأشياء عامة الأذى كما ذكر ثم ناسب أن يكون ذلك سببا لإباحة قتلها لعموم ضررها فهذا المعنى معدوم فيما لا يعم ضرره مما لا يخالط في المنازل ولا تدعو الحاجة إلى إباحة قتله كما دعت إلى إباحة قتل ما يخالط من المؤذيات فلا يلحق به.

                                                            وأجاب الأولون عن هذا بوجهين:

                                                            (أحدهما) أن الكلب العقور نادر وقد أبيح قتله.

                                                            (والثاني) معارضة الندرة في غير هذه الأشياء بزيادة قوة الضرر ألا ترى أن تأثير الفأرة بالنقب مثلا أو الحدأة تختطف شيئا لا يساوي ما في الأسد والفهد من إتلاف النفس فكان بإباحة القتل أولى انتهى ولم يعرج على ذكر الحديث الشامل لسائر السباع وهو قوله عليه الصلاة والسلام يقتل المحرم السبع العادي وقد تقدم ذكره.

                                                            وقال ابن حزم فإن قيل فما وجه اقتصار رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الخمس ؟ قلنا ظاهر الخبر يدل على أنها محضوض على قتلهن مندوب إليه ويكون غيرهن مباحا قتله أيضا وليس هذا الخبر مما يمنع أن يكون غير تلك الخمس [ ص: 65 ] مأمورا بقتله أيضا كالوزغ والأفاعي والحيات والرتيلاء والثعابين وقد يكون عليه الصلاة والسلام تقدم بيانه في هذه فاغتنى عن إعادتها عند ذكره هذه الخمس.

                                                            (الرابعة) اقتصر في حديث ابن عمر على نفي الجناح وهو الإثم عن قتل هذه المذكورات وليس في ذلك ترجيح فعل قتلها على تركه وفي حديث عائشة الأمر وهو يدل على ترجيح قتلها على تركه وهو محتمل للوجوب والندب بناء على أن المندوب مأمور به وهو المرجح في الأصول ومذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية استحباب قتل المؤذيات وهي الخمس المذكورة وما في معناها وتمسكوا بالأمر به في هذا الحديث.

                                                            وفيه زيادة على نفي الجناح الذي في حديث ابن عمر .

                                                            (الخامسة) نص في الحديث على المحرم لكونه جوابا للسؤال عنه ويعلم حكم الحلال من طريق الأولى فإنه لم يقم به مانع من ذلك فإذا أبيح مع قيام المانع فمع فقده أولى .



                                                            (السادسة) فيه التنصيص على قتل الغراب وقال ابن المنذر أباح كل من يحفظ عنه من أهل العلم قتل الغراب في الإحرام وروينا عن ابن عمر أنه كان يرمي غرابا وهو محرم وكان مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي يبيحون قتله للمحرم.

                                                            وروينا عن عطاء أنه قال في محرم كسر قرن غراب إن أدماه فعليه الجزاء وإن لم يدمه أطعم شيئا انتهى وحكى عن علي بن أبي طالب ومجاهد أنه لا يقتل الغراب ولكن يرمي وحكاه ابن عبد البر عن قوم ثم قال فيه عن علي ضعف ولا يثبت وكذا قال النووي ليس بصحيح عن علي انتهى. واستدل قائله بحديث أبي سعيد المتقدم ذكره وقال ابن عبد البر ليس هذا الحديث مما يحتج به على حديث ابن عمر وقال الخطابي يشبه أن يكون المراد به الغراب الصغير الذي يأكل الحب وهو الذي استثناه مالك من جملة الغربان وكان عطاء يرى فيه الفدية ولم يتابعه على قوله أحد انتهى.

                                                            وقال النووي في شرح المهذب فيه يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف جدا فإن صح حمل على أنه لا يتأكد ندبا قتله كتأكده في الحية والفأرة والكلب العقور.

                                                            (السابعة) ظاهره أنه [ ص: 66 ] لا فرق بين أن يبتدئه الغراب بالأذى أم لا وهو المشهور من مذاهب العلماء وهو المشهور من مذهب مالك أيضا كما تقدم وروى عنه أشهب خلافه.

                                                            (الثامنة) وظاهره أيضا أنه لا فرق بين كبار الغربان وصغارها وهو المشهور من مذاهب العلماء وعند المالكية في ذلك خلاف تقدم وما ذكرته في هذه الفائدة والتي قبلها يأتي في الحدأة أيضا .

                                                            (التاسعة) أطلق في أكثر الروايات ذكر الغراب وقيده في بعض طرق حديث عائشة بالأبقع وهو في صحيح مسلم كما تقدم .

                                                            والمراد به الذي في ظهره وبطنه بياض، فمقتضى قاعدة من يحمل المطلق على المقيد اختصاص ذلك بالأبقع وحكاه ابن المنذر عن بعض أهل الحديث وحكاه ابن قدامة في المغني عن قوم ثم رده بأن لفظ الروايات الأخرى عام في الغراب وهو أصح من الحديث الآخر وبأن غراب البين محرم الأكل يعدو على أموال الناس فلا وجه لإخراجه من العموم وقال ابن عبد البر ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح للمحرم قتل الغراب ولم يخص أبقع من غيره.

                                                            فلا وجه لما خالفه لأنه لا يثبت انتهى وحكى الخطابي عن مالك أنه لا يقتل المحرم الغراب الصغير الذي يأكل الحب وقال ابن قدامة في المغني: المراد الغراب الأبقع وغراب البين انتهى فلم تأخذ الحنابلة الحديث على عمومه ولا خصوه بالأبقع كما في تلك الرواية بل ضموا إليه غراب البين.

                                                            وذكر أصحابنا الشافعية أن الغراب أربعة أنواع :

                                                            (أحدهما) الأبقع وهو فاسق محرم بلا خلاف.

                                                            (والثاني) الأسود الكبير ويقال له الغداف الكبير ويقال له الغراب الجبلي لأنه يسكن الجبال و (الثالث) غراب صغير أسود أو رمادي اللون وقد يقال له الغداف الصغير والأصح في كل منهما التحريم.

                                                            (والرابع) غراب الزرع وهو أسود صغير يقال له الزاغ وقد يكون محمر المنقار والرجلين وهو حلال على الأصح ومقتضى ذلك شمول الحديث للكل إلا غراب الزرع لأنه مأكول فهو موافق للحنابلة في عدم الاقتصار على الأبقع ويوافق أيضا مذهب مالك الذي حكاه عنه الخطابي في استثناء الغراب الصغير الذي يأكل الحب وقال الحنفية وهذه عبارة صاحب الهداية منهم.

                                                            والمراد بالغراب الذي يأكل الجيف ويخلط [ ص: 67 ] لأنه يبتدئ بالأذى أما العقعق غير مستثنى لأنه لا يسمى غرابا ولا يبتدئ بالأذى وقال فيما يحل أكله وما لا يحل ولا بأس بغراب الزرع لأنه يأكل الحب وليس من سباع الطير ولا يؤكل الأبقع الذي يأكل الجيف وكذا الغداف وقال أبو حنيفة لا بأس بأكل العقعق لأنه يخلط فأشبه الدجاجة وعن أبي يوسف أنه يكره لأن غالب أكله الجيف انتهى.

                                                            فظهر بذلك أن مذاهب الأئمة الأربعة متفقة على أنه يستثنى من الأمر بقتل الغراب غراب الزرع خاصة فأما أن يكونوا اعتمدوا التقييد الذي في حديث عائشة بالأبقع وألحقوا به ما في معناه في الأذى وأكل الجيف وهو الغداف وإما أن يكونوا أخذوا بالروايات المطلقة وجعلوا التقييد بالأبقع لغلبته لا لاختصاص الحكم به وأخرجوا عن ذلك غراب الزرع وهو الزاغ لحل أكله فهو مستثنى بدليل منفصل والله أعلم .



                                                            (العاشرة) الحدأة معروفة وهي بكسر الحاء المهملة وبالهمز وجمعها حداء بكسر الحاء مقصور مهموز كعنبة وعنب وفي بعض روايات الصحيح الحديا وهو بضم الحاء وفتح الدال وتشديد الياء مقصور قال القاضي عياض قال ثابت ، الوجه فيه الهمز على معنى التذكير وإلا فحقيقته حديثه وكذا قيده الأصيلي في صحيح البخاري في موضع الحدية على التسهيل والإدغام انتهى وتقدم الخلاف الذي عند المالكية في اختصاص قتلها بما إذا ابتدأت بالأذى وفي اختصاص القتل بكبارها والمشهور خلافه وهو العموم كما تقدم .



                                                            (الحادية عشرة) في أكثر الروايات ذكر العقرب وفي بعضها وهو عند مسلم ذكر الحية بدلها وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود وحديث أبي سعيد عند أبي داود وابن ماجه الجمع بينهما وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود الأمر بقتل الحية في غار المرسلات وذلك في منى وهي من الحرم وكانوا محرمين، ففي سنن النسائي أن ذلك كان ليلة عرفة وفي صحيح مسلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر محرما بقتل حية بمنى .

                                                            وفي سنن البيهقي أيضا عنه قال قال رسول صلى الله عليه وسلم يقتل المحرم الحية وهي أولى بالأمر بالقتل من العقرب فكأنه نبه في الرواية المشهورة بالعقرب على الحية من طريق الأولى وقال ابن المنذر لا نعلمهم [ ص: 68 ] اختلفوا في ذلك انتهى.

                                                            وتقدم عند المالكية خلاف في قتل ما صغر من الحيات والعقارب بحيث إنه لا يمكن منه الأذى ولم يذكر غيرهم هذا الخلاف وروى البيهقي في سننه عن أيوب قلت لنافع الحية ؟ قال الحية لا يختلف فيها وأصله في صحيح مسلم إلا أنه لم يسق لفظه وذكره ابن عبد البر بلفظ قال الحية لا يختلف في قتلها، ثم قال ابن عبد البر ليس كما قال نافع وقد اختلف العلماء في جواز قتل الحية للمحرم لكنه شذوذ ثم حكى عن الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان أنهما قالا لا يقتل المحرم الحية ولا العقرب رواه شعبة عنهما قال ومن حجتهما أن هذين من هوام الأرض فمن قال بقتلهما لزمه مثل ذلك في سائر هوام الأرض، قال وهذا لا وجه له ولا معنى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أباح للمحرم قتلهما انتهى وحكى ابن حزم عن الطحاوي أنه قال لا يقتل المحرم الحية ولا الوزغ ولا شيئا غير الخمس المنصوص عليها .



                                                            (الثانية عشرة) الفأرة مهموزة وجمعها فار وبالأمر بقتلها مال الجمهور من السلف والخلف إلا إبراهيم النخعي فإنه منع المحرم من قتلها حكاه عنه الساجي وابن المنذر وغيرهما وزاد الساجي وأراه قال فإن قتلها ففيها فدية قال ابن المنذر وهذا لا معنى له لأنه خلاف السنة وقول أهل العلم، وقال الخطابي هذا مخالف للنص خارج عن أقاويل أهل العلم وتقدم الخلاف عند المالكية في قتل ما انتهى صغره منها إلى حد لا يمكن منه الأذى وليس هذا الخلاف عند غيرهم .



                                                            (الثالثة عشرة) اختلف العلماء في المراد بالكلب العقور هنا فقال مالك في الموطإ هو كل ما عقر الناس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب قال: فأما ما كان من السباع لا يعدو مثل الضبع والثعلب وما أشبههما من السباع فلا يقتله المحرم وإن قتله فداه.

                                                            وكذا قال سفيان بن عيينة هو كل سبع يعقر ولم يخص به الكلب قال وفسره لنا زيد بن أسلم وروى البيهقي في سننه عن الحميدي عن سفيان قال (سمعت زيد بن أسلم يقول وأي كلب أعقر من الحية ؟) قال الحميدي كل شيء يعقرك فهو العقور وقال أبو عبيد قد يجوز في الكلام أن يقال للسبع كلب.

                                                            ألا ترى أنهم يروون في المغازي أن عتبة بن أبي لهب [ ص: 69 ] كان شديد الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم فقال اللهم سلط عليهم كلبا من كلابك فخرج عتبة إلى الشام مع أصحابه فنزل منزلا فطرقهم الأسد فتخطى إليه من بين أصحابه فقتله .

                                                            فصار الأسد هاهنا قد لزمه اسم الكلب قال ومن ذلك قوله وما علمتم من الجوارح مكلبين فهذا اسم مشتق من الكلب ثم دخل فيه صيد الفهد والصقر والبازي فلهذا قيل لكل جارح أو عاقر من السباع كلب عقور ا هـ. وقد اعترض عليه في قوله عتبة وإنما هو عتيبة أخوه وأما عتبة فإنه بقي حتى أسلم يوم الفتح وهو معدود في الصحابة وحكى القاضي عياض والنووي حمل الكلب العقور هنا على كل سبع مفترس عن سفيان الثوري والشافعي وأحمد وجمهور العلماء.

                                                            وذكر ابن عبد البر عن أبي هريرة أنه قال الكلب العقور الأسد فإن أراد التخصيص دون التمثيل فهو قول ثان وحكى القاضي عياض عن الأوزاعي وأبي حنيفة والحسن بن صالح أن المراد به الكلب المعروف خاصة إلا أنهم ألحقوا به في حكمه الذئب وذهب زفر إلى أن الكلب العقور هو الذئب فهذه أربعة أقوال وحكى الشيخ تقي الدين عمن فسره بالكلب المعروف بأنه المعنى العرفي وهو مقدم على اللغوي.

                                                            (الرابعة عشرة) سواء حمل الكلب على مدلوله المعروف أو على كل سبع مفترس فتقييده بالعقور يخرج غيره ويقتضي أن غير العقور من الكلاب محترم لا يجوز قتله وبه صرح الرافعي في كتاب الأطعمة والنووي في البيع في شرح المهذب وزاد أنه لا خلاف فيه بين أصحابنا وقال الرافعي في الحج إن قتله مكروه وقال النووي هناك مراده كراهة تنزيه.

                                                            وذكر الرافعي في الغصب أنه غير محترم وكذا ذكر النووي في التيمم وهذه مواضع مختلفة وقال شيخنا الإسنوي في المهمات جزم بالتحريم القاضي الحسين والماوردي وإمام الحرمين ومذهب الشافعي جواز قتله صرح به في الأم في باب الخلاف في ثمن الكلب انتهى ومن يقول بجواز قتل غير العقور يجيب عن هذا التقييد بأنه للاستحباب وغير العقور يجوز قتله ولا يستحب والله أعلم.

                                                            (الخامسة عشرة) أخرج مالك والشافعي وغيرهما ممن لم يقصر الحكم على الخمس من السباع الضبع والثعلب ومدركه عند الشافعي كونهما مأكولين [ ص: 70 ] لورود النص فيهما وعند مالك كونهما لا يعدوان والقتل خاص بالذي يعدو من السباع لا بجميعها وقال أحمد بإباحة الضبع وعنه في إباحة الثعلب روايتان وأنكر ابن حزم الظاهري إباحة الثعلب وقال لم يرد فيه نص.

                                                            (السادسة عشرة) لم يذكر في ذلك الوزغ وفي الصحيحين من حديث عائشة قال أي النبي صلى الله عليه وسلم للوزغ فويسق ولم أسمعه أمر بقتله .

                                                            وفي الصحيحين أيضا من حديث أم شريك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بقتل الأوزغ .

                                                            وفي صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ وسماه فويسقا .

                                                            قال ابن عبد البر والآثار بذلك متواترة وقد ألحقه أصحابنا بالفواسق الخمس في ندب قتله وورد الترغيب في قتله في عدة أحاديث وذكر ابن عبد البر من طريق ابن عبد الحكم عن مالك أنه قال لا يقتل المحرم الوزغ ومن طريق ابن القاسم وابن وهب وأشهب عنه لا أرى أن يقتل المحرم الوزغ لأنه ليس من الخمس التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهن وقيل لمالك فأن قتل المحرم الوزغ فقال لا ينبغي له أن يقتله وأرى أن يتصدق إن قتله وهو مثل شحمة الأرض.

                                                            وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس من الدواب فليس لأحد أن يجعلها ستا ولا سبعا انتهى قال ابن عبد البر وليس قول من قال لم أسمعه أمر بقتله بشهادة والقول قول من شهد أنه أمر بقتله.

                                                            (قلت) وفي سنن النسائي عن سعيد بن المسيب أن امرأة دخلت على عائشة وبيدها عكاز فقالت ما هذا ؟ فقالت: لهذه الوزغ لأن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أنه لم يكن شيء لا يطفئ على إبراهيم عليه السلام إلا هذه الدابة فأمرنا بقتلها الحديث.

                                                            وحكى ابن عبد البر إجماع العلماء على جواز قتل الوزغ في الحل والحرم وتقدم قول الطحاوي لا يقتل المحرم الوزغ.

                                                            (السابعة عشرة) قوله في الرواية الثانية خمس لا جناح في قتلهن على من قتلهن في الحرم والمحرم .

                                                            كذا في روايتنا في مسند أحمد فالحرم بفتح الحاء والراء المهملتين وهو الحرم المشهور والمحرم اسم فاعل من أحرم ولا بد فيه من حذف يصح به المعنى ولعل تقديره وإحرام المحرم ورواه مسلم في صحيحه من هذا الوجه بلفظ الحرم والإحرام وهو يدل للمضاف المحذوف الذي قدرناه، وبين مسلم أن لفظ شيخيه الراويين [ ص: 71 ] عن سفيان بن عيينة اختلف عليه.

                                                            فقال أحدهما وهو ابن أبي عمر الحرم أي بفتح الحاء والراء كما في روايتنا وقال الآخر وهو زهير بن حرب الحرم بضم الحاء والراء أي في المواضع الحرم جمع حرام كما قال وأنتم حرم

                                                            كذا بين القاضي في المشارق الضبطين فقال وفي رواية في الحرم والإحرام أي في حرم مكة وجاء في رواية زهير في الحرم والإحرام أي في المواضع الحرم جمع حرام كما قال وأنتم حرم انتهى.

                                                            ولم يفهم النووي في شرح مسلم ذلك على وجهه فقال اختلفوا في ضبط الحرم في رواية زهير فضبطه جماعة من المحققين بفتح الحاء والراء أي الحرم المشهور وهو حرم مكة والثاني بضم الحاء والراء ولم يذكر القاضي في المشارق غيره قال وهو جمع حرام كما قال تعالى وأنتم حرم

                                                            قال والمراد به المواضع المحرمة والفتح أظهر انتهى وليس في رواية زهير اختلاف والذي ضبطها به القاضي متعين ولو كانت بالفتح لاتحدت مع رواية ابن أبي عمر وقد بين مسلم رحمه الله المغايرة بينهما وكأن الشيخ رحمه الله لم يتأمل لفظ مسلم ولا أول كلام القاضي وإن كان أحد ضبط رواية زهير الحرم بفتحهما فيتعين أن تكون رواية ابن أبي عمر الحرم بضمهما فإن مسلما رحمه الله قد صرح بالمغايرة بين لفظي شيخيه وأن أحدهما قال بفتحهما والآخر بضمهما فرواية ضمهما واقعة في صحيح مسلم بلا شك والله أعلم.

                                                            وأما قوله في حديث عائشة في الحل والحرم فهو بفتح الحاء والراء بلا شك.

                                                            (الثامنة عشرة) قوله خمس فواسق قال النووي في شرح مسلم هو بإضافة خمس لا بتنوينه وذكر فيه الشيخ تقي الدين في شرح العمدة الوجهين واستدل على التنوين بقوله في حديث عائشة في رواية أخرى في الصحيح خمس من الدواب كلهن فواسق .

                                                            وقال إن رواية الإضافة ربما تشعر بالتخصيص ومخالفة حكم غيرها لها بطريق المفهوم ورواية التنوين تقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى وقد تشعر بأن الحكم المرتب على ذلك وهو القتل معلل بما جعل وصفا وهو الفسق فيقتضي ذلك التيمم لكل فاسق من الدواب وهو ضد ما اقتضاه الأول من المفهوم وهو التخصيص انتهى.

                                                            (التاسعة عشرة) قال النووي وأما تسميته هذه [ ص: 72 ] المذكورات فواسق فصحيحة جارية على وفق اللغة وأصل الفسق في كلام العرب الخروج وسمي الرجل الفاسق لخروجه عن أمر الله تعالى وطاعته فسميت هذه فواسق لخروجها بالإيذاء والإفساد عن طريق معظم الدواب وقيل لخروجها عن حكم الحيوان في تحريم قتله في الحرم والإحرام وقيل فيها أقوال أخر ضعيفة لا نرتضيها انتهى وتقدم من سنن ابن ماجه أنه قيل للراوي لم قيل لها أي الفأرة الفويسقة ؟ فقال لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ لها وقد أخذت الفتيلة لتحرق بها البيت .



                                                            (العشرون) قال النووي في شرح مسلم وفي هذه الأحاديث دلالة للشافعي وموافقيه في أنه يجوز أن يقتل في الحرم كل من يجب عليه قتل بقصاص أو رجم بالزنا أو قتل في المحاربة وغير ذلك وأنه يجوز إقامة كل الحدود فيه سواء كان موجب القتل والحد جرى في الحرم أو خارجه ثم لجأ صاحبه إلى الحرم وهذا مذهب مالك والشافعي وآخرين وقال أبو حنيفة وطائفة ما ارتكبه من ذلك في الحرم يقام عليه فيه وما فعله خارجه ثم لجأ إليه إن كان إتلاف نفس لم يقم عليه في الحرم بل يضيق عليه ولا يكلم ولا يجالس ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج منه فيقام عليه خارجه وما كان دون النفس يقام فيه قال القاضي روي عن ابن عباس وعطاء والشعبي والحكم نحوه لكنهم لم يفرقوا بين النفس ودونها وحجتهم قول الله تعالى ومن دخله كان آمنا وحجتنا عليهم هذه الأحاديث لمشاركة فاعل الجناية لهذه الدواب في اسم الفسق بل فسقه أفحش لكونه مكلفا ولأن التضييق الذي ذكروه لا يبقى لصاحبه أمان فقد خالفوا ظاهر ما فسروا به الآية قال القاضي ومعنى الآية عندنا وعند أكثر المفسرين أنه إخبار عما كان قبل الإسلام وعطف على ما قبله من الآيات وقيل: آمن من النار، وقالت طائفة يخرج ويقام عليه الحد وهو قول ابن الزبير والحسن ومجاهد وحماد انتهى وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة بعد ذكره هذا الاستدلال وهذا عندي ليس بالهين وفيه غور فليتنبه له



                                                            [ ص: 73 ] (الحديث الثالث)

                                                            وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها قالت كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت .

                                                            (فيه) فوائد:

                                                            (الأولى) أخرجه الأئمة الستة فأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي من هذا الوجه من طريق مالك إلا أن في رواية البخاري حين يحرم . وفي رواية أبي داود ولإحلاله وفي رواية النسائي طيبت . وأخرجه مسلم أيضا والترمذي والنسائي من رواية منصور وهو ابن زاذان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك .

                                                            وأخرجه البخاري أيضا والنسائي من رواية يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت طيبت النبي صلى الله عليه وسلم بيدي لحرمه وطيبته بمنى قبل أن يفيض . لفظ البخاري ولفظ النسائي كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأطيب ما أجد لحرمه ولحله وحين يريد أن يزور البيت . وأخرجه مسلم أيضا من رواية أفلح بن حميد [ ص: 74 ] عن القاسم عن عائشة قالت طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي لحرمه حين أحرم ولحله حين حل قبل أن يطوف بالبيت .

                                                            وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من رواية عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة وأخرجه البخاري ومسلم من طريق عمر بن عبد الله بن عروة عن عروة والقاسم عن عائشة قالت طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام .

                                                            وأخرجه الشيخان أيضا من رواية عثمان بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم عند إحرامه بأطيب ما أجد .

                                                            لفظ البخاري ولفظ مسلم بأطيب ما أقدر عليه قبل أن يحرم ثم يحرم .

                                                            وفي لفظ له سألت عائشة بأي شيء طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حرمه ؟ قالت بأطيب الطيب .

                                                            وأخرجه مسلم أيضا من رواية أبي الرجال عن أمه عمرة عن عائشة أنها قالت طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يفيض بأطيب ما وجدت .

                                                            وأخرجه النسائي من رواية سالم وهو ابن عبد الله بن عمر عن عائشة قالت طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه حين أراد أن يحرم وعند إحلاله قبل أن يحل بيدي .

                                                            وأخرجه مسلم والنسائي من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت .

                                                            لفظ مسلم ولفظ النسائي ولحله بعد ما رمى جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت .

                                                            واتفق عليه الشيخان من رواية عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم بأطيب ما يجد حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته .

                                                            لفظ البخاري ولفظ مسلم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته بعد ذلك .

                                                            وله في الصحيحين وغيرهما طرق أخرى كثيرة واقتصرت على إيراد هذه تحريا لمتابعة الأصل فيما أورده من الروايات في النسخة الكبرى وقال ابن عبد البر لم يختلف فيه عن عائشة والأسانيد متواترة به وهي صحاح وقال ابن حزم الظاهري بعد ذكره جملة من طرقه عن عائشة فهذه آثار متواترة متظاهرة رواه عنها عروة والقاسم وسالم بن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عبد الله بن عمر [ ص: 75 ] وعمرة ومسروق وعلقمة والأسود ورواه عن هؤلاء الناس الأعلام.

                                                            (الثانية) فيه استحباب التطيب عند إرادة الإحرام وأنه لا بأس باستدامته بعد الإحرام ولا يضر بقاء لونه ورائحته وإنما يحرم في الإحرام ابتداؤه وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف وأحمد بن حنبل وحكاه ابن المنذر عن سعد بن أبي وقاص وابن الزبير وابن عباس وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي وحكاه الخطابي عن أكثر الصحابة.

                                                            وحكاه ابن عبد البر عن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن جعفر وعائشة وأم حبيبة وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد والشعبي والنخعي وخارجة بن زيد ومحمد بن الحنفية قال واختلف في ذلك عن الحسن وابن سيرين وسعيد بن جبير وقال به النووي والأوزاعي وداود وحكاه النووي عن جمهور العلماء من السلف والخلف والمحدثين والفقهاء وعد منهم غير من قدمنا معاوية وحكاه ابن قدامة عن ابن جريج قال ابن المنذر وبه أقوال.

                                                            وذهب مالك إلى منع أن يتطيب قبل الإحرام بما تبقى رائحته بعده لكنه قال إن فعل فقد أساء ولا فدية عليه وحكى الشيخ أبو الطاهر قولا بوجوب الفدية وعلله بأن بقاء الطيب كاستعماله وقال محمد بن الحسن يكره أن يتطيب قبل الإحرام بما تبقى عينه بعده وحكاه صاحب الهداية من الحنفية عن الشافعي ولا يعرف ذلك في مذهبه وحكى ابن المنذر عن عطاء كراهة الطيب قبل الإحرام وحكاه النووي عن الزهري قال القاضي عياض وحكى أيضا عن جماعة من الصحابة والتابعين وقال ابن عبد البر وممن كره الطيب للمحرم قبل الإحرام عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص وعطاء وسالم بن عبد الله على اختلاف عنه والزهري وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين على اختلاف عنهم وهو اختيار أبي جعفر الطحاوي إلا أن مالكا كان أخفهم في ذلك قولا ذكر ابن عبد الحكم عنه قال: وترك الطيب عند الإحرام أحب إلينا انتهى.

                                                            قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي والذي في الصحيح عن ابن عمر أنه قال ما أحب أن أصبح محرما أنضخ طيبا وليس في هذا التصريح بالمنع منه انتهى وتأول هؤلاء حديث عائشة هذا على أنه تطيب ثم [ ص: 76 ] اغتسل بعده فذهب الطيب قبل الإحرام قالوا ويؤيد هذا قولها في الرواية الأخرى في صحيح مسلم طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه ثم طاف على نسائه ثم أصبح محرما .

                                                            فظاهره أنه إنما تطيب لمباشرة نسائه ثم زال بالغسل بعده لا سيما وقد نقل أنه كان يتطهر من كل واحدة قبل الأخرى فلا يبقى مع ذلك طيب ويكون قولها ثم أصبح ينضخ طيبا أي قبل غسله وقد ثبت في رواية لمسلم أن ذلك الطيب كان ذريرة وهي قناة قصب طيب يجاء به من الهند وهي مما يذهبه الغسل، قالوا وقولها كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم .

                                                            المراد به أثره لا جرمه هذا كلام المالكية قال النووي ولا يوافق عليه بل الصواب ما قاله الجمهور: إن الطيب مستحب للإحرام لقولها طيبته لحرمه وهذا ظاهر في أن الطيب للإحرام لا للنساء ويعضده قولها كأنى أنظر إلى وبيض الطيب والتأويل الذي قالوه غير مقبول لمخالفته الظاهر بلا دليل يحملنا عليه انتهى.

                                                            وقال ابن عبد البر على لسان الذاهبين إلى استحباب الطيب للإحرام لا معنى لحديث ابن المنتشر يعني الذي فيه ثم طاف على نسائه لأنه ليس ممن يعارض به هؤلاء الأئمة لو كان ما كان في لفظه حجة لأن قوله طاف على نسائه يحتمل أن يكون طوافه لغير جماع ليعلمهن كيف يحرمن وكيف يعملن في حجهن أو لغير ذلك والدليل على ذلك ما رواه منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت كان يرى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث وهو محرم .

                                                            قالوا والصحيح في حديث ابن المنتشر ما رواه شعبة عنه عن أبيه عن عائشة فقال فيه فيطوف على نسائه ثم يصبح محرما ينضخ طيبا .

                                                            قالوا والنضخ في كلام العرب اللطخ والظهور ومنه قوله عز وجل فيهما عينان نضاختان

                                                            (الثالثة) قوله في روايتنا قبل أن يحرم هو بمعنى قوله في رواية البخاري وغيره وحين يحرم لأنه لا يمكن أن يراد بالإحرام هنا فعل الإحرام فإن التطيب في الإحرام ممتنع بلا شك وإنما المراد أراد الإحرام وقد دل على ذلك قوله في رواية النسائي حين أراد أن يحرم .

                                                            (الرابعة) حقيقة قولها كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم تطيب بدنه ولا [ ص: 77 ] يتناول ذلك تطييب ثيابه وقد دل على اختصاص ذلك ببدنه الرواية التي فيها حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته .

                                                            وقد اتفق أصحابنا الشافعية على أنه لا يستحب تطيب الثياب عند إرادة الإحرام وشذ المتولي فحكى قولا باستحبابه وصححه في المحرر والمنهاج وفي جوازه عندهم والأصح الجواز فإذا قلنا بجوازه فنزعه ثم لبسه ففي وجوب الفدية وجهان صحح البغوي وغيره الوجوب .

                                                            (الخامسة) استدل به على أن كان لا تقتضي التكرار لأن عائشة رضي الله عنها لم تكن معه عليه الصلاة والسلام في إحرامه إلا مرة واحدة وهي حجة الوداع ذكره النووي في شرح مسلم في غير هذا الموضع وفيه نظر لأن المدعى تكراره إنما هي التطيب لا الإحرام ويمكن تكرير التطيب لأجل الإحرام مع الإحرام مرة واحدة وقد صحح صاحب المحصول أنها لا تقتضي التكرار عرفا ولا لغة وقال النووي إنه المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين وصحح ابن الحاجب أنها تقتضيه قال، ولهذا استفدناه من قولهم كان حاتم يقري الضيف وذكر الشيخ تقي الدين في شرح العمدة أنها تدل عليه عرفا لا لغة والله أعلم.



                                                            (السادسة) فيه دليل على إباحة التطيب بعد رمي جمرة العقبة والحلق وقبل طواف الإفاضة وهو المراد بالطواف هنا وإنما قلنا بعد رمي جمرة العقبة والحلق لأنه عليه الصلاة والسلام رتب هذه الأفعال يوم النحر هكذا فرمى ثم حلق ثم طاف فلولا أن التطيب كان بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها قبل أن يطوف بالبيت قال النووي في شرح مسلم وهذا مذهب الشافعي والعلماء كافة إلا مالكا فكرهه قبل طواف الإفاضة وهو محجوج بهذا الحديث وكذا حكاه القاضي عياض عن عامة العلماء وقال الترمذي في جامعه روي عن عمر بن الخطاب أنه قال حل له كل شيء إلا النساء والطيب وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم وهو قول أهل الكوفة ، انتهى وهذا الذي حكاه عن أهل الكوفة ليس بمعروف عنهم وفي كتب الحنفية كالهداية وغيرها [ ص: 78 ] الجزم بحل الطيب قبل الطواف ثم إن مالكا مع قوله باستمرار تحريم الطيب يقول إنه لا فدية عليه لو تطيب بخلاف الصيد فإنه ممنوع منه عنده قبل الطواف كالطيب عنده ومع ذلك فيقول بلزوم الفدية لو اصطاد وهو محتاج إلى الفرق بينهما وحكي عن بعض أهل الكوفة القول بتحريم الطيب قبل الطواف وبلزوم الفدية لو تطيب وهو القياس أعني لزوم الفدية على القول بالتحريم وبالفدية يقول الشافعية تفريعا على قول شاذ حكاه بعضهم أن الطيب يستمر تحريمه إلى أن يطوف وأنكر جماعة منهم هذا القول وقطعوا بجوازه والله أعلم .



                                                            (السابعة) هذا الذي ذكرناه من توقف حل الطيب قبل الطواف على الرمي والحلق مبني على أن الحلق نسك وهو أشهر قولي الشافعي وأصحهما فإن فرعنا على قوله للآخر أنه ليس بنسك حل الطيب بمجرد الرمي وإن لم يحلق وجمهور العلماء على أن الحلق نسك وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد قال النووي في شرح المهذب وظاهر كلام ابن المنذر والأصحاب أنه لم يقل بأنه ليس بنسك غير الشافعي في أحد قوليه ولكن حكاه القاضي عياض عن عطاء وأبي ثور وأبي يوسف أيضا انتهى وهو رواية عن أحمد مذكورة في مختصرات كتب الحنابلة .



                                                            (الثامنة) استدل بقولها لحله قبل أن يطوف على أنه حصل له تحلل قبل الطواف قال النووي في شرح مسلم وهذا متفق عليه ويوافقه كلامه في شرح المهذب فإنه أورد فيه من سنن أبي داود حديث أم سلمة مرفوعا فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حرما كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به . وقال إنه حديث صحيح ثم حكى عن البيهقي أنه قال لا أعلم أحدا من الفقهاء قال به، ثم قال النووي فيكون الحديث منسوخا دل الإجماع على نسخه فإن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ لكن يدل على ناسخ (قلت) وكذا قال البيهقي في الخلافيات يشبه إن كان قد حفظه ابن يسار صار منسوخا

                                                            ويستدل بالإجماع في جواز لبس المخيط بعد التحلل الأول على نسخه انتهى لكن الخلاف في ذلك موجود قال ابن المنذر في الإشراف لما حكى الخلاف فيما أبيح للحاج بعد الرمي وقبل الطواف وفيه قول خامس وهو أن المحرم [ ص: 79 ] إذا رمى الجمرة يكون في ثوبيه حتى يطوف بالبيت.

                                                            كذلك قال أبو قلابة وقال عروة بن الزبير من أخر الطواف بالبيت يوم النحر إلى يوم النفر فإنه لا يلبس القميص ولا العمامة ولا يتطيب وقد اختلف فيه عن الحسن البصري وعطاء والثوري انتهى.

                                                            وإذا قلنا بقول الجمهور فاختلف العلماء في كيفية ذلك التحلل فقال ابن حزم الظاهري حل من كل وجه وليس للحج إلا تحلل واحد، فيباح له سائر المحرمات على المحرم إلا الجماع فإنه مستمر التحريم إلى أن يطوف طواف الإفاضة وليس ذلك لأنه بقي عليه شيء من إحرامه بل انقضى إحرامه كله ولكن الجماع محرم على من هو في الحج وإن لم يكن محرما وما دام يبقى من فرائض الحج شيء فهو يعد في الحج وإن لم يكن محرما وسبقه إلى ذلك الشيخ أبو حامد شيخ العراقيين من الشافعية فقال ليس للحج إلا تحلل واحد فإذا رمى جمرة العقبة زال إحرامه وبقي حكمه حتى يحلق ويطوف كما أن الحائض إذا انقطع دمها زال الحيض وبقي حكمه وهو تحريم وطئها حتى تغتسل.

                                                            حكاه عنه صاحبه القاضي أبو الطيب وقال هذا غلط لأن الطواف أحد أركان الحج فكيف يزول الإحرام وبعض الأركان باق وهذان القائلان وإن اتفقا على تحلل واحد فقد اختلفا في ذلك التحلل فقال الشيخ أبو حامد هو بما سنحكيه بعد هذا عن الشافعية وقال ابن حزم هو دخول وقت الرمي بطلوع الشمس يوم النحر فإذا دخل وقت الرمي حل المحرم سواء رمى أو لم يرم لأنه عليه الصلاة والسلام صح عنه جواز تقديم الطواف والذبح والرمي والحلق بعضها على بعض فإذا دخل وقتها بطل الإحرام وإن لم يفعل شيئا منها وسبقه إلى ذلك أبو سعيد الإصطخري من أئمة الشافعية .

                                                            فقال إذا دخل وقت الرمي حصل التحلل الأول وإن لم يرم وحكى صاحب التقريب وجها شاذا أنا إذا لم نجعل الحلق نسكا حصل له التحلل الأول بمجرد طلوع الفجر يوم النحر وقائلا هذين القولين لا يوافقان ابن حزم على أن للحج [ ص: 80 ] تحللا واحدا فمقالته مركبة من أمرين قال بكل منهما بعض الشافعية ولا نعلم له سلفا في مجموع مقالته والله أعلم.

                                                            وقال جمهور الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة للحج تحللان ثم اختلفوا في أمرين أحدهما فيما يحصل به التحلل الأول فقال الشافعية إن قلنا إن الحلق نسك وهو الصحيح المشهور حصل التحلل الأول بفعل أمرين من ثلاثة أمور وهي رمي جمرة العقبة والحلق وطواف الإفاضة مع سعيه إن لم يكن سعى عقب طواف القدوم فإذا فعل اثنين منها أي اثنين كانا حصل التحلل الأول وإن قلنا إن الحلق ليس نسكا حصل التحلل الأول بواحد من الرمي والطواف فأيهما فعله أولا حل التحلل الأول وعند أصحابنا يجوز تقديم بعض هذه الأمور على بعض وترتيبها بتقديم الرمي ثم الحلق ثم الطواف مستحب فقط.

                                                            قالوا ولو لم يرم جمرة العقبة حتى خرجت أيام التشريق فات الرمي ولزمه دم ويصير كأنه رمى بالنسبة لحصول التحلل به والأصح عند الرافعي والنووي أنه يتوقف تحلله على الإتيان ببدله لكن نص الشافعي على خلافه وحكى الرافعي وجها شاذا أنه يحصل التحلل الأول بالرمي وحده أو الطواف وحده ولو قلنا الحلق نسك وقال الحنابلة يحصل التحلل الأول بالرمي والحلق.

                                                            وقال المالكية للحج تحللان يحصل أحدهما برمي جمرة العقبة والآخر بطواف الإفاضة ولو قدم طواف الإفاضة على جمرة العقبة قال مالك وابن القاسم : يجزئه وعليه هدي وعن مالك أيضا لا يجزئه وهو كمن لم يفض وقال أصبغ أحب إلي أن يعيد الإفاضة وهو في يوم النحر آكد.

                                                            وقال الحنفية إن التحلل الأول بالحلق خاصة دون الرمي والطواف فليسا من أسباب التحلل وفرقوا بأن التحلل هو الجناية في غير أوانها وذلك مختص بالحلق وأما ذبح الهدي فليس مما يتوقف عليه التحلل إلا أن الحنفية والحنابلة قالوا إن المتمتع إذا كان معه هدي لا يحل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر وقد قدمت بيان ذلك ومخالفة الجمهور لهم.

                                                            وقال الترمذي في جامعه في الكلام على هذا الحديث والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 81 ] وغيرهم يرون أن المحرم إذا رمى جمرة العقبة يوم النحر وذبح وحلق أو قصر فقد حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي : فيه نظر من حيث إن المذكورين لا يتوقف عندهم التحلل الأول على الذبح ثم حكى مقالة أبي حنيفة وأحمد في المتمتع الذي ساق الهدي وقد تقدمت ا هـ.

                                                            وقال شيخنا الإمام جمال الدين الإسنوي رحمه الله في المهمات: اتفق الأصحاب على أنه لا مدخل للذبح في التحلل (قلت) يشكل على ذلك ما أجاب به أصحابنا من حديث عائشة في الصحيح من أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه فقالوا تقديره ومن أحرم بعمرة وأهدى فليهلل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه وقد قدمته في الباب قبله في الكلام على حديث حفصة وممن ذكره النووي وقال ولا بد من هذا التأويل انتهى ومقتضاه أن الحاج لا يحل حتى ينحر هديه وفي سنن الدارقطني والبيهقي من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رميتم وحلقتم وذبحتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء .

                                                            لكنه حديث ضعيف مداره على الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف ومع ذلك فاضطرب في إسناده ولفظه ورواه أبو داود بلفظ إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء ومقتضى كلام النووي في شرح المهذب أن في رواية أبي داود ذكر الحلق أيضا وليس كذلك.

                                                            (الأمر الثاني) فيما يحل بالتحلل الأول وقد اتفق هؤلاء على أنه يحل به ما عدا الجماع ومقدماته وعقد النكاح والصيد والطيب وأجمعوا على أنه لا يحل الجماع واختلفوا في بقية هذه الأمور فقال الشافعية يحل الصيد والطيب واختلفوا في عقد النكاح والمباشرة فيما دون الفرج وفيه قولان للشافعي أصحهما التحريم كذا صححه النووي ونقله عن الأكثرين وذكر الرافعي أن القائلين به أكثر عددا وقولهم أوفق لظاهر النص في المختصر لكنه صحح في الشرح الصغير الحل واقتضى كلامه في المحرر التفصيل بين المسألتين فصرح بإباحة عقد النكاح بالأول وجعل [ ص: 82 ] المباشرة داخلة فيما يحل بالثاني وكلام الحنابلة موافق للمرجح عندنا وعبارة الشيخ مجد الدين بن تيمية في المحرر ثم قد حل من كل شيء إلا النساء وعنه يحل إلا من الوطء في الفرج وكذا مذهب الحنفية قال صاحب الهداية وقد حل له كل شيء إلا النساء ثم قال ولا يحل الجماع فيما دون الفرج عندنا خلافا للشافعي فنصب الخلاف معه على أحد قوليه وأما عقد النكاح فهو جائز عندهم في الإحرام وقال المالكية يستمر تحريم النساء والصيد والطيب إلا أنهم أوجبوا في الصيد الجزاء ولم يوجبوا في الطيب الفدية كما تقدم قال ابن حزم الظاهري وهذا عجب فإن احتجوا بالأثر الوارد في تطييب النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يطوف بالبيت (قلنا) لا يخلو هذا الأثر من أن يكون صحيحا ففرض عليكم ألا تخالفوه وقد خالفتموه أو غير صحيح فلا تراعوه وأوجبوا الفدية على من تطيب كما أوجبتموها على من تصيد وقال ابن عبد البر راعى مالك الاختلاف في هذه المسألة فلم ير الفدية على من تطيب بعد رمي جمرة العقبة وقبل الإفاضة وقال أبو العباس القرطبي اعتذر بعض أصحابنا عن هذا الحديث بادعاء خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك (قلنا) الأصل التشريع وعدم التخصيص والقول بالتخصيص يحتاج إلى دليل وليس ثم دليل على ذلك فإن قالوا الطيب من مقدمات الجماع والدواعي إليه والنبي صلى الله عليه وسلم يملك إربه بخلاف غيره كما قالت عائشة في حقه صلى الله عليه وسلم في القبلة للصائم وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه وقال ابن المنذر : اختلف أهل العلم فيما أبيح للحاج بعد رمي جمرة العقبة قبل الطواف بالبيت فقال عبد الله بن الزبير وعائشة وعلقمة وسالم بن عبد الله وطاوس والنخعي وعبد الله بن حسن وخارجة بن زيد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي يحل له كل شيء إلا النساء وروينا ذلك عن ابن عباس وقال عمر بن الخطاب وابن عمر يحل كل شيء إلا النساء والطيب وقال مالك له كل شيء إلا النساء والطيب والصيد وقد اختلف فيه عن إسحاق فذكر إسحاق بن منصور عنه ما ذكرناه وذكر أبو داود الخفاف عنه أنه قال يحل له كل شيء إلا النساء والصيد ثم قال وفيه قول خامس فذكر كلامه الذي قدمته في صدر هذه الفائدة



                                                            [ ص: 83 ] (التاسعة) فيه استحباب الطيب بعد التحلل الأول قبل الطواف لما دل عليه لفظ كان من تكرير ذلك وقد نص عليه الشافعي وتابعه أصحابه وفيه استحباب الطيب مطلقا لأنه إذا فعل في هذه الحالة التي من شأنها الشعث فغيرها أولى.

                                                            (العاشرة) وفيه طهارة المسك وهو مجمع عليه إلا في قول شاذ لا يعتد به .




                                                            الخدمات العلمية