الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            كتاب الفرائض

                                                            عن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أولى الناس بالمؤمنين في كتاب الله عز وجل فأيكم ما ترك دينا أو ضيعة فادعوني فأنا وليه وأيكم ما ترك مالا فليورث عصبته من كان وفي رواية لمسلم وأيكم ترك مالا فإلى العصبة من كان وللبخاري فمن مات وترك مالا فماله لموالي العصبة وفي رواية لهما ومن ترك مالا فلورثته .

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 227 ] كتاب الفرائض

                                                            (الحديث الأول)

                                                            عن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أولى الناس بالمؤمنين في كتاب الله عز وجل فأيكم ما ترك دينا أو ضيعة فادعوني وأنا وليه، وأيكم ما ترك مالا فليورث عصبته من كان .

                                                            (فيه) فوائد:

                                                            (الأولى) أخرجه مسلم من هذا الوجه عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق ، وأخرجه الأئمة الستة خلا أبا داود من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل هل ترك لدينه فضلا فإن حدث أنه ترك لدينه وفاء وإلا قال للمسلمين صلوا على صاحبكم فلما فتح الله عليه الفتوح قال أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته لفظ البخاري وقال الباقون (قضاء) بدل (فضلا)، وكذا هو عند بعض رواة البخاري ، وأخرجه الشيخان ، وأبو داود من رواية أبي حازم عن أبي هريرة بلفظ من ترك مالا فلورثته ومن ترك كلا فإلينا وفي لفظ لمسلم وليته وأخرجه البخاري والنسائي من رواية أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وترك مالا فماله لموالي العصبة ومن ترك كلا أو [ ص: 228 ] ضياعا فأنا وليه فلا دعي له .

                                                            وأخرجه البخاري من رواية عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة بلفظ ما من مؤمن إلا، وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه ، وأخرجه مسلم من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ والذي نفس محمد بيده إن على الأرض من مؤمن إلا، وأنا أولى الناس به فأيكم ما ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه، وأيكم ما ترك مالا فإلى العصبة من كان .

                                                            (الثانية) قوله أنا أولى الناس بالمؤمنين إنما قيد ذلك بالناس ؛ لأن الله تعالى أولى بهم منه وقوله في كتاب الله عز وجل أشار به إلى قوله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وقد صرح بذلك في رواية البخاري من طريق عبد الرحمن بن أبي عمرة

                                                            كما تقدم فإن قلت الذي في الآية الكريمة أنه أولى بهم من أنفسهم ودل الحديث على أنه أولى بهم من سائر الناس ففيه زيادة (قلت) إذا كان أولى بهم من أنفسهم فهو أولى بهم من بقية الناس من باب الأولى ؛ لأن الإنسان أولى بنفسه من غيره فإذا تقدم للنبي صلى الله عليه وسلم على النفس فتقدمه في ذلك على الغير من طريق الأولى، وحكى ابن عطية في تفسيره عن بعض العلماء العارفين أنه قال: هو أولى بهم من أنفسهم ؛ لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك وهو يدعوهم إلى النجاة قال ابن عطية ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها تقحم الفراش .

                                                            (الثالثة) يترتب على كونه عليه الصلاة والسلام أولى بهم من أنفسهم أنه يجب عليهم إيثار طاعته على شهوات أنفسهم، وإن شق ذلك عليهم، وأن يحبوه أكثر من محبتهم لأنفسهم ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وفي رواية أخرى من أهله وماله والناس أجمعين وهو في الصحيحين عن أنس ولما قال عمر رضي الله عنه لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي قال له والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال له عمر فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم الآن يا عمر

                                                            رواه البخاري في صحيحه قال الخطابي لم [ ص: 229 ] يرد به حب الطبع بل أراد به حب الاختيار ؛ لأن حب الإنسان نفسه طبع ولا سبيل إلى قلبه قال فمعناه لا تصدق في حبي حتى تفني في طاعتي نفسك وتؤثر رضاي على هواك، وإن كان فيه هلاكك.

                                                            (الرابعة) استنبط أصحابنا الشافعية من هذه الآية الكريمة أن له عليه الصلاة والسلام أن يأخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج عليه الصلاة والسلام إليهما وعلى صاحبهما البذل ويفدي بمهجته مهجة رسول الله عليه الصلاة والسلام وأنه لو قصده عليه الصلاة والسلام ظالم وجب على من حضره أن يبذل نفسه دونه، وهو استنباط واضح، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية ما له في ذلك من الحظ، وإنما ذكر ما هو عليه فقال: أيكم ما ترك دينا أو ضيعة فادعوني فأنا وليه وترك حظه فقال: وأيكم ما ترك مالا فليورث عصبته من كان .



                                                            (الخامسة) قوله فأيكم ما ترك دينا أو ضيعة لفظة " ما " زائدة للتأكيد والضيعة بفتح الضاد وإسكان الياء المثناة من تحت بعدها عين مهملة وفي رواية أخرى ضياعا بفتح الضاد والمراد بهما هنا عيال محتاجون ضائعون قال الخطابي : الضياع والضيعة هنا وصف لورثة الميت بالمصدر أي ترك أولادا أو عيالا ذوي ضياع أي لا شيء لهم والضياع في الأصل مصدر ما ضاع وجعل اسما لكل ما يعرض للضياع، وكذا قوله في رواية أخرى كلا وهو بفتح الكاف وتشديد اللام قال الخطابي وغيره: المراد به هنا العيال، وأصله الثقل.

                                                            (السادسة) قال ابن عطية أزال الله بهذه الآية أحكاما كانت في صدر الإسلام.

                                                            (منها) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين فقال حين نزلت هذه الآية أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا أو ضياعا فعلي أنا وليه اقرءوا إن شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم انتهى.

                                                            والذي تقدم من الصحيحين وغيرهما أنه عليه الصلاة والسلام فعل ذلك حين فتح الفتوح واتساع الأموال وكيف كان فهذا الحكم وهو " امتناعه عليه الصلاة والسلام من الصلاة على من مات وعليه دين " منسوخ بلا شك فصار يصلي عليه ويوفي دينه كما ثبت في الأحاديث الصحيحة وهل كان ذلك محرما عليه أم لا فيه خلاف لأصحابنا الشافعية حكاه أبو العباس الروياني [ ص: 230 ] في الجرجانيات وحكى خلافا أيضا في أنه هل كان يجوز له أن يصلي مع وجود الضامن. وقال النووي : الصواب الجزم بجوازه مع وجود الضامن. انتهى.

                                                            والظاهر أن ذلك لم يكن محرما عليه، وإنما كان يفعله ليحرض الناس على قضاء الدين في حياتهم والتوصل إلى البراءة منه لئلا تفوتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فلما فتح الله عليه الفتوح صار يصلي عليهم ويقضي دين من لم يخلف وفاء كما تقدم، والله أعلم .



                                                            (السابعة) فيه أنه عليه الصلاة والسلام صار يوفي دين من مات وعليه دين ولم يخلف وفاء وهل كان ذلك واجبا عليه أو كان يفعله تكرما وتفضلا فيه خلاف عند الشافعية والأشهر عندهم وجوبه وعدوه من الخصائص واختلف أصحابنا في أنه هل يجب على الأئمة بعده قضاء دين المعسر من مال المصالح أم لا واختلف في أنه عليه الصلاة والسلام كان يقضيه من مال المصالح أو من خالص مال نفسه ولعل الخلاف في وجوب ذلك على الأئمة بعده مبني على هذا الخلاف .



                                                            (الثامنة) فيه قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالعيال الذين لا مال لهم ، وهذا واجب عليه وعلى الأئمة بعده من مال المصالح قال الخطابي كان الشافعي يقول ينبغي للإمام أن يحصي جميع ما في البلدان من المقاتلة وهم من قد احتلم أو استكمل خمس عشرة من الرجال ويحصي الذرية وهي من دون المحتلم ودون البالغ والنساء صغيرتهن وكبيرتهن ويعرف قدر نفقاتهم وما يحتاجون إليه من مؤناتهم بقدر معاش مثلهم في بلدانهم ثم يعطي المقاتلة في كل عام عطاءهم والعطاء الواجب من الفيء لا يكون إلا لبالغ يطيق مثله الجهاد ثم يعطي الذرية والنساء ما يكفيهم لسنتهم في كسوتهم ونفقتهم. قال: ولم يختلف أحد لقيناه في أن ليس للمماليك في العطاء حق، ولا للأعراب الذين هم أهل الصدقة. قال: وإن فضل من المال شيء بعدما وصفت وضعه الإمام في إصلاح الحصون والازدياد في الكراع وكل ما قوي به المسلمون فإن استغنى المسلمون، وكملت كل مصلحة لهم فرق ما يبقى منه بينهم كله على قدر ما يستحقونه في ذلك المال. قال: ويعطي من الفيء رزق الحكام وولاة الأحداث والصلاة بأهل الفيء وكل من قام بأمر الفيء من وال وكاتب وجندي ممن لا غنى لأهل الفيء عنه رزق مثله. انتهى .



                                                            (التاسعة) [ ص: 231 ] قوله وأيكم ما ترك مالا ما زائدة كما تقدم وذكر المال خرج مخرج الغالب فإن الحقوق تورث كالأموال.

                                                            وقوله فليورث بضم الياء وفتح الواو والراء وتشديدها.

                                                            وقوله عصبته مرفوع لنيابته عن الفاعل ويحتمل نصبه ويكون النائب عن الفاعل ضميرا يعود على الميت أي فليورث هو عصبته والأول هو المعروف.

                                                            وقوله من كان أي العصبة هذا على الأول ويدل له قوله في رواية أخرى من كانوا، وعلى الاحتمال الذي قدمناه يكون المراد من كان الميت والعصبة الأقارب من جهة الأب كذا عرفه أهل اللغة ومنهم الجوهري وصاحب النهاية: قال الجوهري وإنما سموا عصبة ؛ لأنهم عصبوا به أي أحاطوا به فالأب طرف والابن طرف والعم جانب والأخ جانب.

                                                            وقال صاحب النهاية: لأنهم يعصبونه ويعتصب بهم أي يحيطون به ويشتد بهم. وقال صاحب المحكم: العصبة الذين يرثون الرجل عن كلالة من غير والد ولا ولد فأما في الفرائض فكل من لم يكن له فريضة مسماة فهو عصبة إن بقي شيء بعد الفرض أخذ. وقال صاحب المشارق: عصبة المواريث هم الكلالة من الورثة من عدا الآباء والأبناء الأدنياء، وتكون أيضا في المواريث كل من ليس له فرض مسمى وكلام الجوهري يقتضي أن العصبة مفرد فإنه قال: إن جمعه العصبات وحكى القاضي في المشارق أنه قيل: إن العصبة جماعة ليس لها واحد وعرف أصحابنا الفقهاء العصبة بأنه من ورث بالإجماع ولا فرض له واحترزوا بقولهم بالإجماع عن ذوي الأرحام فإن من ورثهم لا يسميهم عصبة.

                                                            وأورد على هذا التعريف أمران:

                                                            (أحدهما) أن لنا من يرث بالتعصيب وهو ذو فرض كابن عم هو أخ لأم أو زوج.

                                                            (الثاني) أن لنا من في إرثه خلاف وهو عند من ورثه عصبة كالقاتل والتوأمين المنفيين باللعان فينبغي أن يقال من ورث لمجمع على التوريث بمثله بلا تقدير ثم قسم أصحابنا العصبة إلى عصبة بنفسه وعصبة بغيره ومنهم من زاد قسما ثالثا وهو عصبة مع غيره وعرف جماعة منهم أبو إسحاق الشيرازي والرافعي العصبة بنفسه بأنه كل ذكر يدلي إلى الميت بغير واسطة أو بتوسط محض الذكور، وأورد على هذا أنه يتناول الزوج فإنه يدلي إلى الميت بغير واسطة مع أنه ليس عصبة ويخرج عنه المولاة المعتقة مع أنها عصبة ولهذا قال النووي ينبغي أن [ ص: 232 ] يقال هو كل معتق ذكر نسيب إلى آخر ما تقدم.

                                                            (العاشرة) قوله فليورث عصبته هو مثل قوله في رواية مسلم فإلى العصبة من كان وفي رواية للبخاري فماله لموالي العصبة والظاهر أنه من إضافة الموصوف لصفته، وأصله للموالي العصبة واحترز بذلك عن الموالي الذين ليسوا عصبة فقد يكون الرجل مولى بقرابة إناث أو بإعتاق من أسفل أو بنصر أو بغير ذلك وليس عصبة فلا إرث له وفي رواية أخرى في الصحيحين فلورثته وهذه أعم لتناولها أصحاب الفروض أيضا وذوي الأرحام عند من يورثهم والظاهر أنه إنما اقتصر في الرواية الأخرى على العصبة ؛ لوضوح أمر أصحاب الفروض، والنص على توريثهم في القرآن الكريم .



                                                            (الحادية عشرة) استدل به البخاري على أن المرأة إذا توفيت عن ابني عم (أحدهما) أخ لأم (والآخر) زوج أن للزوج النصف وللأخ من الأم السدس، والباقي بينهما نصفين، وحكاه عن علي بن أبي طالب ووجهه أنهما متساويان في العصوبة فيقسم الباقي بعد فرضيها بينهما نصفين؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال فماله للعصبة فلا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر في ذلك بلا مرجح وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي وفي وجه في مذهب الشافعي أن الباقي كله للأخ من الأم لزيادته بقرابة الأم فأشبه الأخ الشقيق مع الأخ للأب، وهذا ضعيف والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية