الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله ، وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة .

                                                            التالي السابق


                                                            الحديث الثاني ، وعنه .

                                                            أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله ، وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة . (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) أخرجه البخاري من هذا الوجه من طريق مالك ، ومسلم من طريق المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ، وله عندهما غير هذا الطريق .

                                                            (الثانية) قوله (تكفل الله) وفي رواية أخرى في الصحيح تضمن الله ، ومعناهما أوجب الله تعالى له الجنة بفضله وكرمه ، وهذا الضمان ، والكفالة موافق لقوله تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة الآية .

                                                            (الثالثة) قوله وتصديق كلمته أي كلمة الشهادتين فيعادي من أباهما ، وقيل تصديق كلام الله تعالى بما للمجاهدين من عظيم الثواب .

                                                            (الرابعة) وفيه اعتبار الإخلاص في الأعمال ، وأنه لا يزكو منها إلا ما كان خالصا لله تعالى ، وفي قوله من بيته إشارة إلى وجود هذا القصد من ابتداء ذلك العمل .



                                                            (الخامسة) قوله (أن يدخله الجنة) قال القاضي عياض يحتمل أن يدخله عند موته كما قال تعالى في الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون وفي الحديث أرواح الشهداء في الجنة [ ص: 195 ] ويحتمل أن يكون دخر له الجنة عند دخول السابقين ، والمقربين بلا حساب ، ولا عذاب ، ولا مؤاخذة بذنب ، وتكون الشهادة مكفرة لذنبه كما صرح به في الحديث الصحيح .

                                                            (السادسة) قوله أو يرجعه بفتح الياء وإسكان الراء وكسر الجيم ، وقوله إلى مسكنه بكسر الكاف وفتحها لغتان حكاهما الجوهري وغيره ، وقوله والذي خرج منه تأكيد لما جبل عليه الإنسان من محبة الوطن .



                                                            (السابعة) ظاهر قوله مع ما نال من أجر أو غنيمة أنهما لا يجتمعان لأن أو لأحد الشيئين فمتى حصلت للمجاهد غنيمة لا أجر له ، ولا أعلم قائلا بذلك ، وإنما نقل ابن عبد البر عن قوم أن الغنيمة تنقص من أجر الغانم لحديث رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من سرية أسرت فأخفقت أي لم تغنم شيئا إلا كتب لها أجرها مرتين قالوا وفي هذا ما يدل على أن العسكر إذا لم يغنم كان أعظم لأجره ، قالوا واحتجوا أيضا بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من غازية تغزو في سبيل الله فتصيب غنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ، ويبقى لهم الثلث فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم ، والحديث رواه مسلم ، وغيره قال ابن عبد البر ، وهذا إنما فيه تعجيل بعض الأجر مع التسوية فيه للغانم وغير الغانم إلا أن الغانم عجل له ثلثا أجره ، وهما مستويان في جملته ، وقد عوض الله من لم يغنم في الآخرة ما فاته من الغنيمة ، والله يضاعف لمن يشاء ، وقال النووي في ذلك الحديث : الصواب الذي لا يجوز غيره أن معناه أن الغزاة إذا سلموا وغنموا يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم ، أو سلم ولم يغنم ، وأن الغنيمة هي في مقابلة جزء من أجر غزوهم فإذا حصلت لهم فقد تعجلوا ثلثي أجرهم المترتب على الغزو ، وتكون هذه الغنيمة من جملة الأجر ، وهذا يوافق للأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة كقوله منا من مات ، ولم يأكل من أجره شيئا ، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها أي يجنيها ، قال : ولم يأت حديث صريح صحيح يخالف هذا ، واختار القاضي عياض معنى ما ذكرته بعد حكايته أقوالا فاسدة (منها) قول من زعم أن هذا الحديث ليس بصحيح ، ولا يجوز أن ينقص ثوابهم بالغنيمة كما لم ينقص ثواب أهل بدر ، وهم أفضل المجاهدين ، وهي أفضل [ ص: 196 ] غنيمة قال : وزعم بعض هؤلاء أن أبا هانئ حميد بن هانئ راويه مجهول ، ورجحوا الحديث السابق في أن المجاهد يرجع بما ينال من أجر ، وغنيمة فرجحوه على هذا الحديث لشهرته وشهرة رجاله ، ولأنه في الصحيحين ، وهذا في مسلم خاصة ، وهذا القول باطل من أوجه فإنه لا تعارض بينه وبين هذا الحديث المذكور فإن الذي في الحديث السابق رجوعه بما نال من أجر وغنيمة ، ولم يقل إن الغنيمة تنقص الأجر أم لا ، ولا قال أجره كأجر من لم يغنم فهو مطلق ، وهذا مقيد فوجب حمله عليه ، وأما قولهم أبو هانئ مجهول فغلط فاحش بل هو ثقة مشهور روى عنه الليث بن سعد ، وحيوة ، وابن وهب ، وخلائق من الأئمة ، ويكفي في توثيقه احتجاج مسلم به في صحيحه ، وأما قولهم إنه ليس في الصحيحين فليس بلازم في صحة الحديث كونه في الصحيحين ، ولا في أحدهما ، وأما قولهم في غنيمة بدر فليس في غنيمة بدر نص أنهم لو لم يغنموا لكان أجرهم على قدر أجرهم ، وقد غنموا فقط ، وكونهم مغفورا لهم مرضيا عنهم ، ومن أهل الجنة لا يلزم منه أن لا يكون وراء هذا مرتبة أخرى هي أفضل منه مع أنه شديد الفضل عظيم القدر ، ومن الأقوال الباطلة ما حكاه القاضي عن بعضهم أنه قال لعل الذي تعجل ثلثي أجره إنما هو في غنيمة أخذت على غير وجهها ، وهذا غلط فاحش إذ لو كانت على خلاف وجهها لم يكن ثابت الأجر ، وزعم بعضهم أن التي أخفقت يكون لها أجر بالأسف على ما فاتها من الغنيمة فيضاعف ثوابها كما يضاعف لمن أصيب في ماله وأهله ، وهذا القول فاسد مباين لصريح الحديث ، وزعم بعضهم أن الحديث محمول على أن من خرج بنية الغزو والغنيمة معا ينقص ثوابه ، وهذا أيضا ضعيف ، والصواب ما قدمناه انتهى .

                                                            والجواب عن هذا الحديث أن معناه مع ما نال من أجر بلا غنيمة إن لم يغنم أو من أجر وغنيمة معا إن غنم فالأجر حاصل على كل حال ، وهو مقدر في الشق الثاني مع الغنيمة ، وإن لم يصرح بذكره ، وكيف [ يكون ] المجاهد المخلص بلا أجر مع كونه كالصائم القائم الدائم الذي لا يفتر فمن هو بهذه الصفة يمكن أن يكون بلا أجر ، وقد امتن الله تعالى علينا بإباحة الغنائم لنا ، ولو كان حصولها مانعا من الأجر لم تحصل بها المنة بل هي حينئذ نقمة ، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان [ ص: 197 ] رضي الله عنه في قصة بدر بسهمه وأجره ، وهو صريح في اجتماعهما ، وقال بعضهم (أو) في هذا الحديث بمعنى الواو أي من أجر وغنيمة وكذا وقع بالواو في رواية أبي داود وكذا حكاه القاضي عياض والنووي عن رواية مسلم من طريق المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي .




                                                            الخدمات العلمية