الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            كتاب الطهارة أخبرنا محمد بن محمد بن إبراهيم الميدومي وأخبرنا عبد اللطيف بن عبد المنعم قال أخبرنا عبد الوهاب بن علي وعبد الرحمن بن أحمد العمري ، والمبارك بن المعطوش قالوا أخبرنا هبة الله بن محمد قال أخبرنا محمد بن محمد بن إبراهيم البزاز قال أخبرنا محمد بن عبد الله الشافعي قال حدثنا عبد الله بن روح المدائني ومحمد بن ربح البزاز قالا : حدثنا زيد بن هارون حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص يقول : سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 2 ] كتاب الطهارة أخبرنا محمد بن إبراهيم الميدومي قال أخبرنا عبد اللطيف بن عبد المنعم قال أخبرنا عبد الوهاب بن علي وعبد الرحمن بن أحمد العمري ، والمبارك بن المعطوش قالوا أخبرنا هبة الله بن محمد قال أخبرنا محمد بن محمد بن إبراهيم البزاز قال أخبرنا محمد بن عبد الله الشافعي قال حدثنا عبد الله بن روح المدائني ومحمد بن ربح البزاز قالا حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص يقول سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله ومن كانت [ ص: 3 ] هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه

                                                            فيه فوائد :

                                                            (الأولى) حديث عمر أخرجه الأئمة الستة فأخرجه مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير وابن ماجه عن أبي بكر بن شيبة كلاهما عن يزيد بن هارون فوقع بدلا لهما عاليا بدرجتين واتفق عليه الشيخان من رواية مالك وحماد بن زيد وابن عيينة وعبد الوهاب الثقفي وأخرجه البخاري وأبو داود من رواية الثوري ومسلم من طريق الليث وابن المبارك وأبي خلد الأحمر وحفص بن غياث ، والترمذي من رواية عبد الوهاب الثقفي ، والنسائي من طريق مالك وحماد بن زيد وابن المبارك وأبي خلد الأحمر . وابن ماجه أيضا من رواية الليث عشرتهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري أورده البخاري في سبعة مواضع من صحيحه في بدء الوحي ، والإيمان ، والنكاح ، والهجرة وترك الحيل ، والعتق ، والنذور ، ومسلم في الجهاد . وأبو داود في الطلاق ، والترمذي في الجهاد ، والنسائي في الإيمان . وابن ماجه في الزهد .

                                                            (الثانية) هذا الحديث من أفراد الصحيح لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث عمر ولا عن عمر إلا من رواية علقمة ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم التيمي ولا عن التيمي إلا من رواية يحيى بن سعيد الأنصاري قال أبو بكر البزار في مسنده : لا نعلم يروى هذا الكلام إلا عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الإسناد . وقال الخطابي : لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في أنه لم يصح مسندا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من رواية عمر . وقال الترمذي بعد تخريجه : هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سعيد . وقال حمزة بن محمد الكناني : لا أعلم رواه غير عمر ولا عن عمر غير علقمة ولا عن علقمة غير محمد بن إبراهيم ولا عن محمد بن إبراهيم غير يحيى بن سعيد . وقال محمد بن عتاب : لم يروه غير عمر ولا عن عمر غير علقمة إلى آخره .

                                                            (الثالثة) ما ذكره هؤلاء الأئمة من كون حديث عمر فردا هو المشهور ، وقد روي من [ ص: 4 ] طرق أخرى رأيت ذكرها للفائدة فوقفت عليه مسندا من غير طريق عمر من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ، وأنس وعلي . فحديث أبي سعيد رواه الخطابي في معالم السنن والدارقطني في غرائب مالك وابن عساكر في غرائب مالك من رواية عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي داود عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد ، وهو غلط من ابن أبي داود .

                                                            وقول الخطابي : إنه يقال : إن الغلط إنما جاء من قبل نوح بن حبيب الذي رواه عن ابن أبي داود فليس بجيد من قائله ، فإنه لم ينفرد به نوح عنه بل رواه غيره عنه ، وإنما الذي تفرد به ابن أبي داود كما قال الدارقطني وغيره (وحديث) أبي هريرة رواه الرشيد العطار في بعض تخاريجه ، وهو وهم أيضا .

                                                            (وحديث) أنس رواه ابن عساكر من رواية يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن أنس بن مالك وقال هذا حديث غريب جدا ، والمحفوظ حديث عمر انتهى . والمعروف من حديث أنس ما رواه البيهقي من رواية عبد الله بن المثنى الأنصاري قال حدثني بعض أهل بيتي عن أنس فذكر حديثا فيه أنه لا عمل لمن لا نية له الحديث . (وحديث) علي رواه محمد بن ياسر الجياني في نسخة من طريق أهل البيت إسنادها ضعيف . وأما من تابع علقمة عليه فذكر أبو أحمد الحاكم أن موسى بن عقبة رواه عن نافع وعلقمة . وأما من تابع يحيى بن سعيد عليه فقد رواه الحاكم في تاريخ نيسابور من رواية عبد ربه بن سعيد عن محمد بن إبراهيم أورده في ترجمة أحمد بن نصر بن زياد وقال : إنه غلط فيه قال ، وإنما هو عن يحيى بن سعيد لا عبد ربه بن سعيد .

                                                            وذكر الدارقطني أنه رواه الحجاج بن أرطاة عن محمد بن إبراهيم ، وأنه رواه سهل بن صقير عن الدراوردي وابن عيينة ، وأنس بن عياض عن محمد بن عمرو بن علقمة عن محمد بن إبراهيم ووهم سهل على هؤلاء الثلاثة ، وإنما رواه هؤلاء الثلاثة وغيرهم عن يحيى بن سعيد .

                                                            ورأيت في كتاب المستخرج من أحاديث الناس للفائدة لعبد الرحمن بن منده أنه رواه سبعة عشر من الصحابة غير عمر ، وأنه رواه عن عمر غير علقمة وعن علقمة غير التيمي وعن التميمي غير يحيى بن سعيد . وبلغني أن الحافظ أبا الحجاج المزي سئل [ ص: 5 ] عن كلام ابن منده هذا فاستبعده ، وقد تتبعت كلام ابن منده فوجدت أكثر الصحابة الذين ذكر حديثهم في الباب إنما لهم أحاديث أخرى في مطلق النية لا هذا الحديث بعينه . كحديث يبعثون على نياتهم وحديث ليس له من غزاته إلا ما نوى ونحو ذلك .

                                                            وهكذا يفعل الترمذي حيث يقول : وفي الباب عن فلان وفلان فكثيرا ما يريد بذلك أحاديث غير الحديث الذي يسنده في أول الباب ولكن بشرط كونها تصلح أن تورد في ذلك الباب ، وهو عمل صحيح إلا أن أكثر الناس إنما يفهمون إرادة ذلك الحديث المعين والله أعلم .

                                                            (الرابعة) أطلق بعضهم على هذا الحديث اسم التواتر وبعضهم اسم الشهرة وليس كذلك ، وإنما هو فرد ومن أطلق ذلك فمحمول على أنه أراد الاشتهار أو التواتر في آخر السند من عند يحيى بن سعيد . قال النووي : هو حديث مشهور بالنسبة إلى آخره غريب بالنسبة إلى أوله قال : وليس متواترا لفقد شرط التواتر في أوله رواه عن يحيى بن سعيد أكثر من مائتي إنسان أكثرهم أئمة قلت روينا عن الحافظ أبي موسى محمد بن عمر المديني أنه رواه عن يحيى بن سعيد سبعمائة رجل .

                                                            (الخامسة) في إسناد هذا الحديث لطيفة حديثية ، وهو أنه اجتمع فيه ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض علقمة ، والتيمي ويحيى ، وهو كثير وأكثر ما اجتمع التابعون في حديث واحد ستة أنفس أفرده الخطيب بالتصنيف في جزء له ، وهو حديث أبي أيوب في فضل قراءة قل هو الله أحد .

                                                            (السادسة) هذا الحديث قاعدة من قواعد الإسلام حتى قيل فيه : إنه ثلث العلم وقيل ربعه وقيل خمسه وقال الشافعي وأحمد إنه ثلث العلم . قال البيهقي : لأن كسب العبد بقلبه ولسانه وجوارحه فالنية أحد الأقسام ، وهي أرجحها ؛ لأنها تكون عبادة بانفرادها ولذلك كانت نية المؤمن خيرا من عمله وهكذا أوله البيهقي . وكلام الإمام أحمد يشعر بأنه أراد بكونه ثلث العلم معنى آخر ، فإنه قال : أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث : حديث الأعمال بالنية وحديث عائشة من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وحديث النعمان بن بشير الحلال بين ، والحرام بين .

                                                            وقال أبو داود اجتهدت في [ ص: 6 ] المسند ، فإذا هو أربعة آلاف حديث ، ثم نظرت ، فإذا مدارها على أربعة أحاديث : الحلال بين ، والأعمال بالنية وحديث أبي هريرة إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وحديثه من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه . هكذا روى ابن الأعرابي عنه وروى ابن داسة عنه نحوه إلا أنه أبدل حديث إن الله طيب بحديث لا يكون المرء مؤمنا حتى لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه .

                                                            وجعل بعضهم مكان هذا الحديث الذي تردد كلام أبي داود فيه حديث ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس وروي عن أبي داود أيضا الفقه يدور على خمسة أحاديث الحلال بين ، والأعمال بالنيات ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ، ولا ضرر ولا ضرار .



                                                            (السابعة) كلمة " إنما " للحصر على ما تقرر في الأصول ومعنى الحصر فيها إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه كقوله تعالى إنما إلهكم الله ولكن دلالتها على النفي فيما عداه هل هو بمقتضى موضوع اللفظ أو بطريق المفهوم ؟ فيه كلام لبعض المتأخرين واستدل على وفاقهم أنها للحصر أن ابن عباس فهمه من قوله صلى الله عليه وسلم : إنما الربا في النسيئة فاعترضه المخالفون له بدليل آخر يقتضي تحريم ربا الفضل ولم يعارضوه فيما فهمه من الحصر لاتفاقهم عليه .

                                                            واتفق الأئمة الستة على إثبات هذه اللفظة في الحديث ، وقد رواه القضاعي في مسند الشهاب دون لفظ إنما ، وهي من رواية يزيد بن هارون أيضا ، وإسنادها جيد إلا أن أبا موسى المديني قال : لا يصح إسناده يعني بدون إنما .

                                                            (الثامنة) إذا تقرر أنها للحصر فتارة تقتضي الحصر المطلق ، وهو الأغلب الأكثر وتارة تقتضي حصرا مخصوصا كقوله تعالى إنما أنت منذر وقوله إنما الحياة الدنيا لعب ولهو فالمراد حصره في النذارة لمن لا يؤمن ونفي قدرته على ما طلبوا من الآيات وأراد بالآية الثانية الحصر بالنسبة إلى من آثرها أو هو من باب تغليب الغالب على النادر . وكذا قوله في الحديث إنما أنا بشر أراد بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن الخصوم وبالنسبة إلى جواز النسيان عليه قال ابن دقيق العيد ويفهم ذلك بالقرائن ، والسياق .



                                                            (التاسعة) المراد بالأعمال هنا [ ص: 7 ] أعمال الجوارح كلها حتى تدخل في ذلك الأقوال ، فإنها عمل اللسان ، وهو من الجوارح قال ابن دقيق العيد : ورأيت بعض المتأخرين من أهل الخلاف خصص الأعمال بما لا يكون قولا وأخرج الأقوال من ذلك . قال : وفي هذا عندي بعد ولا تردد عندي في أن الحديث يتناول الأقوال أيضا والله أعلم .

                                                            (العاشرة) النيات جمع نية ، والمشهور في الرواية تشديد الياء في الجمع وحكى فيه النووي التخفيف ، وقد ورد الحديث بلفظ الإفراد أيضا في النية وفي العمل أيضا وكله في الصحيح واختلف في حقيقة النية فقيل هي الطلب وقيل الجد في الطلب ومنه قول ابن مسعود : من ينو الدنيا تعجزه أي من يجد في طلبها وقيل القصد للشيء بالقلب وقيل عزيمة القلب ، وقيل هي من النوى بمعنى البعد فكأن الناوي للشيء يطلب بقصده وعزمه ما لم يصل إليه بجوارحه وحركاته الظاهرة لبعده عنه فجعلت النية وسيلة إلى بلوغه والله أعلم .

                                                            (الحادية عشرة) قال ابن دقيق العيد : لا بد فيه من حذف المضاف واختلف الفقهاء في تقديره فالذين اشترطوا النية قدروا صحة الأعمال بالنيات أو ما يقاربه والذين لم يشترطوها قدروا كمال الأعمال بالنيات أو ما يقاربه ، وقد رجح الأول بأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال فالحمل عليها أولى ، قال : وقد يقدرونه إنما اعتبار الأعمال بالنيات وذكر بعض المتأخرين من الحنفية ، وهو قاضي القضاة شمس الدين السروجي أن التقدير ثوابها لا صحتها ؛ لأنه الذي يطرد ، فإن كثيرا من الأعمال يوجد ويعتبر شرعا بدونها ، ولأن إضمار الثواب منفق على إرادته ولأنه يلزم من انتفاء الصحة انتفاء الثواب دون العكس فكان ما ذهبنا إليه أقل إضمارا فهو أولى ولأن إضمار الجواز ، والصحة يؤدي إلى نسخ الكتاب بخبر الواحد ، وهو ممتنع ولأن العامل في قوله بالنية مقدر بإجماع النحاة ولا يجوز أن يتعلق بالأعمال ؛ لأنها رفع بالابتداء فيبقى بلا خبر فلا يجوز فالمقدر إما مجزئة أو صحيحة أو مثيبة (فمثيبة) أولى بالتقدير لوجهين :

                                                            (أحدهما) أن عند عدم النية لا يبطل أصل العمل وعلى إضمار الصحة ، والإجزاء يبطل فلا يبطل بالشك .

                                                            (الثاني) أن قوله ولكل امرئ ما نوى يدل على الثواب ، والأجر ؛ لأن الذي له إنما هو الثواب ، وأما العمل فعليه انتهى .

                                                            وفيه [ ص: 8 ] نظر من وجوه :

                                                            (أحدها) أنه لا حاجة إلى إضمار محذوف من الصحة أو الكمال أو الثواب إذ الإضمار خلاف الأصل ، وإنما المراد حقيقة العمل الشرعي فلا يحتاج حينئذ إلى إضمار وأيضا فلا بد من إضمار شيء يتعلق به الجار ، والمجرور فلا حاجة لإضمار مضاف ؛ لأن تقليل الإضمار أولى فيكون التقدير إنما الأعمال وجودها بالنية ويكون المراد الأعمال الشرعية .

                                                            (والثاني) أن قوله : إن تقدير الثواب أقل إضمارا لكونه يلزم من انتفاء الصحة انتفاء الثواب دون العكس فلا نسلم أن فيه تقليل الإضمار ؛ لأن المحذوف واحد ولا يلزم من تقدير الصحة تقدير ما يترتب على نفيها من نفي الثواب ووجوب الإعادة وغير ذلك فلا نحتاج إلى أن نقدر إنما صحة الأعمال ، والثواب وسقوط القضاء مثلا بالنية بل المقدر واحد ، وإن ترتب على ذلك الواحد شيء آخر فلا يلزم تقديره .

                                                            (والثالث) أن قوله : إن تقدير الصحة يؤدي إلى نسخ الكتاب بخبر الواحد ، فإن أراد به أن الكتاب دال على صحة العمل بغير نية لكون النية لم تذكر في الكتاب فهذا ليس بنسخ وأيضا فالثواب مذكور في الكتاب على العمل ولم تذكر النية على أن الكتاب ذكرت فيه نية العمل في قوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين فهذا هو القصد ، والنية ، ولو سلم له أن فيه نسخ الكتاب بخبر الواحد فلا مانع من ذلك عند أكثر أهل الأصول .

                                                            (والرابع) أن قوله : إن تقدير الصحة يبطل العمل ولا يبطل بالشك ليس بجيد بل إذا تيقنا شغل الذمة بوجوب العمل لم نسقطه بالشك ولا تبرأ الذمة إلا بيقين فحمله على الصحة أولى لتيقن البراءة به .

                                                            (والخامس) أن قوله : إن الذي له إنما هو الثواب ، وأما العمل فعليه ، والأحسن في التقدير أن لا يقدر حذف مضاف ، فإنه لا حاجة إليه ولكن يقدر شيء يتعلق به الجار ، والمجرور ، فإنه لا بد من تقديره كما تقدم إنما الأعمال وجودها بالنية ، ونفي الحقيقة أولى ، والمراد نفي العمل الشرعي ، وإن وجد صورة الفعل في الظاهر فليس بشرعي عند عدم النية والله أعلم .

                                                            (الثانية عشر) يحتمل أن يكون معنى إنما الأعمال بالنيات ، أن من لم ينو الشيء لم يحصل له ويحتمل أن يكون المراد من نوى شيئا لم يحصل له غيره قال ابن دقيق العيد : وبينهما فرق وإلى هذا يشير [ ص: 9 ] قوله : ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه انتهى .

                                                            وهذا يؤدي إلى أن التشريك في النية مفسد لها ، وقد ورد لكل من الاحتمالين ما يؤكده فمما يؤكد هذا الاحتمال ما رواه النسائي من حديث أبي أمامة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : رأيت رجلا غزا يلتمس الأجر ، والذكر ما له ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا شيء له الحديث ، وفيه إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغى به وجهه .

                                                            ويدل للاحتمال الأول ما رواه النسائي أيضا من حديث عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالا فله ما نواه . فإتيانه بصيغة الحصر يقتضي أنه إذا نوى مع العقال شيئا آخر كان له ما نواه والله أعلم ، وقد اختلف كلام أصحابنا في مواضع وحاصل ما ذكروه أن من نوى مع الفرض ما هو حاصل ، ولو لم ينوه ، فإنه لا يضره .

                                                            (فمنها) لو نوى الإمام تكبيرة الإحرام وإعلام القوم لم يضره كما جزم به الرافعي والنووي .

                                                            (ومنها) إذا قصد المسبوق بتكبيرة الإحرام التحرم ، والهوى لا يصح ؛ لأن تكبيرة الإحرام لا يحصل بها تكبيرة الهوى .

                                                            (ومنها) لو نوى الوضوء ، والتبرد لم يضره على الأصح لحصول التبرد بدون النية ، وهذا إذا نواهما معا ، فإن طرأت نية التبرد ، فإن كان ذلك مع ذكر النية لم يضره ، وإن لم يكن ذاكرا لها لم يصح ما بعد نية التبرد .

                                                            (ومنها) لو نوى الجنب غسل الجنابة ، والجمعة معا فقد نص الشافعي في البويطي على حصولهما ، وهذا يقتضي حصول غسل الجمعة ، ولو لم ينوه ، وهو ما صححه الرافعي في الشرحين وخالفه في المحرر فقال يحصل المنوي فقط وتبعه النووي على هذا في سائر كتبه ونقله عن الأكثرين وقال الرافعي : إنه إذا نواهما وقلنا : إنه لو اقتصر على الجنابة لم تحصل الجمعة فقضيته أن لا يصح الغسل أصلا ورد كلامه لمخالفته للنص .

                                                            ومنها لو نوى بفرضه الفرض ، والراتبة ، فإنه لا يصح لعدم دخول الراتبة مع الفرض لو لم ينو .

                                                            (ومنها) لو نوى الفرض ، والتحية حصلا لحصول التحية بدونها .

                                                            (ومنها) لو نوى بخطبة الجمعة الجمعة ، والكسوف لم يصح كما جزم به الرافعي والنووي .

                                                            (ومنها) ما إذا نوى بقضاء الفائتة صلاة التراويح فالقياس عدم الصحة وفي فتاوى ابن الصلاح حصول الفائتة ، وهو مشكل .

                                                            (ومنها) أن ينوي [ ص: 10 ] صوم عاشوراء مع قضاء أو نذر أو كفارة فالقياس عدم الصحة وأفتى شرف الدين البارزي بحصوله عنهما ، وهو مشكل أما إذا نوى في يوم عاشوراء الصيام عن نذر أو كفارة أو قضاء وأطلق فالقياس حصول الفرض فقط وأفتى البارزي بحصولهما ، وهو بعيد وقال صاحب المهمات القياس أن لا يصح لواحد منهما ، وهو مردود أيضا بل الصواب حصول الفرض فقط .

                                                            (الثالثة عشر) إن قيل ما فائدة قوله : وإنما لكل امرئ ما نوى بعد قوله : إنما الأعمال بالنيات هل أتى به للتأكيد أو للتأسيس ؟ قال صاحب المفهم : فيه تحقيق لاشتراط النية ، والإخلاص في الأعمال انتهى فجعله للتأكيد ولا شك أن التأسيس أولى من التأكيد ، وذكر في فائدة ذلك وجوه :

                                                            (أحدها) ما قاله النووي : إن فائدته اشتراط تعيين المنوي ، فإذا كان على الإنسان صلاة مقضية لا يكفيه أن ينوي الصلاة الفائتة بل يشترط أن ينوي كونها ظهرا أو عصرا أو غيرهما ، ولولا اللفظ الثاني لاقتضى الأول صحة النية بلا تعيين .

                                                            (والوجه الثاني) ما ذكره ابن السمعاني في أماليه أن فيه دلالة على أن الأعمال الخارجة عن العبادة قد تقيد الثواب إذا نوى بها فاعلها القربة كالأكل ، والشرب إذا نوى بهما القوة على الطاعة ، والنوم إذا قصد به ترويح البدن للعبادة ، والوطء إذا أراد به التعفف عن الفاحشة كما قال عليه الصلاة والسلام وفي بضع أحدكم صدقة الحديث .

                                                            (والوجه الثالث) أن الأفعال التي ظاهرها القربة ، وإن كان موضوع فعلها للعبادة إذا فعلها المكلف عادة لم يترتب الثواب على مجرد الفعل ، وإن كان الفعل صحيحا حتى يقصد به العبادة . وقد ذكر ابن دقيق العيد في الاقتراح أن من أحسن ما يقصد بسماع الحديث كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بقصد القربة لا على سبيل العادة فجعل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كانت قربة أن فائدتها فيما إذا قصد بها القربة والله أعلم .



                                                            (الرابعة عشر) المعروف في الرواية كسر الراء من قوله لامرئ وعلى هذا فإعرابه في حرفين من آخره الراء ، والهمزة تقول هو امرؤ جيد برفع الراء ورأيت امرأ بنصبها ، وهذه هي اللغة الفصحى ، وفيه لغتان أخريان فتح الراء مطلقا حكاها الفراء وضمها مطلقا وتكون حركات الإعراب في [ ص: 11 ] الهمزة فقط ، وهو مفرد لا جمع له من لفظه .

                                                            (الخامسة عشر) فيه اشتراط النية لصحة العبادة ، وقد اتفق العلماء على ذلك في العبادة المقصودة لعينها التي ليست وسيلة إلى غيرها ، وحكى أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد المالكي في كتابه بداية المجتهد اتفاق العلماء على اشتراط النية في العبادات وحكى الاختلاف في الوضوء لاختلافهم في أنه وسيلة أو مقصد وحكى ابن التين السفاقسي أنهم لا يختلفون في أن العبادة المحضة مفتقرة إلى النية ، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية .

                                                            وذكر النووي في شرح مسلم أن الأعمال ضربان :

                                                            ضرب تشترط النية لصحته وحصول الثواب فيه كالأركان الأربعة وغير ذلك مما أجمع العلماء أنه لا يصح إلا بنية وكالوضوء ، والغسل ، والتيمم وطواف الحج ، والعمرة ، والوقوف مما اشترط النية فيه بعض العلماء ، وضرب لا تشترط النية لصحته لكن تشترط لحصول الثواب كستر العورة ، والأذان ، والإقامة وابتداء السلام ورده وتشميت العاطس ورده وعيادة المريض واتباع الجنائز وإماطة الأذى وبناء المدارس ، والربط ، والأوقاف ، والهبات ، والوصايا ، والصدقات ورد الأمانات ونحوها .



                                                            (السادسة عشر) احتج به من أوجب النية في الوضوء ، والغسل ، وهو قول الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم وخالف في ذلك أبو حنيفة والثوري والأوزاعي ، وهي رواية شاذة عن مالك واحتج المخالف بأنه ليس مقصودا ، وأن المقصود به النظافة فأشبه إزالة النجاسة واعترض على الحنفية بأنهم أوجبوها في التيمم ، وليس مقصودا وأجابوا بأنه طهارة ضعيفة فافتقر إلى النية تقوية له وبأن الله ذكر النية في التيمم فتيمموا صعيدا طيبا أي اقصدوا ، وهو النية ولم يذكر ذلك في الوضوء ، والغسل واحتج أيضا القائلون بأنه لا تشترط النية في الوضوء بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء للأعرابي ولم يذكر له النية مع جهل الأعرابي بأحكام الوضوء ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ونقض عليهم بتعليمه الصلاة للأعرابي المسيء صلاته ولم يذكر له النية ، وقد قلتم بوجوبها في الصلاة فما الفرق ؟ وإنما بين النبي صلى الله عليه وسلم لمن علمه الأفعال الظاهرة التي يقف الناظر على تركها لو تركوها فأما القصد [ ص: 12 ] للعبادة فكان معلوما عندهم والله أعلم .

                                                            (السابعة عشر) فيه حجة على الأوزاعي في ذهابه إلى أن التيمم لا تجب له النية أيضا كبقية الطهارات واحتج له بأنها وسائل وليست بمقاصد ورد عليه بالإجماع على أن الجنب لو سقط في الماء غافلا عن كونه جنبا أنه لا ترتفع جنابته قطعا فلولا وجوب النية لما توقف صحة غسله عليها ، وهو واضح .

                                                            (الثامنة عشر) احتج به لمن أوجب النية في غسل النجاسة ؛ لأنه عمل واجب قال الرافعي ويحكى عن ابن سريج وبه قال أبو سهل الصعلوكي فيما حكاه صاحب التتمة انتهى .

                                                            وحكى ابن الصلاح في فوائد الرحلة وجها ثالثا أنها تجب لإزالة النجاسة التي على البدن دون الثوب لإمكان صلاته في غيره ، وقد رد ذلك بحكاية الإجماع فقد حكى الماوردي في الحاوي والبغوي في التهذيب أن النية لا تشترط في إزالة النجاسة قال الروياني في البحر عندي لا يصح النقل عنهما أي عن ابن سريج والصعلوكي ، وإنما لم يشترطوا النية في إزالة النجاسة ؛ لأنها من باب التروك فصار كترك المعاصي ، وقد يعترض على هذا التعليل بأن الصوم من باب التروك أيضا ؛ ولهذا لا يبطل بالعزم على قطعه ، وقد أجمعوا على وجوب النية فيه .



                                                            (التاسعة عشر) احتج به على أبي حنيفة في ذهابه إلى أن الكافر إذا أجنب أو أحدث فاغتسل أو توضأ ، ثم أسلم أنه لا يجب إعادة الغسل ، والوضوء عليه ، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي وخالف الجمهور في ذلك فقالوا : تجب إعادة الغسل ، والوضوء ؛ لأن الكافر ليس من أهل العبادة وبعضهم يعلله بأنه ليس من أهل النية .



                                                            (الفائدة العشرون) احتج به على أنه يجب على الزوج النية إذا غسل زوجته المجنونة من حيض أو نفاس أو الذمية إذا امتنعت فغسلها الزوج ، وهو أصح الوجهين كما صححه النووي في التحقيق في مسألة المجنونة .

                                                            وأما الذمية الممتنعة فقال في شرح المهذب الظاهر أنه على الوجهين في المجنونة بل قد جزم ابن الرفعة في الكفاية في غسل الذمية لزوجها المسلم أن المسلم هو الذي ينوي ولكن الذي صححه النووي في التحقيق في الذمية غير الممتنعة اشتراط النية عليها نفسها والله أعلم .



                                                            (الحادية والعشرون) استدل به على أنه لا يصح وضوء المرتد ولا غسله ولا تيممه ، وهو كذلك ؛ لأنه ليس أهلا للعبادة ، والنية ، وقد ادعى النووي في الروضة نفي الخلاف فيه تبعا للرافعي [ ص: 13 ] وليس كذلك فقد حكى الماوردي في الحاوي وجها في صحة غسله وفي شرح المهذب حكاية وجه عن النهاية في صحة غسله ووضوئه أيضا وفي الجواهر للقمولي حكاية وجه في صحتهما وصحة تيممه أيضا .



                                                            (الثانية والعشرون) فيه اشتراط النية لسجود التلاوة ؛ لأنه عبادة ، وهو قول الجمهور وخالف فيه بعضهم فلم يوجب النية فيه .



                                                            (الثالثة والعشرون) استدل به على وجوب النية على الغاسل في غسل الميت ؛ لأنه عبادة وغسل واجب ، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي ويدل عليه نص الشافعي على وجوب غسل الغريق ، وأنه لا يكفي إصابة الماء له ولكن أصح الوجهين كما قال الرافعي في المحرر أنه لا تجب النية على الغاسل ونسب في الشرح تصحيحه للقاضي الروياني وغيره ؛ لأن النية إنما هي على المغتسل ، والميت لا يتصور منه ولأن مقصوده النظافة ويشكل بوجوب غسل الغريق وأجيب عنه بأنا مأمورون بغسله فلا يسقط الفرض إلا بغسلنا .



                                                            (الرابعة والعشرون) استدل به على أن المتوضئ إذا لم ينو الوضوء إلا عند غسل الوجه لم يحصل له ثواب ما فعله قبل ذلك من سنن الوضوء من المضمضة ، والاستنشاق وغسل الكفين ، والتسمية ، والسواك لخلو ذلك عن النية ، وهو كذلك وبه جزم الرافعي .

                                                            وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى حصول ثواب السنن لانعطاف النية على بقية العبادة كصيام التطوع على ما سيأتي واستثنى القمولي في الجواهر مما يحصل ثوابه من السنن التسمية ولك أن تقول إن أراد حصول ثواب الذكر لا بقيد ثوابه على فعلها في الوضوء فهو كذلك ولا يرد ذلك على الرافعي ؛ لأنه إنما نفى حصول ثواب سنن الوضوء ، وعلى هذا فينبغي أن يستثنى السواك أيضا ؛ لأنه سنة مطلقا لكن لا يحصل له ثواب السواك في الوضوء ، وإن أراد القمولي حصول ثواب التسمية بقيد كونها من سنن الوضوء فممنوع لقوله ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، وهو لم ينو الوضوء قبل ما فعله من السنن والله أعلم .



                                                            (الخامسة والعشرون) استدل به على أن من نوى صلاة فرض ، ثم بطل فرضه لإتيانه بما ينافي الفرضية دون النفلية أنها لا تصح نفلا ؛ لأنه لم ينو بصلاته النافلة فلا يحصل له ما لم ينوه ، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي أما إذا نوى في أثناء صلاته انقلابها نفلا فلا يخلو إما أن تكون لغرض صحيح أو لغير [ ص: 14 ] عذر ، فإن كان لغرض صحيح كأن أحرم بالفرض منفردا فجاء الإمام وتقدم ليصلي فنوى قلبها نفلا وسلم من ركعتين ، ثم صلى مع الإمام صحت الأولى نفلا كما نص عليه الشافعي ، وفيه قول مخرج أنها لا تصح نفلا ؛ لأنه لم ينوه ووقت النية عند الإحرام لا في أثنائها .

                                                            وهذا هو القياس ولكن اغتفر لخروجه لعذر ، والأول أصح كما قال الرافعي ؛ لأنه قصد النفل بعد الإعراض عن الفرض ، وإنما فعل ذلك لأمر محبوب ، وهو استئناف الصلاة بالجماعة ، وإن قلبها نفلا لغير سبب فالأظهر كما قال الرافعي البطلان ونص عليه الشافعي أيضا ومثله ما لو أحرم بالظهر قبل الزوال ، فإن كان عالما لم يصح فرضا ولا نفلا لتلاعبه ، وإن فعله لظن دخول الوقت بالاجتهاد فالأصح كما قال الرافعي أنها تكون نفلا ومثله ما لو كبر المسبوق للإحرام في حالة هويه إلى الركوع ، فإن كان عالما بامتناع إيقاع تكبيرة الإحرام بعد مجاوزة حد القيام فالأظهر كما قال الرافعي البطلان ، وإن كان جاهلا فالأظهر انعقادها نفلا كما قال الرافعي ومثله ما لو وجد العاجز عن القيام في صلاة الفرض خفة فلم يقم والأظهر فيه البطلان كما قال الرافعي . ومثله ما لو أحرم بالفرض قاعدا مع القدرة على القيام ، والأظهر البطلان أيضا لتلاعبه كما قال الرافعي بل هو أولى بالبطلان من التي قبلها . والحديث حجة لمن قال لا يحصل له ثواب النفل مطلقا سواء فيه المعذور وغيره ؛ لأنه لم ينوه ونيته الحادثة في أثناء الصلاة واقعة في غير موضوع النية إلا أن أصحابنا جعلوا للمتطوع بالنفل المطلق الزيادة ، والنقصان بالنية على ما نواه أولا ، وإن كان في أثناء الصلاة والله أعلم .



                                                            (السادسة والعشرون) فيه حجة لمن ذهب إلى أنه إذا نوى الجماعة صلاة الجمعة فخرج وقتها أنهم لا يكملونها ظهرا ؛ لأنهم لم ينووا الظهر ، وإنما نووا الجمعة ويجب عليهم ابتداء الظهر ، وهو قول أبي حنيفة ، وهو أحد الطريقين لأصحاب الشافعي وبنوه على الخلاف في أن الجمعة صلاة على حيالها أو هي ظهر مقصور ؟ وفيه قولان اقتضاهما كلام الشافعي قال النووي أظهرهما أنها صلاة بحيالها والمذهب كما صححه الرافعي والنووي جواز إتمامها ظهرا ، وهو مخالف لقضية بنائهم له على هذين القولين ومخالف لظاهر الحديث أيضا لكنهم شبهوه بالمسافر ينوي القصر فيفوت شرطه فيتم وليس [ ص: 15 ] كالقصر من حيث إن الصلاة واحدة ، وقد نواها ونية القصر أو الإتمام لا يخرجها عن كونها ظهرا مثلا بخلاف الجمعة ، فإنها صلاة على حيالها كما صححه النووي لكن الرافعي لم يصحح من هذين القولين شيئا .

                                                            وأشكل من ذلك ترجيحهم انقلابها بنفسها ظهرا من غير تجديد نية الظهر كما صححه الرافعي نقلا عن صاحب العدة وصححه النووي أيضا ، وقال : إنه مقتضى كلام الجمهور والله أعلم .



                                                            (السابعة والعشرون) فيه حجة لأحد الوجهين لأصحابنا أن المسبوق في الجمعة إذا أدرك الإمام بعد رفعه من الركعة الثانية أنه ينوي الظهر لا الجمعة لفواتها ولأنه إنما يصلي الظهر وليس له إلا ما نوى . ولكن الذي ذكره الروياني وصححه الرافعي والنووي أنه ينوي الجمعة موافقة للإمام ، وهو مشكل إذ كيف ينوي ما لا يفعله لا جرم قال المحب الطبري : لا وجه لإيجاب نية الجمعة انتهى وكتب النووي على حاشية الروضة هنا " إنما ينوي الجمعة ؛ لأنا لم نتيقن فواتها لاحتمال أن يكون الإمام قد نسي القراءة من إحدى الركعتين فيتذكر أنه بقي عليه ركعة فيقوم إليها " انتهى .

                                                            وتعقبه بعض مشايخنا بأن هذا غير مستقيم فقد ذكر في الروضة من زياداته أن المسبوق إذا بقيت عليه ركعة فقام الإمام إلى خامسة فلا تجوز متابعته فيها حملا على أنه تذكر ترك ركن انتهى .

                                                            وإذا قلنا ينوي الجمعة كما هو المرجح فهل يصرف نيته إلى الظهر عند سلام الإمام أم لا يحتاج إلى ذلك وتنقلب بنفسها ظهرا ؟ الذي جزم به المحب الطبري في شرح التنبيه الأول ومقتضى ما تقدم في الفائدة قبلها من انقلابها بنفسها ظهرا في مسألة فوات شرط الجمعة أن يجيء مثله هنا ، وهذا كله على قول من يقول : إنما يدرك المأموم الجمعة بركعة وقال أبو حنيفة : يدرك بإدراكه قبل السلام بل لو أدرك معه سجدتي السهو بعد السلام كان مدركا للجمعة ، وهو بعيد .



                                                            (الثامنة والعشرون) فيه حجة على أبي حنيفة حيث ذهب إلى أن المقيم إذا نوى في رمضان صوم قضاء أو كفارة أو تطوع وقع عن رمضان إذ ليس له إلا ما نواه ولم ينو صوم رمضان ، وتعيينه شرعا لا يغني عن نية المكلف لأداء ما كلف به وذهب مالك والشافعي وأحمد أنه لا بد من تعيين رمضان لظاهر الحديث بخلاف الحج على ما سيأتي وذهب زفر إلى أن صيام رمضان لا تشترط فيه النية لتصحيح المقيم لتعين الزمان له .



                                                            [ ص: 16 ] التاسعة والعشرون) فيه حجة لمن ذهب إلى أن المتطوع بالصيام إذا نوى في أثناء النهار قبل الزوال أو بعده وقلنا بصحته أنه إنما يحسب له الصيام من حين النية لخلو أول النهار عن النية ، والنية لا تنعطف على ما قبلها ، وهو قول أبي إسحاق المروزي من الشافعية وقال الرافعي : إنه اختيار القفال لكن الأظهر عند الأكثرين كما قال الرافعي إنه صائم من أول النهار ؛ لأن صوم اليوم الواحد لا يتبعض وشبهوه بالمسبوق يدرك ثواب جميع الركعة بإدراك الركوع .



                                                            (الفائدة الثلاثون) فيه حجة على مالك في اكتفائه بنية واحدة في أول شهر رمضان لجميع الشهر ، وهي رواية عن أحمد أيضا ، وذلك ؛ لأن كل يوم عمل بنفسه وعبادة مستقلة بدليل ما يتخلل بين الأيام في لياليها مما ينافي الصوم من المفطرات . وذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى إلى وجوب النية لكل يوم إذ هو عمل ولا عمل إلا بنية .



                                                            (الحادية والثلاثون) احتج به لمن ذهب إلى أنه إذا أحرم بالحج في غير أشهر الحج أنه لا ينعقد عمرة ؛ لأنه لم ينو العمرة ، وإنما له ما نواه ، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد ، وهو أحد قولي الشافعي إلا أن الأئمة الثلاثة قالوا : ينعقد إحرامه بالحج ولكن يكره عندهم الإحرام به قبل أشهره ولم يختلف قول الشافعي إنه لا ينعقد بالحج .

                                                            وإنما اختلف قوله هل يتحلل بأفعال العمرة ، وهو قوله المتقدم نقله عنه أو ينعقد إحرامه عمرة ، وهو نصه في المختصر ، وهو الذي صححه الرافعي والنووي فعلى القول الأول لا تسقط عنه عمرة الإسلام وعلى القول الذي نص عليه في المختصر تسقط عنه عمرة الإسلام قال الرافعي : وشبهوا القولين بالقولين في التحرم بالصلاة قبل وقتها هل تنعقد نافلة ؟

                                                            وها هنا الأظهر انعقاده عمرة بكل حال لقوة الإحرام ولهذا ينعقد مع السبب المفسد له بأن أحرم مجامعا (قلت) أما على القول بأن العمرة ليست بواجبة فلا يبعد القول بانعقاده عمرة ، وإن كانوا في الصلاة قد جزموا بعدم انعقادها نفلا فيما إذا عرف أن الوقت لم يدخل لتلاعبه كما تقدم .

                                                            وأما على القول الراجح أن العمرة واجبة فليس يشبه ذلك القولين في الصلاة ، وإنما يشبهه أن لو كانت عليه فائتة فأحرم بالحاضرة بالاجتهاد فبان أنه كان قبل دخول الوقت، فإنه لا يجزيه عن الفائتة قطعا ، وإن كانت مثل الحاضرة [ ص: 17 ] بكونها ظهرا مثلا لكونه لم ينو الفائتة فينبغي أن لا ينعقد أيضا عمرة ولكن الحج خرج عن قياس بقية العبادات بدليل قصة الذي أحرم عن شبرمة كما سيأتي في الفائدة التي تليها .



                                                            (الثانية والثلاثون) احتج به لأبي حنيفة والثوري ومالك أن الصرورة يصح حجه عن غيره ولا يصح عن نفسه ؛ لأنه لم ينوه عن نفسه ، وإنما له ما نواه . وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق والأوزاعي إلى أنه لا ينعقد عن غيره ويقع ذلك عن نفسه لما روى أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة ، فقال أحججت قط ؟ قال لا قال فاجعل هذه عن نفسك ، ثم حج عن شبرمة وهذه رواية ابن ماجه بإسناد صحيح .

                                                            وفي رواية أبي داود حج عن نفسك ، ثم حج عن شبرمة ولك أن تقول ليس فيه تصحيح الإحرام عن نفسه ، وإنما أمره أن ينشئ الإحرام عن نفسه .

                                                            وقد يجاب بأن الظاهر أن هذا كان بعد مجاوزة الميقات فلو لم يقع الإحرام المتقدم عن فرض نفسه لأمره بالرجوع إلى الميقات أو بإخراج دم لمجاوزة الميقات بغير إحرام صحيح ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهذا كله على تقدير مجاوزته للميقات .

                                                            وأما الرواية التي ذكرها أصحابنا الرافعي وغيره هذه عن نفسك ، ثم حج عن شبرمة فقد رواها البيهقي ولكنها ضعيفة فيها الحسن بن عمارة ، وهو ضعيف . واستدل لأبي حنيفة ومن وافقه بما رواه الطبراني ، ثم البيهقي من طريقه من حديث ابن عباس أيضا قال : سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يلبي عن نبيشة فقال : أيها الملبي عن نبيشة ، احجج عن نفسك ، وهذا ضعيف فيه الحسن بن عمارة ، وهو متروك .

                                                            قال البيهقي : يقال إن الحسن بن عمارة كان يرويه ، ثم رجع عنه إلى الصواب ، وقد ذهب محمد بن جرير الطبري إلى أن الصرورة إذا نوى الحج عن غيره لم يقع عن نفسه ؛ لأنه لم ينوه عنه ، وإنما له ما نواه ويجب عليه أن ينوي ذلك عن نفسه والله أعلم .



                                                            (الثالثة والثلاثون) استدل به على أنه كما يشترط وجود النية أول العبادة يشترط استمرارها حكما إلى آخر العبادة حتى لو رفض النية ونوى قطع العبادة بطلت العبادة ، وقد فرق فيه أصحابنا بين العبادات فجزموا فيما إذا نوى الخروج من الصلاة بالبطلان ، وكذلك لو تردد هل يخرج أو يستمر [ ص: 18 ] فيها ؟

                                                            وكذا لو نوى الخروج إذا دخلت الركعة الثانية مثلا بطلت في الحال وقيل لا تبطل في الحال حتى لو رفض هذا العزم قبل دخول الركعة الثانية صحت ، وكذا لو علق الخروج بدخول شخص على الأصح وقيل : لا تبطل في الحال ، فإن دخل ، وهو ذاكر للتعليق بطلت ، وكذا إن كان ذاهلا عنه على ما قطع به الأكثرون .

                                                            ولو نوى الخروج من الصوم فالأظهر كما قال الرافعي أنه لا يبطل ؛ لأنه ترك وإمساك ، ولو تردد في الخروج منه أو علقه بدخول شخص فالذي ذكره المعظم وأشعر كلامهم بنفي الخلاف فيه أنه لا يبطل وطرد بعضهم الخلاف فيه والأظهر في الاعتكاف أنه لا يفسد بنية الخروج منه كالصوم كما قاله الرافعي قال : وأفتى بعض المتأخرين ببطلانه كالصلاة وجزموا في الحج والعمرة أنه لا تفسدهما نية الخروج منه كما ذكره الرافعي في أثناء تعليل ذكره وهكذا الوضوء ، والغسل لا يفسدهما نية قطعه ما لم يطل الفصل بحيث يعلم الإعراض عنه وسوى أبو حنيفة في ذلك بين الحج ، والعمرة ، والصوم ، والاعتكاف ، والصلاة فلم ير قطع النية مفسدا لشيء من ذلك .



                                                            (الرابعة والثلاثون) استدل به من اشترط النية في أركان الحج من الطواف ، والسعي ، والوقوف ، والحلق ، وهو وجه حكاه صاحب التتمة في جميع الأركان المذكورة ، والخلاف في الطواف أشهر منه في بقية الأركان لكونه صلاة ، ولم يشترط الجمهور النية في شيء من ذلك مجيبين عن ذلك بأن نية الإحرام شاملة لهذه الأركان فلا يحتاج إلى نية أخرى كأركان الصلاة إلا أنهم قالوا يشترط أن لا تعرض في الطواف نية أخرى صارفة كطلب غريم مثلا ، فإنه لا يصح كنية التبريد العارضة بعد نية الطهارة ولم يشترطوا في الوقوف عدم النية الصارفة كطلب الغريم مثلا بل جزموا فيه بالإجزاء إلا ما حكيناه عن صاحب التتمة من جريان الخلاف فيه بل قالوا : لو مرت به الدابة بعرفة ، وهو نائم ولم يشعر صح وقوفه والله أعلم .



                                                            (الخامسة والثلاثون) كما اشترطوا النية في العبادة اشترطوا في تعاطي ما هو مباح في نفس الأمر أن لا يكون معه نية تقتضي تحريمه كمن جامع امرأته أو أمته ظانا أنها أجنبية أو شرب شرابا مباحا ، وهو ظان أنه خمر أو أقدم على استعمال ملكه [ ص: 19 ] ظانا أنه لأجنبي ونحو ذلك ، فإنه يحرم عليه تعاطي ذلك اعتبارا بنيته ، وإن كان مباحا له في نفس الأمر غير أن ذلك لا يوجب حدا ولا ضمانا لعدم التعدي في نفس الأمر بل زاد بعضهم على هذا بأنه لو تعاطى شرب الماء ، وهو يعلم أنه ماء ولكن على صورة استعمال الحرام كشربه في آنية الخمر في صورة مجلس الشراب صار حراما لتشبهه بالشربة ، وإن كانت النية لا يتصور وقوعها على الحرام مع العلم بحله ونحوه لو جامع أهله ، وهو في ذهنه مجامعة من تحرم عليه وصور في ذهنه أنه يجامع تلك الصورة المحرمة ، فإنه يحرم عليه ذلك وكل ذلك لتشبهه بصورة الحرام والله تعالى أعلم



                                                            (السادسة والثلاثون) استدل به أصحابنا على تخصيص الألفاظ بالنية في الزمان ، والمكان ، وإن لم يكن في اللفظ ما يقتضي ذلك كمن حلف لا يدخل دار فلان مثلا وأراد في شهر كذا أو سنة كذا أو حلف لا يكلم فلانا مثلا وأراد كلامه بالقاهرة مثلا دون غيرها ونحو ذلك ، فإن له ما نواه ولا كفارة عليه لو خالف ظاهر اللفظ مع موافقة النية والله أعلم .



                                                            (السابعة والثلاثون) استدل به أصحابنا على اشتراط النية في الكنايات التي ينعقد بها البيع ، والكناية في الطلاق ، وذلك ؛ لأن اللفظ ليس صريحا في ذلك فتشترط النية لإرادة ذلك المعنى إذ الأعمال بالنيات فلو أراد غير ذلك المعنى أو لم يرد شيئا لم يصح البيع ولم يقع الطلاق والله أعلم .



                                                            (الثامنة والثلاثون) قال الخطابي فيه دليل على أن المطلق إذا طلق بصريح لفظ الطلاق ونوى عددا من أعداد الطلاق كمن قال لامرأته : أنت طالق ونوى ثلاثا كان ما نواه من العدد واقعا واحدة أو اثنتين أو ثلاثا وإليه ذهب الشافعي ومالك وإسحاق وأبو عبيد وقال أصحاب الرأي : هي واحدة ، وهو أحق بها ، وكذلك قال سفيان الثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل .



                                                            (التاسعة والثلاثون) فيه حجة على أهل الرأي في قولهم في الكناية في الطلاق كقوله أنت بائن أنه إن نوى اثنتين فهي واحدة بائنة لكونها كلمة واحدة ، وإن نوى الطلاق ولم ينو عددا فهي واحدة بائنة أيضا ، والحديث حجة عليهم وذهب الشافعي ، والجمهور إلى أنه إن نوى اثنتين فهو كذلك ، وإن لم ينو عددا فهي واحدة رجعية ، قال الخطابي ، وهذا أشبه بمعنى [ ص: 20 ] الحديث وأولى به والله أعلم .



                                                            (الفائدة الأربعون) استدل به أصحابنا على أنه لو أقر لزيد بشيء مجمل كقوله له على شيء أنه يرجع إلى نيته ما أراد بذلك ، وأنه يقبل منه تفسيره بأقل ما يتمول ؛ لأن اللفظ محتمل ، وهو أعلم بما نواه ، وكذا لو فسره بما ليس بمال مما يجوز اقتناؤه كالكلب المعلم على الأصح ، وكذا حق الشفعة وحد القذف على الصحيح أيضا بخلاف رد السلام ، والعيادة .

                                                            وأما إذا قال له على مال ، فإنه يقبل منه تفسيره بأقل متمول دون الكلب المعلم ونحوه ، ويقبل منه تفسيره بالمستولدة على الأصح على ما هو معروف في كتب الفقه ، وذلك ؛ لأن له ما نواه مما يحتمله اللفظ والله أعلم .



                                                            (الحادية والأربعون) فيه رد على المرجئة في قولهم : الإيمان إقرار باللسان دون الاعتقاد بالقلب ، وقد أورده البخاري في آخر الإيمان محتجا عليهم بذلك ، وما ذهب إليه المرجئة مردود بالنصوص القاطعة ، والإجماع على أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار .



                                                            (الثانية والأربعون) استدل به البخاري على أنه لا يؤاخذ الناسي ، والمخطئ في الطلاق ، والعتاق ونحوهما ؛ لأنه لا نية لناس ولا مخطئ ، وهو كذلك .



                                                            (الثالثة والأربعون) فيه حجة على بعض المالكية من أنهم لا يدينون من سبق لسانه إلى كلمة الكفر إذا ادعى ذلك وخالفهم الجمهور ويدل لذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك في قصة الرجل الذي ضلت راحلته ، ثم وجدها فقال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي ، وأنا ربك قال النبي صلى الله عليه وسلم : أخطأ من شدة الفرح .

                                                            والذي جرت به عادة الحكام الحذاق منهم اعتبار حال الواقع منه ذلك ، فإن تكرر منه ذلك وعرف منه وقوعه في المخالفات وقلة المبالات بأمر الدين لم يلتفتوا إلى دعواه ومن وقع منه ذلك فلتة وعرف بالصيانة ، والتحفظ قبلوا قوله في ذلك ، وهو توسط حسن والله أعلم .



                                                            (الرابعة والأربعون) فيه حجة لمالك ومن وافقه في إسقاط الحيل كمن ملك ولده أو غيره مالا له قبل الحول أو باعه أو أتلفه أو بادل به فرارا من الزكاة أو باع بالعينة المشهورة أو تزوج المرأة ليحلها لزوجها ، وإن لم يشترط ذلك في نفس العقد أو ملك الدار لغير الشريك لإسقاط الشفعة أو أوقع عقد الدار التي فيها الشفعة بثمن فيه ما تجهل قيمته كفص ونحوه [ ص: 21 ] أو زاد في ثمنها وعوضه عن عشرة آلاف دينارا مثلا ونحو ذلك من الحيل المسقطة للحقوق أو الموقعة في المناهي .

                                                            وإنما يخادع بالنيات من لا يطلع عليها وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أنس أن أبا بكر كتب له فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة .

                                                            وقال في الحديث الصحيح يبعثون على نياتهم والذي نص عليه الشافعي وقطع به جمهور أصحابه كراهة إزالة ملكه للفرار من الزكاة كراهة تنزيه وجعل بعض أصحاب الشافعي الكراهة للتحريم كقول مالك وعليه يدل كلام الغزالي في قوله إثم ، وكذلك عندهم البيع بالعينة ، والاستحلال إذا لم يشترط في العقد ، والتحيل لإسقاط الشفعة محمول على الكراهة لا على التحريم ، والحديث حجة لمن قال بالتحريم والله أعلم .

                                                            ورأيت في كلام بعض أصحاب الشافعي ممن صنف في الألغاز أن الحيل ليس فيها منافاة للشريعة بل قد ورد الشرع بتعاطي الحيل كقوله تعالى : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث فما كان من الحيل هكذا ليس فيه إسقاط حق لمستحق له فهو حسن مشروع ، وما أدى من الحيل إلى إسقاط حق الغير فهو مذموم منهي عنه .



                                                            (الخامسة والأربعون) فيه أنه لا تصح العبادة من المجنون ؛ لأنه ليس من أهل النية كالصلاة ، والصوم ، والاعتكاف ، والحج ، والنذر وغيرها ولا عقوده كالبيع ، والهبة ، والنكاح ، وكذلك لا يصح منه الطلاق ، والظهار ، واللعان ، والإيلاء . ولا يجب عليه القود ولا الحدود ، وهو كذلك نعم إن كان زوال عقله بمحرم كالسكران وجب عليه القود ، والحد ووقع خلافه تغليظا عليه ، وذلك معروف في مواضعه من كتب الفقه .



                                                            (السادسة والأربعون) استدل به على أنه لا يجب القود في شبه العمد ؛ لأنه لم ينو قتله ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وصاحبيه وأحمد وإسحاق إلا أنهم اختلفوا في الدية فجعلها الشافعي ومحمد بن الحسن أثلاثا وجعلها الباقون أرباعا وجعلها أبو ثور أخماسا ، وأنكر مالك شبه العمد وقال : ليس في كتاب الله إلا الخطأ ، والعمد .

                                                            وأما شبه العمد فلا نعرفه ، واستدل الشافعي ، والجمهور بما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا ألا [ ص: 22 ] إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط ، والعصا مائة من الإبل الحديث .



                                                            (السابعة والأربعون) قوله (فمن كانت هجرته إلى آخره) الهجرة بكسر الهاء فعله من الهجر ، وهو ضد الوصل ، ثم غلب ذلك على الخروج من أرض إلى أرض وترك الأولى للثانية قاله صاحب النهاية وقال ابن دقيق العيد : الهجرة تقع على أمور :

                                                            (الهجرة الأولى) إلى أرض الحبشة (الثانية) من مكة إلى المدينة .

                                                            (الثالثة) هجرة القبائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (الرابعة) هجرة من أسلم من أهل مكة .

                                                            (الخامسة) هجرة ما نهى الله عنه ، قال ومعنى الحديث وحكمه يتناول الجميع غير أن السبب يقتضي أن المراد بالحديث الهجرة من مكة إلى المدينة ؛ لأنهم نقلوا أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة ليتزوج امرأة تسمى أم قيس فسمي مهاجر أم قيس .

                                                            (قلت) : بقي عليه من أقسام الهجرة ثلاثة أقسام ، وهي (الهجرة الثانية) إلى أرض الحبشة ، فإنهم هاجروا إلى الحبشة مرتين كما هو معروف في السير ولا يقال : كلاهما هجرة إلى الحبشة فاكتفى بذكر الهجرة إليها مرة ، فإنه قد عدد الهجرة إلى المدينة في الأقسام لتعددها .

                                                            (والهجرة الثانية) هجرة من كان مقيما ببلاد الكفر ولا يقدر على إظهار الدين ، فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى بلاد الإسلام كما صرح به أصحابنا .

                                                            (والهجرة الثالثة) الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن كما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها الحديث ورواه أحمد في مسنده فجعله من حديث عبد الله بن عمر قال صاحب النهاية : يريد به الشام ؛ لأن إبراهيم لما خرج من العراق مضى إلى الشام وأقام به انتهى وروى أبو داود أيضا من حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام فهذه ثمانية أقسام للهجرة .

                                                            (الثامنة والأربعون) اختلفت الأحاديث الواردة في الهجرة هل انقطعت بفتح مكة أم هي باقية ؟ ففي الصحيحين من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا .

                                                            وروى البخاري عن ابن عمر قوله لا هجرة بعد الفتح وفي [ ص: 23 ] رواية له لا هجرة اليوم أو بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                            وروى البخاري أيضا أن عبيد بن عمير سأل عائشة عن الهجرة ؟ فقالت : " لا هجرة اليوم ، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله مخافة أن يفتن عليه فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام ، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء ولكن جهاد ونية " .

                                                            وروى البخاري ومسلم أيضا عن مجاشع بن مسعود قال : انطلقت بأبي معبد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الهجرة فقال : مضت الهجرة لأهلها ، أبايعه على الإسلام ، والجهاد وفي رواية أنه جاء بأخيه مجالد .

                                                            وروى أحمد من حديث أبي سعيد الخدري ورافع بن خديج وزيد بن ثابت أيضا لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية فهذه الأحاديث دالة على انقطاع الهجرة وروى أبو داود ، والنسائي من حديث معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها .

                                                            ، وروى أحمد من حديث ابن السعدي مرفوعا لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل .

                                                            وروى أيضا من حديث جنادة بن أبي أمية مرفوعا أن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد وجمع الخطابي في المعالم بين هذا الاختلاف بأن الهجرة كانت في أول الإسلام فرضا ، ثم صارت بعد فتح مكة مندوبا إليها غير مفروضة قال فالمنقطعة منهما هي الفرض ، والباقية منهما هي الندب قال : فهذا وجه الجمع بين الحديثين على أن بين الإسنادين ما بينهما ، حديث ابن عباس متصل صحيح وحديث معاوية فيه مقال انتهى وقال صاحب النهاية : إن الجمع بينهما أن الهجرة هجرتان : إحداهما التي وعد الله عليها بالجنة كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويدع أهله ، وماله لا يرجع في شيء منه فلما فتحت مكة انقطعت هذه الهجرة .

                                                            (والثانية) من هاجر من الأعراب وغزا مع المسلمين ولم يفعل كما فعل أصحاب الهجرة ، وهو المراد بقوله : لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة انتهى وفي حديث آخر ما يدل على أن المراد بالباقية هجر السيئات كما رواه أحمد في مسنده من حديث معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الهجرة خصلتان : إحداهما تهجر السيئات ، والأخرى تهاجر إلى الله وإلى رسوله ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب ، فإذا طلعت طبع على كل [ ص: 24 ] قلب بما فيه وكفى الناس العمل .

                                                            وروى أحمد أيضا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال : جاء رجل أعرابي جافي جريء فقال : يا رسول الله أين الهجرة إليك حيث كنت أم إلى أرض معلومة أو لقوم خاصة أم إذا مت انقطعت ؟ قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ، ثم قال : أين السائل عن الهجرة ؟ قال : ها أنا ذا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقمت الصلاة وآتيت الزكاة فأنت مهاجر ، وإن مت بالحضر قال يعني أرضا باليمامة وفي رواية له الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها ، وما بطن وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ثم أنت مهاجر ، وإن مت بالحضر .



                                                            (التاسعة والأربعون) وقع هنا الشرط ، والجزاء متحدين في الجملتين في قوله : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، وكذا في الجملة الثانية ، والقاعدة عند أهل العربية أن الشرط ، والجزاء ، والمبتدأ ، والخبر لا بد أن يكونا متغايرين .

                                                            والجواب أن التغاير في الحديث مقدر وتقديره فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدا فهجرته إلى الله ورسوله ثوابا وأجرا أو نحو ذلك من التقدير والله أعلم .



                                                            (الفائدة الخمسون) لم يقل في الجزاء فهجرته إليهما ، وإن كان أخصر بل أتى بالظاهر فقال : فهجرته إلى الله ورسوله ، وذلك من آدابه صلى الله عليه وسلم في تعظيم اسم الله أن يجمع مع ضمير غيره كما قال للخطيب بئس خطيب القوم أنت ، حين قال من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى وبين له وجه الإنكار فقال له : (قل ومن يعص الله ورسوله) .

                                                            وهذا يدفع قول من قال : إنما أنكر عليه وقوفه على قوله : ومن يعصهما ، وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الضمير في موضع آخر فقال فيما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد الحديث ، وفيه من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما ، فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا .

                                                            وظهر بهذا أن ترك جمعهما في ضمير واحد على وجه الأدب ، وأنه إنما أنكر على الخطيب ذلك تنبيها على دقائق الكلام ولأنه قد لا يكون عنده من المعرفة بتعظيم الله تعالى ما يعلمه صلى الله عليه وسلم من عظمته وجلاله والله أعلم .



                                                            (الحادية والخمسون) الدنيا فعلى من الدنو ، وهو القرب سميت بذلك لسبقها للآخرة ، وفي الدال لغتان ، الضم ، وهو الأشهر ، والكسر حكاه ابن قتيبة وغيره ، وهي مقصورة ليس فيها تنوين بلا [ ص: 25 ] خلاف نعلمه بين أهل اللغة ، والعربية ، وحكى بعض المتأخرين من شراح البخاري أن فيها لغة غريبة بالتنوين وليس بجيد ، فإنه لا يعرف في اللغة .

                                                            وسبب الغلط أن بعض رواة البخاري رواه بالتنوين ، وهو أبو الهيثم الكشميهني ، وأنكر ذلك عليه ولم يكن ممن يرجع إليه في ذلك فأخذ بعضهم يحكي ذلك لغة كما وقع لهم نحو ذلك في خلوف فم الصائم فحكوا فيه لغتين ، وإنما يعرف أهل اللغة الضم ، وأما الفتح فرواية مردودة لا لغة والله أعلم .



                                                            (الثانية والخمسون) اختلف المتكلمون في حقيقة الدنيا على قولين : أحدهما أنها ما على الأرض من الهواء ، والجو ، والثاني أنها كل المخلوقات من الجواهر ، والأعراض .



                                                            (الثالثة والخمسون) ما فائدة التنصيص على المرأة مع كونها داخلة في مسمى الدنيا ؟ وأجاب النووي بأجوبة :

                                                            أحدها أنه لا يلزم دخولها في هذه الصيغة ؛ لأن لفظة دنيا نكرة ، وهي لا تعم في الإثبات فلا يلزم دخول المرأة فيها .

                                                            والثاني أنه للتنبيه على زيادة التحذير .

                                                            والثالث أنه جاء أن سبب هذا الحديث مهاجر أم قيس وحكى ابن بطال أيضا عن ابن سراج أنه إنما خص المرأة بالذكر من بين سائر الأشياء في هذا الحديث ؛ لأن العرب كانت في الجاهلية لا يتزوج المولى العربية ولا يزوجون بناتهم إلا من الأكفاء في النسب فلما جاء الإسلام سوى بين المسلمين في مناكحهم وصار كل واحد من المسلمين كفؤا لصاحبه فهاجر كثير من الناس إلى المدينة ليتزوج بها حتى سمي بعضهم مهاجر أم قيس .



                                                            (الرابعة والخمسون) قال ابن دقيق العيد : شرع بعض المتأخرين من أهل الحديث في تصنيف في أسباب الحديث كما صنف في أسباب النزول للكتاب العزيز فوقفت من ذلك على يسير له قال : فهذا الحديث على ما قدمناه من الحكاية عن مهاجر أم قيس يدخل في هذا القبيل .

                                                            (الخامسة والخمسون) ما اشتهر بين الشراح لهذا الحديث أن سبب قصة مهاجر أم قيس رواه الطبراني في المعجم الكبير بإسناد رجال ثقات . من رواية الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها فكنا نسميه مهاجر أم قيس .

                                                            (السادسة والخمسون) لم يسم أحد ممن صنف في الصحابة هذا الرجل الذي ذكروا أنه [ ص: 26 ] كان يسمى مهاجر أم قيس فيما رأيته من التصانيف .

                                                            وأما أم قيس المذكورة فقد ذكر أبو الخطاب بن دحية أن اسمها قيلة والله أعلم .

                                                            (السابعة والخمسون) إن قيل ما وجه ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة أم سليم أن أبا طلحة الأنصاري خطبها مشركا فلما علم أنه لا سبيل له إليها إلا بالإسلام أسلم وتزوجها وحسن إسلامه .

                                                            وهكذا روى النسائي من حديث أنس قال : تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها فقالت : إني قد أسلمت ، فإن أسلمت نكحتك فأسلم فكان صداق ما بينهما ، بوب عليه النسائي ( التزوج على الإسلام ) وروى النسائي أيضا من حديثه أيضا قال خطب أبو طلحة أم سليم فقالت : والله ما مثلك يا أبا طلحة يرد ولكنك رجل كافر ، وأنا امرأة مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك ، فإن أسلمت فذاك مهري فلا أسألك غيره فأسلم فكان ذلك مهرها قال ثابت : فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرا من أم سليم (الإسلام) .

                                                            فدخل بهذا الحديث وأخرجه ابن حبان في صحيحه من هذا الوجه فظاهر هذا أن إسلامه كان ليتزوج بها فكيف الجمع بينه وبين حديث الهجرة المذكورة مع كون الإسلام أشرف الأعمال ؟ والجواب عنه من وجوه :

                                                            (أحدها) أنه ليس في الحديث أنه أسلم ليتزوجها حتى يكون معارضا لحديث الهجرة ، وإنما امتنعت من تزوجه حتى هداه الله للإسلام رغبة في الإسلام لا ليتزوجها ولا يظن ذلك بأبي طلحة أنه إنما أسلم ليتزوج أم سليم فقد كان من أجل الصحابة .

                                                            والوجه الثاني أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحها أنه لا يصح منه الإسلام رغبة فيه فمتى كان الداعي إلى الإسلام الرغبة في الدين لم يضر معه كونه يعلم أنه يحل له بذلك نكاح المسلمات ولا ميراث مورثه المسلم ولا استحقاق الغنيمة ونحو ذلك إذا كان الباعث على الإسلام الرغبة في الدين .

                                                            وذكر ابن بطال عند حديث الرجل يقاتل للمغنم من كان ابتداؤه نية الأعمال لله تعالى لم يضره بعد ذلك ما عرض في نفسه وخطر بقلبه من حديث النفس ووسواس الشيطان ولا يزيله عن حكمه إعجاب اطلاع العباد عليه بعد مضيه إلى ما ندبه الله إليه ولا سروره بذلك ، وإنما المكروه أن يبدأ بنية [ ص: 27 ] غير مخلصة وحكاه أيضا في موضع آخر عن الطبري ، وأنه حكاه عن قول عامة السلف رضي الله عنهم .

                                                            والحق في اجتماع الباعثين أو البواعث على الفعل الواحد أنه لا يخلو إما أن يكون كل واحد منهما أو منها لو انفرد لكان كافيا في الإتيان بالفعل أو يكون الكافي لذلك أحدهما أو لعلة أحدهما ، فإن كان كل واحد كافيا بالإتيان به فهذا يضر فيه التشريك لقوة الداعي ، وإن غلب أحدهما بأن يكون حصوله أسرع إلى وقوع المنوي ، وإن كان الباعث على الفعل أحدهما بحيث لو عدم الآخر لم يتخلف عن المنوي فالحكم للقوي كمن يقوم للعبادة ، وهو يستحسن إطلاع الناس عليه مع أنه لو علم أنه لو لم يطلع عليه أحد لما صرفه ذلك عنها ولا عن الرغبة فيها فهذا لا يؤثر في صحة عبادته ، وإن كان الأكمل في حقه التسوية بين اطلاع الناس وعدم اطلاعهم ، والأسلم له عدم محبة اطلاعهم .

                                                            (والوجه الثالث) أنه لا يصح هذا عن أبي طلحة ، والحديث ، وإن كان صحيح الإسناد ، فإنه معلل بكون المعروف أنه لم يكن حينئذ نزل تحريم المسلمات على الكفار إنما نزل بين الحديبية وبين الفتح حين نزل قوله تعالى لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن كما ثبت في صحيح البخاري فقول أم سليم في هذا الحديث : ولا يحل لي أن أتزوجك شاذ مخالف للحديث الصحيح ، وما اجتمع عليه أهل السنن والله أعلم .



                                                            (الثامنة والخمسون) في قول علقمة : سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يقول ردا على من يقول إن الواحد إذا ادعى شيئا كان في مجلس جماعة لا يمكن أن ينفرد بعلمه دون أهل المجلس لم يقبل حتى يبايعه غيره عليه كما قاله بعض المالكية مستدلين بقصة ذي اليدين ، وذلك ؛ لأنه لم يصح من رواية أحد عن عمر إلا علقمة مع كونه حدث به على المنبر كما ثبت في الصحيح بمحضر من الناس وانفرد علقمة بنقله مع كونه من قواعد الدين بل قد ذكر ابن بطال أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب به حين وصل إلى دار الهجرة وشهر الإسلام ، فإن ثبت ذلك فقد سمعه جمع من الصحابة ولم يروه عنه غير عمر من وجه يصح كما تقدم .

                                                            وقد أجمع المسلمون على صحته فلو اشترط متابعة الراوي لما حضره غيره ولم يقبل انفراده به لما قبلوه والله تعالى أعلم ، وإنما استفهم النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين ؛ لأنه أخبره بخلاف ما كان في ظنه فاحتاج إلى أن يسأل [ ص: 28 ] عنه وليس في حديث عمر هذا مخالفة لما رواه غيره من الصحابة فوجب المصير إليه .



                                                            (التاسعة والخمسون) فيه أنه لا بأس للخطيب أن يورد أحاديث في أثناء الخطبة ، وهو كذلك فقد فعله الخلفاء الراشدون أبو بكر وعثمان وعلي أيضا ، وهو مشهور معروف .



                                                            (الفائدة الستون) ذكر القاضي أبو بكر بن العربي حكاية عن علمائهم أن النية هي المرادة من قوله صلى الله عليه وسلم لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه قال : لأن الذكر مضاد للنسيان ، والنسيان ، والذكر إنما يتضادان بالمحل الواحد ومحل النسيان القلب فمحل الذكر إذا القلب وذكر القلب هو النية ، وذكر أن هذا الحديث ضعيف وحكى قول أحمد لا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا انتهى .

                                                            وما حكاه عن علمائهم قد رواه أبو داود في سننه عن ربيعة شيخ مالك أنه الذي يتوضأ ويغتسل ولا ينوي وضوءا للصلاة ولا غسلا للجنابة وحكاه الخطابي أيضا عن جماعة من العلماء ، وفيه نظر ، فإن في بعض طرقه عند الدارقطني من حديث أبي هريرة من توضأ وذكر اسم الله عليه تطهر جسده كله ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه لم يتطهر إلا موضع الوضوء فلو كان المراد بذكر اسم الله النية لم يتطهر مع عدمها شيء لا مواضع الوضوء ولا غيرها .

                                                            وقد يقال ينبني على أن الحدث يحل جميع الجسد أو أعضاء الوضوء فقط ، فإن قلنا : يحل جميع الجسد لم تحصل الطهارة حيث لم يذكر اسم الله ، وإن قلنا : تحل أعضاء الوضوء فقط حصل ذلك لتطهر أعضاء الوضوء ، وقول ابن العربي : إن الذكر مضاد النسيان إلى آخره إنما ذلك في ذكر القلب ، فأما ذكر اللسان فلا يضاده النسيان بل يضاده ترك الذكر ، وإن كان ذاكرا بقلبه والله تعالى أعلم وقوله : إن الحديث ضعيف قد صححه الحاكم من حديث أبي هريرة وفيه نظر .



                                                            (الحادية والستون) قال ابن بطال ومما يجري بغير نية ما قاله مالك : إن الخوارج أخذوا الزكاة من الناس بالقهر ، والغلبة وأجزأت عمن أخذت منه ومنها أن أبا بكر الصديق وجماعة الصحابة أخذوا الزكاة من أهل الردة بالقهر ، والغلبة ، ولو لم تجزئ عنهم ما أخذت منهم قال ابن بطال : واحتج من خالفهم وجعل حديث النية على العموم أن أخذ الخوارج للزكاة غلبة لا ينفك المأخوذ منه من النية ؛ لأن معنى النية ذكرها [ ص: 29 ] وقت أخذها منه أنه عن الزكاة أخذها المتغلب عليه .

                                                            وقد أجمع العلماء أن أخذ الإمام الظالم لها يجزئه فالخارجي في معنى الظالم ؛ لأنهم من أهل القبلة وشاهدة التوحيد .

                                                            وأما أبو بكر فلم يقتصر على أخذ الزكاة من أهل الردة بل قصد حربهم وغنيمة أموالهم وسبيهم لكفرهم ، ولو قصد أخذ الزكاة فقط لرد عليهم ما فضل عنها من أموالهم إلى آخر كلامه .



                                                            (الثانية والستون) فيه حجة على ابن القاسم في قوله : إن الرجل إذا أعتق عبده عن غيره في كفارة الظهار بغير علمه أنه يجزئه عن كفارته ، وإن كانت الكفارة فرضا عليه فأسقط كفارة الظهار بغير نية من هي عليه وذهب أبو حنيفة والشافعي وغيرهم إلى أنه لا يجزئه ذلك ، وكذلك خالفه من المالكية أشهب وابن المواز والأبهري وقال : القياس أنه لا يجزئ ؛ لأن المعتق عنه بغير أمره لم ينو عتقه ، والعتق في الكفارات لا يجزئ بغير نية وليس كالميت يعتق عنه في الكفارة ، فإن نيته معدومة والله أعلم .



                                                            (الثالثة والستون) استثنى بعض العلماء من هذا الحديث مما لا تجب فيه النية من الواجبات ما إذا غاب عن المرأة زوجها مدة طويلة ، ومات ولم تعلم بموته أن عدتها من يوم موته لا من يوم بلغتها وفاته فالعدة واجبة عليها ، وقد سقطت عنها بغير نية كما اتفق عليه الحنفية ، والمالكية ، والشافعية فيما حكاه ابن بطال وأجابوا عن الحديث بأن العدة جعلت لبراءة الرحم ، وقد حصلت ، وإن لم تعلم المرأة بذلك ، وقد أجمعوا أن الحامل التي لم تعلم بوفاة الزوج أو طلاقه تنقضي عدتها بالوضع لبراءة الرحم والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية