الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            (باب الوضوء) عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه ، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا استيقظ أحدكم فلا يضع يده في الوضوء حتى يغسلها إنه لا يدري أحدكم أين باتت يده وفي رواية لمسلم ثلاثا وقال الترمذي مرتين أو ثلاثا

                                                            التالي السابق


                                                            (باب الوضوء ، وفيه أحاديث)

                                                            (الحديث الأول) عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه ، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا استيقظ [ ص: 42 ] أحدكم فلا يضع يده في وضوئه حتى يغسلها إنه لا يدري أحدكم أين باتت يده فيه فوائد :

                                                            (الأولى) حديث أبي هريرة أخرجه الستة الشيخان من رواية الأعرج ومسلم من رواية همام وعبد الله بن شقيق وأبي رزين وأبي صالح وأبي سلمة وسعيد بن المسيب وجابر بن عبد الله ومحمد بن سيرين وعبد الرحمن بن يعقوب وثابت مولى عبد الرحمن بن زيد وأبو داود من رواية أبي رزين وأبي صالح وأبي مريم ، والترمذي وابن ماجه من رواية ابن المسيب وأبي سلمة ، والنسائي من رواية أبي سلمة كلهم عن أبي هريرة وهم اثنا عشر رجلا .

                                                            (الثانية) في اختلاف ألفاظه ففي رواية لأبي داود إذا قام أحدكم من الليل ، وكذا قال ابن ماجه إذا استيقظ أحدكم من الليل ولمسلم وأصحاب السنن في الإناء موضع قوله في وضوئه وفي رواية مسلم في إنائه وفي رواية له حتى يغسلها ثلاثا وفي رواية له ثلاث مرات ، وكذا قال أبو داود ، والنسائي قال مسلم : ولم يقل واحد منهم ثلاثا إلا ما قدمناه من رواية جابر وابن المسيب وأبي سلمة وعبد الله بن شقيق وأبي صالح وأبي رزين .

                                                            قلت : وكذا قال أبو مريم عند أبي داود وقال أبو داود في رواية له ، والترمذي وابن ماجه مرتين أو ثلاثا ولمسلم في رواية له وابن ماجه فيما باتت له وفي رواية لأبي داود أين باتت أو أين كانت تطوف يده وفي رواية للبيهقي أين باتت يده منه وقال تفرد بقوله منه محمد بن الوليد البسري ، وهو ثقة ولابن ماجه من حديث جابر أين باتت يده ولا على ما وضعها وللدارقطني من حديث ابن عمر أين باتت يده أو أين طافت يده وقال إسناده حسن .

                                                            (الثالثة) احتج الجمهور بعموم قوله من نومه على أنه لا فرق في ذلك بين نوم الليل ، والنهار وخالف في ذلك أحمد وداود فخصصا هذا الحكم بنوم الليل لقوله في آخر الحديث : أين باتت يده ولرواية أبي داود وابن ماجه المتقدمتين إذا قام أو استيقظ أحدكم بالليل وهكذا يقول الحسن في الرواية المشهورة عنه أنه كان لا يجعل نوم [ ص: 43 ] النهار مثل نوم الليل وروي عن الحسن أيضا موافقة الجمهور ، وقال أحمد فيما رواه الأثرم عنه ، فالمبيت إنما يكون بالليل قال ابن عبد البر : أما المبيت فيشبه أن يكون ما قاله أحمد صحيحا فيه ؛ لأن الخليل قال في كتاب العين البيتوتة دخولك في الليل وكونك فيه بنوم وغير نوم قال : ومن قال بت بمعنى نمت وفسره على النوم فقد أخطأ قال ألا ترى أنك تقول : بت أراعي النجم قال فلو كان نوما كيف كان ينام وينظر قال ابن عبد البر : لا أعلم أحدا قال بقول الحسن وأحمد في هذه المسألة غيرهما انتهى .

                                                            وقد خالف أحمد في ذلك صاحبه إسحاق بن راهويه فقال : لا ينبغي لأحد استيقظ ليلا أو نهارا إلا أن يغسل يده قبل أن يدخلها الوضوء قال : والقياس في نوم الليل أنه مثل نوم النهار .

                                                            وما قاله إسحاق هو الذي عليه عامة العلماء وأجابوا عن الحديث بأن ذلك خرج مخرج الغالب ويدل لذلك رواية أبي داود وأين كانت تطوف يده ورواية الدارقطني وأين طافت يده ولا يلزم من صيغة أو في الروايتين أن يكون ذلك شكا بل يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال الأمرين معا يريد أين باتت يده في المبيت أو أين كانت تطوف يده في نومه مساء كان أو نهارا والله أعلم .

                                                            (الرابعة) مفهوم الشرط حجة عند أكثر الأصوليين فمفهومه أنه لم يؤمن بذلك غير المستيقظ ممن ليس في معناه كالشاك على ما سيأتي ، وهو قول الأكثرين وخالف في ذلك الشعبي فقال فيما رواه محمد بن نصر المروزي عنه النائم ، والمستيقظ سواء إذا وجب عليه الوضوء لم يدخل يده في الإناء حتى يغسلها وروى ابن نصر أيضا عن ابن عمر والحسن وطاوس إطلاق غسل اليد قبل إدخالها للإناء من غير تقييد باستيقاظ من نوم ولعل من أطلق ذلك أراد الاغتراف للاستعمال احترازا عن الوضوء في الأواني الصغار ، وقد يقول الشعبي ومن وافقه : لعل النهي عن إدخال يد المستيقظ من النوم في الإناء خرج على جواب سؤال عنه فلا يكون له مفهوم وذكر بعض أفراد العموم لا يخصص ، وقد يجيب الجمهور بأنه لم ينقل في طرق الحديث خروج ذلك على الجواب سؤال فلا يثبت ذلك بالاحتمال فيفرق حينئذ بين المستيقظ من النوم وغيره ممن ليس في معناه والله أعلم .



                                                            (الخامسة) اختلفوا في الأمر في [ ص: 44 ] قوله في الرواية الأولى فليغسل يده هل هو على الندب أو الوجوب ، وكذا النهي في قوله في الرواية الثانية : فلا يضع يده في الوضوء حتى يغسلها هل هو للتحريم أو التنزيه فذهب أكثر أهل العلم إلى أن ذلك على الندب ، والتنزيه لا على الوجوب ، والتحريم ، وهو قول مالك والشافعي وأهل الكوفة وغيرهم وذهب الحسن البصري وأهل الظاهر إلى أن ذلك على الوجوب ، والتحريم لظاهر الأمر ، والنهي .

                                                            وقالوا يهراق الماء وحكى الخطابي عن داود ومحمد بن جرير وجوب ذلك ، وأنهما رأيا أن الماء ينجس به إذا لم تكن اليد مغسولة وحكى الرافعي عن أحمد أنه يوجب غسلهما عند الاستيقاظ من نوم الليل دون النهار على ما تقدم عنه من التفرقة ، ثم اختلف أصحاب داود الظاهري عنه فقال أكثرهم : إنه إن فعله كان عاصيا ولا يفسد الماء بذلك وقال بعض أصحابه عنه لا يجوز الوضوء به وقال ابن زرقون من المالكية : المستيقظ على ثلاثة أحوال طاهر ونجس وجنب فالطاهر لا يفسد الماء .

                                                            وحكى ابن حارث عن ابن غافق التونسي من أصحابنا أنه يفسده ، وأما الموقن بالنجاسة فيجري على اختلافهم في النجاسة تحل في قليل الماء ، وأما الجنب ، والمحتلم الذي لا يدري ما أصاب يده فقال ابن حبيب : إنه يفسد الماء قال : وهو معنى الحديث ولمالك في المجموعة نحوه انتهى .

                                                            والصواب ما ذهب إليه الجمهور وقال أبو الوليد الباجي ؛ لأنه قد اقترن بالأمر ما دل على الندب ؛ لأنه علل بالشك ، ولو شك هل مست يده نجاسة لما وجب عليه غسل يده .



                                                            (السادسة) قوله في وضوئه هو بفتح الواو على المشهور المعروف في الرواية ، وهو الماء الذي يتوضأ به ، وأما الوضوء بضمها فهو الفعل قال صاحب النهاية : وقد أثبت سيبويه الوضوء ، والطهور ، والوقود بالفتح في المصادر فهي تقع على الاسم ، والمصدر قال : وأصل الكلمة من الوضاءة ، وهي الحسن ، والبهجة ومنه حديث عائشة في قصة الإفك لقلما كانت امرأة وضيئة الحديث .

                                                            (السابعة) تقدم أن في رواية مسلم بدل قوله في وضوئه في إنائه وفي رواية في الإناء ، وهو يدل على أن النهي مخصوص بالأواني دون البرك ، والحياض التي لا يخاف فساد مائها بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها ولذلك قال قيس الأشجعي لأبي هريرة [ ص: 45 ] حين حدث بهذا : فكيف إذا جئنا مهراسكم هذا فكيف نصنع به ؟ فقال أبو هريرة : أعوذ بالله من شرك رواه البيهقي فكره أبو هريرة ضرب الأمثال للحديث ، وكذلك ما رواه الدارقطني ، والبيهقي من حديث ابن عمر في هذا الحديث فقال له رجل : أرأيت إن كان حوضا فحصبه ابن عمر وقال أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أرأيت إن كان حوضا فكره ابن عمر ضرب الأمثال بحديثه صلى الله عليه وسلم وكان شديد الاتباع للأثر ولهذا قال أصحابنا : إنه إذا كان الإناء كبيرا لا يمكنه تحريكه ولم يجد إناء يغترف به أخذ الماء منه بفمه أو بطرف ثوبه النظيف وغسل به يده أو يستعين بمن يصب عليه ، وهذا كله عند الشك في النجاسة على ما سيأتي



                                                            (الثامنة) اختلف العلماء في الأمر بذلك هل هو تعبد أو معقول المعنى فقال بعضهم هو تعبد حتى إن من تحقق طهارة يده في نومه بأن لف عليها ثوبا أو خرقة طاهرة واستيقظ ، وهو كذلك كان مأمورا بغسلها لعموم أمر المستيقظ بذلك ، وهو أحد الوجهين لأصحابنا ، وهو مشهور مذهب مالك أنه يستحب ، وإن تيقن طهارة يده ، وأظهر الوجهين عند أصحابنا كما قال الرافعي أنه لا يكره غمس اليد للمستيقظ مع تيقن طهارة يده ؛ لأنه إنما أمر بذلك لاحتمال النجاسة بدليل قوله في آخر الحديث ، فإنه لا يدري أين باتت يده فعلل الأمر باحتمال طرو نجاسة على يده والله أعلم .

                                                            (التاسعة) إذا تقرر أن ذلك معقول المعنى ، وأن الشارع أشار إلى العلة بقوله : فإنه لا يدري أين باتت يده فقد اختلف في سبب ذلك فقال الشافعي : رضي الله عنه معناه أن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالأحجار وبلادهم حارة ، فإذا نام أحدهم عرق فلا يأمن النائم أن تطوف يده على ذلك الموضع النجس أو على بثرة أو قملة أو قذر أو غير ذلك .

                                                            وقال أبو الوليد الباجي : اختلف في سبب غسل اليد للمستيقظ فقال ابن حبيب أما لعله قد مس من نجاسة خرجت منه لم يعلم بها أو غير نجاسة مما يقذر وقيل : لأن أكثرهم كانوا يستجمرون ، وقد يمس بيده أثر النجو قال وليس ذلك ببين ؛ لأن النجاسات لا تخرج في الغالب إلا بعلم منه ، وما لم يعلم به فلا حكم له وموضع الاستجمار لا تناله يد النائم إلا مع القصد لذلك ، ولو كان غسل [ ص: 46 ] اليدين لتجويز ذلك لأمر بغسل الثياب لجواز ذلك عليها قال : والأظهر ما ذهب إليه العراقيون من المالكيين وغيرهم أن النائم لا يكاد تسلم يده من حك مغابنه أو بثره في بدنه وموضع عرقه وغير ذلك فاستحب له غسل يده مطلقا انتهى .

                                                            حاصل كلامه وقوله : إن موضع الاستجمار لا تناله يد النائم إلا مع القصد لذلك ليس كذلك واعتراضه بالثياب ليس بجيد لمعنيين أحدهما أنه ربما كان العرق في يده دون محل الاستنجاء فتتأثر اليد دون الثوب ، والثاني أنه لا يريد غمس ثوبه في الماء حتى يؤمر بغسل ثوبه .

                                                            وأما اليد فأمر بذلك ؛ لأن أثر الاستنجاء لا يعفى عنه في الماء بدليل أنه لو نزل مستجمر في ماء قليل تنجس ، وإن كان قد عفي عن أثر الاستنجاء فهو بالنسبة إلى المحل المعفو عنه ، وما رجحه من أن العلة حك بثره أو ما يقذر فهو في كلام الشافعي رضي الله عنه مذكور .



                                                            (العاشرة) في رواية مسلم استحباب التثليث في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء ، وهو كذلك عند أصحابنا ولكن التثليث المأمور هل هو لاحتمال النجاسة أو هو التثليث المشروع في الوضوء ؟ محل النظر .

                                                            (الحادية عشر) فيه استحباب التثليث في غسل النجاسات مطلقا غير المغلظة التي أمر بالسبع فيها ، فإن في استحباب التثليث فيها خلافا عند أصحابنا ، وإذا أمر بالتثليث في موضع احتمال النجاسة فالإتيان به مع تحقق النجاسة من باب أولى .



                                                            (الثانية عشر) اختلف العلماء هل تزول الكراهة بغسل اليد مرة قبل غمسها أو يتوقف زوالها على غسلها ثلاثا على ما ثبت في رواية مسلم ؟ فقال الشافعي في مختصر البويطي : فإن لم يغسلهما إلا مرة أو مرتين أو لم يغسلهما أصلا حين أدخلهما في وضوئه فقد أساء .

                                                            وقال النووي : إن ما نص عليه الشافعي صرح به الأصحاب ، وما نص عليه الشافعي وأصحابه من توقف زوال الكراهة على الثلاث يشكل عليه ما تقدم تصحيحه من أنه لا يكره غمس اليد إذا تحقق طهارتها ومعلوم أن المرة الواحدة مطهرة لليد إن لم يكن ، ثم نجاسة عينية لم يزل حكمها فكيف يقال ببقاء الكراهة مع تحقق الطهارة لا جرم كان جمهور أهل العلم على أن تيقن طهارة اليد للمستيقظ من النوم لا يرفع الأمر بالغسل بل هو مأمور به بإجماع جمهور العلماء أمر ندب وعند بعضهم أمر إيجاب كما حكاه ابن عبد البر في التمهيد [ ص: 47 ] بل حكاه الماوردي في الحاوي عن جمهور أصحاب الشافعي وصححه ، وهو أنه يستحب الغسل عند تيقن الطهارة وذكر إمام الحرمين في النهاية نحوه ، وهو المشهور أيضا عن مالك أنه يكره غمس يده مع تحقق طهارته كما حكاه ابن عبد البر .



                                                            (الثالثة عشر) في قوله فليغسل يده قبل أن يدخلها دليل على أنه إذا غسل واحدة من يديه أدخلها الإناء ، وهو كذلك لكن حكى أبو الوليد الباجي خلافا في صفة غسل اليدين قبل إدخالهما في الوضوء فحكي عن أشهب عن مالك أنه يستحب أن يفرغ على يده اليمنى فيغسلها ، ثم يدخلها في إنائه ، ثم يصب على اليسرى ، وهذا موافق للحديث قال وروى عيسى عن ابن القاسم أحب إلي أن يفرغ على يديه فيغسلهما قال : ووجه رواية أشهب قوله في الحديث فغسلهما مرتين مرتين ، وهذا يقتضي إفراد كل واحدة منهما ووجه قول ابن القاسم أن القصد التنظيف ، وغسل بعضهما ببعض أنظف لهما .



                                                            (الرابعة عشر) ليست كراهة غمس المتوضئ يده في الإناء قبل غسلها خاصة بحال الاستيقاظ من النوم ؛ لأنه قد تقدم أن المعنى فيه احتمال النجاسة كما نبه عليه في آخر الحديث وعلى هذا فمن شك في نجاسة يده كره له ذلك ، وإن لم يكن قد نام ، وهو كذلك كما جزم به الرافعي وغيره .



                                                            (الخامسة عشر) فيه دليل على أن النجاسة إذا وردت على الماء القليل نجسته ، وهو كذلك ، وقد تقدمت المسألة في الباب قبله .



                                                            (السادسة عشر) فيه حجة للشافعي ومن تابعه على الفرق بين ورود الماء على النجاسة وورود النجاسة عليه ؛ لأنه نهاه عن إيراد يده على الماء وأمره بإيراد الماء على يده كل ذلك لاحتمال طروء نجاسة على يده فلو استوى الأمران كما يقول مالك وأصحابه لما فرق بينهما قال ابن عبد البر في التمهيد لو لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الماء غير هذا الحديث لساغ في الماء غير هذا التأويل ولكن قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الماء أنه لا ينجسه شيء يريد إلا ما غلب عليه بدليل الإجماع على ذلك ، ثم أجاب عن حديث الباب بأنه محمول على الندب ، والأدب ، ثم نقل عن أصحاب الشافعي أنهم نقضوا أقوالهم في ورود الماء على النجاسة ؛ لأنهم يقولون إذا ورد الماء على النجاسة في إناء أو موضع وكان الماء دون القلتين أن النجاسة تفسده ، وأنه [ ص: 48 ] غير مطهر لها فلم يفرقوا ههنا بين ورود الماء على النجاسة وبين ورودها عليه وشرطهم أن يكون ورود الماء صبا مهراقا تحكم لا دليل عليه والله أعلم .

                                                            قلت : وما حكاه عن أصحاب الشافعي ليس كما حكاه عنهم ولا فرق عندهم في ورود الماء على النجاسة بين أن يكون صبا وبين أن يكون في إناء بحيث يغمر الماء النجاسة ويزيلها نعم إن كانت النجاسة عينية ووضعت في إناء وصب الماء عليها واجتمع الماء القليل وعين النجاسة في إناء تنجس الماء ولم يطهر الثوب .

                                                            وكذلك لو لم يسكب في إناء وصب الماء صبا على نجاسة عينية وانفصل عنها ولم يزل العين، فإن الماء يتنجس ، والثوب لا يطهر فليس حكمهم هنا بعدم الطهارة بكون الماء واردا في إناء بل لكون الماء لم يزل عين النجاسة والله أعلم .



                                                            (السابعة عشر) فيه حجة على أحمد في قوله في إحدى الروايتين عنه : إنه يجب غسل سائر النجاسات سبعا حملا للجمع على ولوغ الكلب وخالفه الجمهور فلم يوجبوا في غير نجاسة الكلب ، وما في معناها إلا الغسل مرة ، وقد روى أبو داود من حديث ابن عمر قال : كانت الصلاة خمسين ، والغسل من الجنابة سبع مرات وغسل البول من الثوب سبع مرات فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا ، والغسل من الجنابة مرة وغسل البول من الثوب مرة وفي إسناده ضعف .



                                                            (الثامنة عشر) استدل به الخطابي وغيره على أن موضع الاستنجاء مخصوص بالرخصة في جواز الصلاة مع بقاء أثر النجاسة عليه ، وأن ما عداه غير مقيس عليه انتهى ويدل عليه رواية البيهقي أين باتت يده منه أي من مظان النجاسة من جسده .



                                                            (التاسعة عشر) وفيه أن النجاسة المتوهمة لا يكتفى فيها بالرش لحصول الاحتياط بل إنما يحصل الاحتياط بغسلها لأمره بغسل اليد ، وأما ما ورد من نضح الثوب بعد الاستنجاء فليس ذلك للتطهير ، وإنما هو لدفع الوسواس حتى إذا وجد بللا أحاله على الرش لتذهب عنه الوسوسة والله تعالى أعلم .



                                                            (الفائدة العشرون) قال الخطابي : وفيه أن الأخذ بالوثيقة ، والعمل بالاحتياط في باب العبادات أولى قال النووي ما لم يخرج عن حد الاحتياط إلى حد الوسوسة قال وفي الفرق بين الاحتياط ، والوسوسة كلام طويل أوضحته في باب [ ص: 49 ] الآنية من شرح المهذب



                                                            (الحادية والعشرون) استدل به النسائي على وجوب الوضوء من النوم وبوب عليه به في سننه ، وكذا قال ابن عبد البر فيه إيجاب الوضوء من النوم قال : وهو أمر مجمع عليه في النائم المضطجع الذي قد استثقل نوما وقال زيد بن أسلم ، والسدي : في قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة أي من النوم ، ثم حكى بعد ذلك اختلاف العلماء في نقض الوضوء بالنوم وحكاه النووي أيضا ، وفيه ثمانية مذاهب :

                                                            (أحدها) لا ينقض مطلقا ، وهو محكي عن أبي موسى الأشعري وعبيدة السلماني وسعيد بن المسيب وأبي مجلز وحميد الأعرج ، والشيعة ، وهذا المذهب يرد ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع المتقدم إلا أنه قال : إنه قول شاذ ، والناس على خلافه وحكاه ابن حزم في المحلى عن الأوزاعي وقال : وهو قول صحيح عن جماعة من الصحابة وعن ابن عمر وعن مكحول قال وادعى بعضهم الإجماع على خلافه جهلا قال ابن عبد البر : ويمكن أن يحتج لهذا المذهب بحديث علي ومعاوية العينان وكاء السه الحديث قال وليسا بالقويين .

                                                            (والثاني) أنه ينقض مطلقا ، وهو قول الحسن البصري والمزني وأبي عبيد والقاسم بن سلام وإسحاق بن راهويه وابن المنذر قال ابن زرقون وحكاه أبو الفرج عن ابن القاسم قال النووي : وهو قول للشافعي غريب (قلت) : وهو قول للأوزاعي أيضا وكونه قول أبي عبيد قد جزم به النووي في شرح مسلم ، فإنه إنما رجع عن كون نوم الجالس لا ينقض إلى غلبة النوم كما حكاه ابن عبد البر عنه ، وهذا موافق لقول مالك إلا أنه يقول لا ينقض مطلقا والله أعلم .

                                                            قال ابن عبد البر ، وهو قول شاذ غير مستحسن قال وحجة من ذهب إليه حديث صفوان بن عسال كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر أمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم قال : ويمكن حمله على النوم الثقيل الغالب .

                                                            (والثالث) ينقض كثيره على كل حال دون قليله ، وهو قول ربيعة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد ، وهو المشهور عن الأوزاعي (والرابع) لا ينقض على هيئة من هيئات الصلاة ، وإن لم يكن في صلاة ، وهو قول أبي حنيفة وداود فيما حكاه النووي عنه ، وهو قول غريب للشافعي أيضا (والخامس) لا ينقض إلا نوم [ ص: 50 ] الراكع ، والساجد ، وهو رواية عن أحمد .

                                                            (السادس) أنه لا ينقض إلا نوم الساجد فقط ، وهي رواية عن أحمد أيضا .

                                                            (السابع) أنه لا ينقض في الصلاة مطلقا وينقض في غير الصلاة ، وهو قول للشافعي .

                                                            (الثامن) أنه لا ينقض نوم الجالس الممكن المقعدة من الأرض وينقض غيره سواء قل أو كثر كان في الصلاة أو في غيرها ، وهو قول الشافعي الصحيح الذي عليه عامة أصحابه وإليه ذهب داود ومحمد بن جرير ، وهو رواية ابن وهب عن مالك فهذا ما حكاه النووي من المذاهب في النوم ، وفيه قول (تاسع) وهو التفرقة بين تعمد النوم جالسا وبين غلبته ، وهو قول ابن المبارك فقال : إن تعمد النوم جالسا فعليه الوضوء ، وإن نام ساجدا في صلاته فلا شيء عليه ونحوه قول أبي يوسف إن تعمد النوم في السجود توضأ وقول الليث إذا تصنع للنوم جالسا فعليه الوضوء ، وإن غلبه النوم لم يتوضأ ، وفيه قول عاشر أنه لا ينقض إلا نوم المضطجع ، وهو قول إبراهيم والحكم وحماد والنووي ، والحسن بن روحي وحكاه الترمذي عن ابن المبارك وأحمد ، والأكثرين ، وهو الذي حكاه ابن حزم عن داود قال : وهو قول روي عن ابن عمر وابن عباس ولم يصح عنهما انتهى وحجتهم حديث ابن عباس مرفوعا إنما الوضوء على من نام مضطجعا ، وهو ضعيف تفرد برفعه أبو خالد الدالاني ، وهو عند الترمذي وأبي داود وقال : إنه حديث منكر ، وكذا قال ابن عبد البر وذكر القاضي أبو بكر بن العربي عن علمائهم أن للنائم أحد عشر حالا الماشي ، والقائم ، والمستند ، والراكع ، والساجد ، والقاعد ، والمتربع ، والمنحني ، والمتكئ ، والراكب ، والمضطجع ، والمستنفر ، وقد تقدم بيان حكم بعضها .

                                                            فأما الماشي فذكر أبو عبد الله البصري المالكي أنه لا وضوء عليه لبقاء شعوره ، وكذلك القائم ، وأما المستند ، فإن كان قائما فقيل هو كالماشي ، والقائم ، وإن كان جالسا ممكنا لم ينتقض عند الشافعية وعند أبي حنيفة إن كان بحيث لو زال مسنده لسقط انتقض ، وأما المنحني فعن مالك أنه أخف حالا من الجالس . ولأصحاب الشافعي ثلاثة أوجه ثالثها الفرق بين النحيف وغيره .

                                                            وأما المتكئ فأجراه مالك مجرى الجالس وأجراه ابن القاسم وابن حبيب مجرى المضطجع ، وأما الراكب فحكمه حكم الجالس المستند اللاصق [ ص: 51 ] بالأرض .

                                                            وأما المستقر فقال إمام الحرمين : لا وضوء عليه " الثانية ، والعشرون " ما ذكر من كون النوم ينقض الوضوء هو في حق غير النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن النوم ينقض وضوءه فقد كان تنام عيناه ولا ينام قلبه ، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ولهذا كان صلى الله عليه وسلم ينام مضطجعا ، ثم يصلي ولا يتوضأ كما ثبت في الحديث الصحيح والله أعلم .



                                                            (الثالثة والعشرون) فيه استحباب الكناية عما يستحيا منه إذا حصل الإفهام بالكناية ، فإنه لم يقل ، فإنه لا يدري لعل يده تمر على فرجه أو دبره أو نحو ذلك بل كنى عن ذلك بما يحصل به الإفهام والله أعلم .



                                                            (الرابعة والعشرون) ينبغي للسامع لأقواله صلى الله عليه وسلم أن يتلقاها بالقبول ودفع الخواطر الرادة لها ، وأنه لا يضرب بها الأمثال فقد بلغنا أن شخصا سمع هذا الحديث فقال وأين باتت يده منه فاستيقظ من النوم ويده في داخل دبره محشوة فلم تخرج حتى تاب عن ذلك وأقلع ، والأدب مع أقواله بعده كالأدب معه في حياته صلى الله عليه وسلم لو سمعه يتكلم فنسأل الله أن يحفظ قلوبنا من الخواطر الرديئة ويرزقنا الأدب مع الشريعة المطهرة باطنا وظاهرا والله أعلم .



                                                            (الخامسة والعشرون) أمر المستيقظ من النوم بغسل اليد ثلاثا قبل إدخالها الإناء هل المراد بهما غسل الكفين الذي هو سنة في أول الوضوء أو هذا أمر آخر بحيث أنه إذا غسل يده للقيام من النوم ثلاثا وأراد الوضوء غسل كفيه له ثلاثة ؟ الذي صرح به أصحابنا الأول وممن صرح به البندنيجي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وعليه يدل قوله في وضوئه فهو ظاهر في أن المراد غسلهما عند الوضوء ، وهو مصرح به عند ابن ماجه من حديث جابر إذا قام أحدكم من النوم فأراد أن يتوضأ فلا يدخل يده في وضوئه حتى يغسلها الحديث .

                                                            وكذا ذكره عبد الرزاق في المصنف من رواية ثابت مولى عبد الرحمن عن أبي هريرة إذا كان أحدكم نائما ، ثم استيقظ فأراد الوضوء فلا يضع يده في الإناء الحديث .

                                                            وهو عند مسلم من طريق عبد الرزاق ولكنه لم يسق لفظه والله أعلم .

                                                            وذهب أشهب من المالكية إلى أن الغسل إنما هو لخشية النجاسة ، فإن تحقق طهارة يده لم يستحب له غسل كفيه في الوضوء واستدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي : توضأ كما أمرك الله [ ص: 52 ] وليس في الآية غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية