الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ، ثم ليستنثر وعن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ، ثم لينثر ، ومن استجمر فليوتر

                                                            التالي السابق


                                                            (الحديث الثاني) وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ، ثم لينتثر وعن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ، ثم لينتثر ومن استجمر فليوتر .

                                                            فيه فوائد :

                                                            (الأولى) حديث أبي هريرة أخرجه الأئمة الستة فأخرجوه خلا ابن ماجه من رواية الأعرج ومسلم من رواية همام ، والشيخان ، والنسائي وابن ماجه من رواية أبي إدريس الخولاني عن أبي هريرة بلفظ من توضأ فليستنثر ومن استجمر فليوتر . والشيخان ، والنسائي من رواية عيسى بن طلحة عن أبي هريرة بلفظ إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاثا الحديث .

                                                            (الثانية) الاستنشاق هو أن يبلغ الماء خياشيمه ، وهو من استنشاق الريح إذا شمها مع قوة قالها الجوهري ، والمنخر بكسر المعجمة وفي ميمه لغتان الفتح ، والكسر ، والانتثار مأخوذ من النثرة ، وهي طرف الأنف عند جمهور أهل اللغة وقال الخطابي هي الأنف واختلف في حقيقة الانتثار . فقال جمهور أهل اللغة هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق ، وهو قول الفقهاء وأهل الحديث وقال ابن الأعرابي وابن قتيبة إن الاستنثار هو الاستنشاق ، والصواب الأول الذي يدل عليه هذا الحديث بقوله ، ثم لينتثر بعد قوله فليستنشق .

                                                            وأما الاستجمار فهو الاستنجاء بالأحجار مأخوذ من الجمار ، وهي الأحجار الصغار هذا هو الصحيح الذي قاله جمهور اللغويين ، والفقهاء ، والمحدثين وحكى القاضي عياض عن مالك في معناه قولا آخر أن المراد بالاستجمار هنا البخور من قوله ومجامرهم الألوة ، وهو أن يأخذ منه ثلاث قطع أو يأخذ منه ثلاث مرات فيستعمل واحدة بعد أخرى قال ، والأول أظهر ، والإيتار المأمور به أن يكون عدد الاستجمار وترا ثلاثا أو خمسا أو فوق ذلك .

                                                            (الثالثة) استدل به أحمد وأبو ثور على وجوب الاستنشاق لظاهر [ ص: 53 ] الأمر ، وهو قول ابن أبي ليلى وإسحاق أيضا حكاه الخطابي عنهما وجملة الجمهور مالك والشافعي وأهل الكوفة على الندب لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي : توضأ كما أمرك الله .

                                                            وليس في الآية ذكر الاستنشاق وأيضا ، فإنهم اتفقوا على عدم وجوب الانتثار مع كونه مأمورا به مع عطفه على أمره بالاستنشاق ولأنه أمر في بعض طرقه بالتثليث فيه وليس بواجب اتفاقا فدل على أن أصل الأمر للندب وأجاب صاحب المفهم عنه بأنه يحتمل أن يكون أمره بالاستنثار أمرا بالوضوء كما قد جاء مفسرا في غير رواية مسلم فليتوضأ وليستنثر ثلاثا انتهى .

                                                            (الرابعة) ليس في رواية الأعرج وهمام تعرض لعدد الاستنشاق .

                                                            وفي رواية عيسى بن طلحة عن أبي هريرة بيان كونه ثلاثا ، وهي متفق عليها كما تقدم ، وفيه استحباب التثليث في الاستنشاق ، وهو كذلك ولكن اختلف فيه هل يستنشق من كف واحدة أو من ثلاثة أكف واختلف أصحابنا أيضا هل يفصل بينه وبين المضمضة من ماء واحد أو يجمع بينهما . والأصح كما قال النووي إنه يجمع بينهما بثلاث غرفات وصحح الرافعي الفصل بينهما والله أعلم



                                                            (الخامسة) في بيان حكمة الاستنشاق ثبت في الصحيحين من رواية عيسى بن طلحة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات ، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه فبين سبب الأمر ، وهو تطهير آثار الشيطان ، وقد حكى القاضي عياض احتمالين في أنه محمول على الحقيقة أنه يبيت على الخياشيم جمع خيشوم ، وهو أعلى الأنف أو هو على الاستعارة ؛ لأن ما ينعقد من الغبار ورطوبة الخياشيم قذارة توافق الشيطان .

                                                            قال صاحب المفهم : وهذا على عادة العرب في نسبتهم المستخبث ، والمستبشع إلى الشيطان كما قال الله تعالىكأنه رءوس الشياطين ويحتمل أن يكون ذلك عبارة عن تكسيله عن القيام للصلاة كما قال يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم الحديث ولا مانع من الحقيقة ، وإذا حملناه عليها فقد يقال هذا مخصوص بالوضوء الذي يعقب النوم ، وقد حكى بعض مشايخنا أن العلماء ذكروا للاستنشاق معنى آخر فذكروا أن الحكمة في تقديمه وتقديم المضمضة وغسل الكفين على غسل الأعضاء الواجبة حتى يعرف المتوضئ بذلك أوصاف الماء الثلاثة ، وهي [ ص: 54 ] الرائحة ، والطعم ، واللون هل هي متغيرة أم لا ، وهذا وإن كان محتملا فإنه لا دليل عليه ، والعلة المنصوصة في الاستنشاق أولى والله أعلم .

                                                            وذكر له الخطابي معنى آخر فقال وترى أن معظم ما جاء من الحث ، والتحريض على الاستنشاق في الوضوء إنما جاء لما فيه من المعونة على القراءة وتنقية مجرى النفس التي تكون به التلاوة وبإزالة ما فيه من التفل تصح مخارج الحروف .

                                                            (السادسة) مبيت الشيطان على الخيشوم هل هو لعموم النائمين أو مخصوص بمن لم يفعل ما يحترس به من الشيطان في منامه كقراءة آية الكرسي ، فإنه ثبت في الصحيح أن من قرأها عند النوم لا يقربه شيطان ، وأي قرب أقرب من مبيته على خياشيمه ؟ يحتمل كلا من الأمرين ، فإن المراد بقوله لم يقربه أي لم يقرب إلى المكان الذي يوسوس فيه ، وهو القلب ، وإن بات على الخيشوم فيكون محفوظا منه مع القرب من البدن له دون القلب والله أعلم .



                                                            (السابعة) قد يستدل به من ذهب إلى أن مشروعية الاستنشاق لا تحصل بإيصال الماء إلى الخيشوم بل بالانتثار عقبه ؛ لأنه فائدة الاستنشاق وبه يشعر بعض كلام أصحابنا كاشتراط بعضهم مج الماء من الفم في حصول المضمضة ، وإن كان الرافعي قد جزم بالاكتفاء فيها بإيصال الماء إلى الأنف والله أعلم .



                                                            (الثامنة) لم يفرق في حديث أبي هريرة في الاستنشاق بين الصائم وغيره ، وقد فرق بينهما في حديث لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان ، والحاكم ، وكذلك ذكر أصحابنا أنه يكره للصائم المبالغة فيه ، وأنه لو بالغ فوصل الماء إلى جوفه بطل صومه على الأصح ؛ لأنه لم تشرع له المبالغة بخلاف ما وصل مع عدم المبالغة ، فإنه لا يضره والله أعلم .



                                                            (التاسعة) هل المراد من الانتثار نثر الماء باليد أو نثره بريح الأنف ؟ فذكر ابن عبد البر في التمهيد أن الانتثار دفع الماء بريح الأنف ، ثم قال : وقد روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك قال : الاستنثار أن يجعل يده على أنفه ويستنثر قيل لمالك أيستنثر من غير أن يضع يده على أنفه ؟ فأنكر ذلك وقال إنما يفعل ذلك الحمار .

                                                            (العاشرة) إذا قلنا يستنثر بيده فهل يباشر ذلك ، وكذلك الاستنشاق قبله بيمينه أو بشماله ؟ والجواب أنه لا شك أن الاستنثار يكون بشماله لما فيه من إزالة الوسخ الذي في الأنف ، وقد صرح به النسائي في سننه فقال بأي اليدين يستنثر ؟ [ ص: 55 ] ثم روي حديث على أنه دعا بوضوء فتمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى ففعل هذا ثلاثا قال هذا طهر نبي الله صلى الله عليه وسلم .

                                                            وأما الاستنشاق فظاهر حديث عثمان أنه يكون بيده اليمنى ، فإنه قال فيه ، ثم أدخل يمينه في الوضوء فتمضمض واستنشق وبوب عليه النسائي بأي اليدين يتمضمض ؟ ولكن ذكر القمولي في الجواهر أنه يأخذ الماء للمضمضة بيمينه وللاستنشاق بشماله .

                                                            وبنى بعضهم هذا على قول الجمع بين المضمضة ، والاستنشاق وكأنه فهم من الجمع بينهما الإتيان بهما في وقت واحد معا فاحتاج لما ذكرت أن يأتي بأحدهما بيمينه ، والآخر بشماله ؛ لأنه لا يمكن الإتيان بهما معا من كف واحد ، وليس مراد أصحابنا بالجمع الإتيان بهما في وقت واحد بل من كف واحدة سواء قدم المرات الثلاث للمضمضة أو قدم مرة من المضمضة وعقبها بمرة من الاستنشاق وهكذا هذا الذي يدل عليه كلام الإمام الغزالي والرافعي نعم كلام الروياني في البحر أن الجمع بينهما هو أن يأتي بهما في حالة واحدة ولا يقدم المضمضة والله أعلم .



                                                            (الحادية عشر) استدل به بعض أصحابنا على أن الإيتار واجب في الاستجمار ، وإن زاد على الثلاث ، وأنه متى لم يحصل الانتقاء إلا بأربع مسحات وجبت الخامسة أو بستة وجبت السابعة لمطلق الأمر وحمل الجمهور من أصحابنا وغيرهم الإيتار بعد الثلاث ، والإنقاء على الاستحباب واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود وابن ماجه في الأمر بالإيتار من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج فهو دال على عدم وجوب الإيتار ، وسيأتي الحديث في باب الاستجمار فحمل الجمهور الحديث إما على وجوب الثلاث أو على الندب فيما زاد على الثلاث بعد الإنقاء والله أعلم .

                                                            (الثانية عشر) استدل بعض الحنفية بقوله : من استجمر فليوتر أنه لا يجب الاستنجاء ؛ لأن ظاهره التخيير بين الاستجمار وتركه .

                                                            والجواب أن هذا اللفظ لا يدل على التخيير فقد قال في رواية أبي إدريس المتفق [ ص: 56 ] عليها من توضأ فليستنثر ومن استجمر فليوتر وليس هو مخيرا في الوضوء فكذلك في الاستجمار على أنا لا نقول يتعين الاستجمار بل هو مخير بينه وبين الاستنجاء بالماء ، فإن اختار الاستجمار بالأحجار فهو حينئذ مأمور بالإيتار وليس فيه عدم وجوب الأمرين والله أعلم .

                                                            (الثالثة عشر) إذا حملنا الاستجمار على أحد التفسيرين عن مالك في أن المراد التبخير فمحمل الأمر بالإيتار حينئذ على الندب قاله النووي وعلى هذا فيستحب التطيب ، والتبخر ثلاثا وذكر ابن عبد البر في التمهيد أن ابن عمر كان يستحب الوتر في تجمير ثيابه وكان يستعمل العموم في قوله ومن استجمر فليوتر فكان يستجمر بالأحجار وترا وكان يجمر ثيابه وترا تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم ومستعملا عموم الخطاب .




                                                            الخدمات العلمية