الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن بريدة قال : أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بلالا فقال : يا بلال بم سبقتني إلى الجنة ؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي إني دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك فأتيت على قصر من ذهب مرتفع مشرف فقلت : لمن هذا القصر ؟ قالوا لرجل من العرب ؛ قلت أنا عربي لمن هذا القصر ؟ قالوا لرجل من المسلمين من أمة محمد ، قلت فأنا محمد لمن هذا القصر قالوا لعمر بن الخطاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا غيرتك يا عمر لدخلت القصر فقال يا رسول الله ، ما كنت لأغار عليك قال وقال لبلال : بم سبقتني إلى الجنة ؟ قال : ما أحدثت إلا توضأت وصليت ركعتين : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح غريب ، وابن حبان ، والحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين .

                                                            التالي السابق


                                                            (الحديث الثالث) وعن بريدة قال : أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بلالا يا بلال بم سبقتني إلى الجنة ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي إني دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك فأتيت على قصر من ذهب مرتفع مشرف فقلت لمن هذا القصر ؟ قالوا لرجل من العرب قلت أنا عربي لمن هذا القصر ؟ قالوا لرجل من المسلمين من أمة محمد قلت فأنا محمد لمن هذا القصر ؟ قالوا لعمر بن الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لولا غيرتك يا عمر لدخلت القصر فقال : يا رسول [ ص: 57 ] الله ما كنت لأغار عليك قال وقال لبلال بم سبقتني إلى الجنة ؟ فقال ما أحدثت إلا توضأت وصليت ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا رواه الترمذي وقال الحديث حسن صحيح غريب وابن حبان ، والحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين .

                                                            فيه فوائد :

                                                            (الأولى) حديث بريدة هذا ، وإن كان من إفراد الترمذي فهو في الصحيحين من غير حديثه أخرجاه من رواية أبي زرعة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر : يا بلال أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام ، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة قال ما عملت عملا أرجى عندي من أني لم أتطهر طهورا في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتبت لي أن أصلي لفظ البخاري .

                                                            وقال مسلم : فإني سمعت الليلة خشف نعليك الحديث وقال من أني لا أتطهر طهورا تاما الحديث وفي الصحيح أيضا من حديث جابر قال النبي صلى الله عليه وسلم : دخلت الجنة ، فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة وسمعت خشفة فقلت من هذا فقال هذا بلال ورأيت قصرا بفنائه جارية فقلت لمن هذا ؟ فقال لعمر فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك فقال عمر بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار ؟ لفظ رواية البخاري وفي الصحيحين أيضا من رواية ابن المسيب عن أبي هريرة قصة عمر دون ذكر بلال رضي الله عنهم .

                                                            (الثانية) فيه استحباب قص الرؤيا الصالحة على أصحابه ، وهو كذلك .

                                                            (الثالثة) فيه أنه يستحب قصها بعد صلاة الصبح ، والانصراف من الصلاة ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة قال لأصحابه من رأى منكم رؤيا الحديث ، وهو في الصحيح .

                                                            (الرابعة) وفيه أنه إذا رأى لصاحبه خيرا يبشره به ، فإن الرؤيا الصالحة من مبشرات النبوة كما ثبت في الصحيح ، وهو [ ص: 58 ] كذلك .

                                                            (الخامسة) فيه أن من رأى لصاحبه شيئا يدل على أن سبب فعله لشيء من أبواب الخير أن يسأله عما استحق به ذلك ليحضه عليه ويرغبه فيه ليدوم عليه .

                                                            (السادسة) فيه أن رؤيا الأنبياء حق ووحي ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال لبلال : بم سبقتني إلى الجنة فجزم بسبقه اعتمادا على رؤياه لذلك ، ولو كانت رؤياه يجوز وقوعها ، والخلف فيها كغير الأنبياء لم يجزم بسبقه بجواز الخلف في منامه والله أعلم .

                                                            (السابعة) فيه منقبة عظيمة لبلال بكونه صلى الله عليه وسلم لم يدخل الجنة قط إلا سمع خشخشته أمامه ، وهذا شرف عريض .

                                                            (الثامنة) الخشخشة بتكرار الخاء ، والشين المعجمتين مفتوح الأول وذكر أبو موسى المديني في ذيله على الغريبين أن الخشخشة حركة لها صوت كصوت السلاح ، وهي أيضا بمعنى الرواية الثابتة في صحيح مسلم خشف نعليك ، وهو بفتح الخاء وسكون الشين المعجمتين وفي آخره فاء فقيل هو الحركة وقيل الصوت قاله الهروي في الغريبين .

                                                            وأما الرواية الثانية بزيادة الهاء في آخره ففي الشين فيها وجهان الحركة ، والإسكان فقيل هما بمعنى وقيل المحرك بمعنى الحركة ، والساكن بمعنى الحس .

                                                            وأما رواية البخاري دف نعليك فاختلف في ضبطه فقيل هو بالدال المعجمة وقيل بالمهملة ، وهي مفتوحة وقال أبو موسى المديني ، والمراد صوتهما عند الوطء والله أعلم .



                                                            (التاسعة) إن قيل ما معنى رؤياه صلى الله عليه وسلم لبلال أمامه في الجنة كلما دخل مع كونه صلى الله عليه وسلم أول من يدخل الجنة فكيف معنى تقدم بلال عليه في هذه الرؤيا ؟ والجواب أنه لم يقل في هذه الرؤيا أنه يدخلها قبله في القيامة ، وإنما رآه أمامه في منامه ، وأما الدخول حقيقة فهو صلى الله عليه وسلم أول من يدخلها مطلقا ، وأما هذا الدخول فالمراد به سريان الروح في حالة النوم فلا إشكال في ذلك والله أعلم .



                                                            (العاشرة) قد حكم صلى الله عليه وسلم أن سبق بلال إلى الجنة بما ذكر من الوضوء عند الحدث ، والصلاة بعده وزاد في رواية الترمذي خصلة أخرى فقال : يا رسول الله ما أذنت قط إلا صليت ركعتين ، وما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها ورأيت أن لله علي ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما فزاد في رواية الترمذي الصلاة بعد الأذان وكونه يرى أن عليه بعد الوضوء لله ركعتين فكيف الجمع بين هذا وبين رواية أحمد التي ليس فيها [ ص: 59 ] هذا ؟

                                                            والجواب أن قوله صلى الله عليه وسلم في رواية الترمذي بهما يحتمل عوده إلى الخصلتين الأخيرتين وهما الوضوء عند الحدث ، والصلاة بعده فيكون موافقا لرواية أحمد وتكون الصلاة عند الأذان لها ثواب آخر .

                                                            وأما زيادته كونه يرى أن لله ركعتين فليس فيه منافاة لرواية أحمد ، وقد اشتركا في ذكر الصلاة عقب الوضوء وليس في رواية أحمد ما ينفي كونه يرى ذلك وربما كان الثواب مترتبا على الفعل ، وإن لم ير ذلك والله أعلم .



                                                            (الحادية عشر) هل يظهر لمجازاته بهذا على هذا الفعل مناسبة ؟ والجواب أن لذلك مناسبة ، وهو أن بلالا كان يديم الطهارة فمن لازمه أنه كان يبيت على طهارة ، وقد جاء في النوم على طهارة ما يقتضي عروج الروح وسجودها تحت العرش وأعلى الجنة تحت العرش كما ثبت في الحديث الصحيح أن الفردوس أعلى الجنة وسقفه عرش الرحمن كما رواه البيهقي في شعب الإيمان بإسناده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال : إن الأرواح يعرج بها في منامها إلى السماء فتؤمر بالسجود عند العرش فمن بات طاهرا سجد عند العرش ومن كان ليس بطاهر سجد بعيدا من العرش قال البيهقي : هكذا جاء موقوفا انتهى .

                                                            وهذا وإن كان موقوفا فقد ثبت أن من نام طاهرا نام في شعار ملك وصفة الملائكة العلو فكان فيه مناسبة لعلو روحه وصعودها إلى الجنان ، وذلك فيما رواه ابن حبان في صحيحه من رواية ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من بات طاهرا بات في شعار ملك فلم يستيقظ إلا قال الملك : اللهم اغفر لعبدك فلان ، فإنه نام طاهرا أورده في النوع الثاني من القسم الأول ، وقد رواه الطبراني في الأوسط فجعله من حديث ابن عباس ورواه البيهقي في الشعب فجعله من حديث أبي هريرة .

                                                            (الثانية عشر) فيه استحباب دوام الطهارة ، وأنه يستحب الوضوء عقب الحدث ، وإن لم يكن وقت صلاة ولم يرد الصلاة ، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن فالظاهر أن المراد منه دوام الوضوء لا الوضوء الواجب فقط عند الصلاة والله أعلم .



                                                            (الثالثة عشر) فيه استحباب صلاة ركعتين عقب الوضوء ، وهو كذلك .



                                                            (الرابعة عشر) في رواية الترمذي استحباب ركعتين بعد الأذان ، وهو كذلك ، وهي المرادة بقوله [ ص: 60 ] صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن مغفل المتفق عليه بين كل أذانين صلاة ، فإن المراد به بين الأذان ، والإقامة وربما قربت الإقامة فكان فعلها عقب الأذان أولى .



                                                            (الخامسة عشر) وفيه أيضا استحباب ركعتين بعد أذان المغرب وقبل الصلاة أيضا ، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وصححه النووي ، وقد ثبت في البخاري من حديث عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صلوا قبل المغرب قال في الثالثة لمن شاء وله من حديث عقبة بن عامر كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وله في حديث أنس رأيت كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري عند المغرب .

                                                            وقال مسلم : فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فركعوا ركعتين حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما وفي رواية له كنا نصلي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد غروب الشمس قبل المغرب فقيل له أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاها ؟ قال كان يرانا نصليها فلم يأمرنا ولم ينهنا .



                                                            (السادسة عشر) فيه حجة لمذهب أهل السنة أن الجنة مخلوقة موجودة خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة ، والأحاديث الصحيحة التي تبلغ حد التواتر متظاهرة متضافرة على ذلك وعلى إبطال ما زعموه .



                                                            (السابعة عشر) قوله بم سبقتني إلى الجنة هكذا في الأصول الصحيحة من المسند على الصواب بم بغير ألف بعد الميم ووقع في سماعنا من الترمذي بما بإثبات الألف ، وهو ضعيف ، والصواب الأول ، وهي لغة القرآن في قوله تعالى لم أذنت لهم و عم يتساءلون

                                                            (الثامنة عشر) وقع في الأصول الصحيحة من المسند فأتيت على قصر من ذهب مرتفع مشرف فمرتفع بالتاء المثناة من فوق ، والفاء من الارتفاع ومشرف بضم الميم وفتح الشين المعجمة وفتح الراء وتشديدها وآخره فاء ، ومعناه له شرفات كعادة القصور وبعضهم يرويه مشرف بضم الميم وسكون الشين وكسر الراء وليس بجيد ، فإنه يكون بمعنى مرتفع فيكون تكرارا وحمله على زيادة معنى آخر أولى مع موافقة الرواية ووقع في جامع الترمذي مربع مشرف بفتح الراء ، والياء المشددة من التربيع ، وهو كونه ذا أرباع لا مدورا كالدائرة وإلا كثر في الرواية عند الترمذي مشرف بالتخفيف [ ص: 61 ] أي مرتفع ولا منافاة حينئذ بينه وبين التربيع المتقدم والله أعلم .



                                                            (التاسعة عشر) ما الحكمة في أنه صلى الله عليه وسلم لم يصرح له بالجواب عما سأل عنه باسم من له القصر بل قيل لرجل من العرب وزاد في رواية الترمذي بعده لمن هذا القصر قالوا لرجل من قريش قلت أنا قرشي ، ثم اتفقا على قوله لرجل من المسلمين الحديث فلم يسم عمر إلا في الرابعة على رواية الترمذي وفي الثالثة على رواية المسند ، وكذلك رده صلى الله عليه وسلم أنا عربي أنا قرشي أنا محمد فهل كان ذلك رجاء أن يكون ذلك القصر له أو لمعنى آخر ؟

                                                            والجواب أنه أريد بذلك والله أعلم .

                                                            بيان فضيلة هذه الأوصاف فكونه من العرب أفضل وأرفع من كونه أعجميا وكونه من قريش أفضل من كونه من عرب غير قريش وكونه ممن أسلم من قريش من أمة محمد أفضل من كونه من قريش ولم يدخل في الأمة لموته قبل البعثة كزيد بن عمرو بن نفيل ، وإن كان من أهل الجنة فأريد بتكرار الجواب ، والسؤال ما ذكرناه والله أعلم .

                                                            وأما قوله صلى الله عليه وسلم أنا عربي أنا قرشي فيحتمل أنه قاله تجويزا لكونه له إذ فيه ذلك الوصف الذي ذكر .

                                                            وأما قوله بعد ذلك أنا محمد فذلك بعد أن عرف أنه ليس له ولكنه عرف علو منزلته على من له القصر ، وأنه بلغ ذلك لكونه من أمته وأراد معرفة من له ليبشر صاحبه كما وقع أو ليعرف منزلة صاحبه والله أعلم .



                                                            (الفائدة العشرون) فيه معاملة الناس على قدر أخلاقهم ، وما فطروا عليه ، فإنه صلى الله عليه وسلم لما عرف غيرة عمر لم يدخل منزله في غيبته ، وإن علم منه أنه يأمنه على الدين ، والدنيا ، والآخرة ولذلك قال له عمر ما كنت لأغار عليك ، وإن حصلت الغيرة فعلى غيره وفي رواية في الصحيح من حديث أبي هريرة أو يغار عليك أنكر عمر وجود الغيرة من أحد مطلقا عليه صلى الله عليه وسلم لعظم حقه وأمانته على حقوق أصحابه وغيرهم .

                                                            (الحادية والعشرون) فيه ذم الغيرة في غير موضع الريبة ؛ لأن عمر أنكر وجود الغيرة عليه وأقره صلى الله عليه وسلم ، وهو كذلك ، وقد روى أبو داود ، والنسائي من حديث جابر بن عتيك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله فأما التي يحبها الله عز وجل فالغيرة في الريبة ، وأما التي يبغضها الله عز وجل فالغيرة في غير ريبة الحديث .




                                                            الخدمات العلمية