الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب الغسل عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد فيه قدر الفرق لم يقل الشيخان فيه قدر الفرق زاد الشيخان تختلف أيدينا فيه من الجنابة .

                                                            التالي السابق


                                                            باب الغسل عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد فيه قدر الفرق فيه فوائد :

                                                            (الأولى) حديث عائشة أخرجه الستة خلا الترمذي وأخرجه النسائي من طريق معمر هكذا ، والبخاري من رواية ابن أبي ذئب بلفظ من قدح يقال له الفرق ومسلم من طريق مالك بلفظ كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة ومن رواية الليث وابن عيينة بلفظ كان يغتسل في قدح هو الفرق وكنت أغتسل أنا ، وهو في الإناء الواحد .

                                                            وقال سفيان من إناء واحد وأبو داود من طريق مالك وابن ماجه من طريق الليث وابن عيينة ، والنسائي أيضا من طريق الليث خمستهم عن الزهري وأخرجه البخاري من رواية أبي بكر بن حفص عن عروة ، والنسائي من رواية هشام بن عروة عن أبيه وأخرجه الشيخان ، والنسائي من رواية القاسم عن عائشة دون ذكر الفرق وزاد الشيخان تختلف أيدينا فيه .

                                                            زاد مسلم من الجنابة وهي عند البخاري في رواية دون قوله تختلف أيدينا فيه وأخرجه مسلم من رواية أبي سلمة عن عائشة وقال ونحن جنبان وله من رواية حفصة بنت عبد الرحمن عن عائشة كانت تغتسل هي ، والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريبا من ذلك وله ، والنسائي من رواية معاذة عنها كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء بيني وبينه واحد فيبادرني [ ص: 88 ] حتى أقول دع لي دع لي قالت وهما جنبان .

                                                            وقال النسائي : يبادرني وأبادره حتى يقول دعي لي وأقول دع لي وللشيخين وأبي داود ، والنسائي من رواية منصور عن إبراهيم بن الأسود عن عائشة كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد .

                                                            (الثانية) الفرق بفتح الفاء ، والراء معا وآخره قاف هذه هي اللغة الفصحى الشهيرة وفيه لغة أخرى بإسكان الراء حكاها ابن دريد وغيره .

                                                            واختلف في مقدار الفرق ففي صحيح مسلم عن سفيان بن عيينة أنه ثلاثة آصع فيكون ستة عشر رطلا على قول الشافعي وأهل الحجاز وأربعة وعشرين على قول أبي حنيفة في ذهابه إلى أن الصاع ثمانية أرطال وذهب بعض الشافعية إلى التفرقة بين صاع الزكاة وصاع الغسل من الجنابة فجعل صاع الجنابة ثمانية أرطال حكاه الروياني واستدل له بما رواه أبو داود من حديث أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بإناء يسع رطلين ويغتسل بالصاع فاستدل بهذه الرواية مع حديثه في الصحيح أنه كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع أن الصاع ثمانية أرطال لاتفاقهم على أنه أربعة أمداد واستدلوا بما رواه النسائي من رواية موسى الجهني قال : أتى مجاهد بقدح حزرته ثمانية أرطال فقال حدثتني عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بمثل هذا وليس في الحديثين ما يدل على أن هذا هو الصاع بل هو مثل حديث عائشة في اغتسالهما بالفرق والله أعلم .

                                                            وهذا الذي قاله سفيان من كون الفرق ثلاثة آصع هو قول الجمهور ومالك والشافعي وأحمد وأبي عبيد وغيرهم وقيل الفرق صاعان ونصف حكاه صاحب النهاية ولكنه فرق بين المفتوح الراء ، والساكن الراء في المقدار فقال في المفتوح الراء ما تقدم من كونه ثلاثة آصع على الصحيح أو صاعين ونصفا وقال في الساكن الراء إنه مائة وعشرون رطلا والله أعلم .

                                                            وقيل الفرق إناء ضخم من مكاييل العراق حكاه صاحب المفهم وقيل هو مكيال أهل المدينة حكاه أيضا ولم يذكر تحديده على هذين القولين ، وقد ورد في حديث لزينب بنت أبي سلمة أنه كان يغتسل بالفرق ، وهو الصاع ففسر الفرق بالصاع ، والحديث ضعيف رواه ابن عدي في الكامل .

                                                            (والثالثة) فيه جواز اغتسال الرجل وامرأته معا واستعمال كل واحد منهما لفضل الآخر لقول عائشة في الرواية المتقدمة يبادرني وأبادره فكل منهما مستعمل لفضل الآخر ، وقد [ ص: 89 ] تقدمت المسألة في الحديث الثاني من باب ما يفسد الماء وما لا يفسده .



                                                            (الرابعة) في الجمع بين ما ظاهره الاختلاف من الروايات المتقدمة فحديث الباب فيه أنه كان يغتسل هو وعائشة من الإناء المذكور ورواية مالك عند مسلم أنه كان يغتسل منه ولم يذكر عائشة ، والجمع بينهما أن إسقاط ذكر عائشة في هذه الرواية لا يلزم منه عدم اغتسالها معه وعلى تقدير أن يكون اغتسل منه وحده فليس فيه أنه استوعب الإناء في غسله وحده ؛ لأن قوله منه يجوز أن يكون للتبعيض وعلى هذا فيكون قد وقع ذلك مرتين أو أكثر مرة معها ومرة وحده .

                                                            وأما رواية الليث وابن عيينة فإنه وإن لم يذكر فيها اغتسال عائشة معه فإنه قال في بقية الحديث : وكنت أغتسل أنا ، وهو في الإناء الواحد أو من إناء واحد فيجوز أن يكون مرادها هو الإناء المذكور الذي هو الفرق فيكون موافقا لحديث معمر وإن كانت أرادت بيان اغتسالها معه بغير قيد كونه من الإناء الذي هو الفرق فيكون الجواب عنه كالجواب عن رواية مالك .

                                                            وأما رواية حفصة عن عائشة التي فيها أنهما كانا يغتسلان من إناء يسع ثلاثة أمداد أو قريبها فهو مخالف لحديث الفرق ، وقد جمع القاضي عياض بينهما بوجهين : أحدهما أن كل واحد منهما ينفرد باغتساله بثلاثة أمداد ، والثاني أن يكون المراد بالمد هنا الصاع فيكون موافقا لحديث الفرق قال النووي ويجوز أن يكون هذا وقع في بعض الأحوال واغتسلا من إناء يسع ثلاثة أمداد وزاده لما فرغ والله أعلم .

                                                            قلت ولعلهما أيضا لم يزيداه بل كفاهما للاغتسال إذ لم ينقل أنهما زاداه فلا مانع من اكتفائهما به .

                                                            وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده فيه فبورك كما وقع في القدح الذي توضأ منه الجم الغفير وكان لا يسع يده أن يبسطها فيه فلا يقاس غيره عليه والله أعلم .

                                                            (الخامسة) إن قال قائل حديث عائشة في اغتسالهما بالفرق يدل على استعمال كل واحد منهما في اغتساله صاعا ونصف صاع إن استعملاه بالسوية أو أحدهما أكثر من صاع ونصف إن تفاضلا فكيف يتفق هذا مع حديث أنس المخرج في الصحيحين أنه كان صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد ففي هذا الحديث أن غاية ما اغتسل به صاع وربع وعند مسلم أيضا من حديث سفينة كان يغتسل [ ص: 90 ] بالصاع ويتطهر بالمد ، والجواب عنه من وجهين : أحدهما أنه لا يلزم من ذكر الفرق في حديث عائشة أن يكونا استعملاه بجملته وإنما فيه أنهما كانا يغتسلان منه .

                                                            وأما الرواية التي قالت فيها حتى يقول دعي لي وأقول دع لي فإنهما وإن كان ظاهرها أنهما استكملا ماء ذلك الإناء فليس في هذه الرواية ذكر للفرق أصلا وإنما قالت فيه من إناء واحد فلعل هذه المرة كان استعمالهما للإناء الذي يسع ثلاثة أمداد على تقدير إرادة المد حقيقة وأنهما اغتسلا منه جميعا ولم يزيداه عند فراغه .

                                                            والوجه الثاني أنا وإن جوزنا استكمال الفرق في اغتسالهما فليس في حديث أنس دليل على أنه لم يقع منه الزيادة على الخمسة الأمداد ؛ لأن كان لا تدل على الدوام ولا على التكرار عند كثير من الأصوليين ويجوز أن يكون أنس لم يطلع على أنه زاد على الخمسة واطلعت عائشة على ذلك لكثرة اطلاعها على اغتساله فهي أعرف من أنس بذلك .

                                                            وقد قال الشافعي رضي الله عنه وغيره : إن الجمع بين الروايات في ذلك أنها اغتسالات في أحوال حد في بعض الروايات كثيرها وفي بعضها قليلها وهي دالة على أنه لا حد في قلة ماء الطهارة بل الواجب الاستيعاب قال الشافعي : وقد يدقق الفقيه بالقليل فيكفي ويخرق الأخرق بالكثير فلا يكفي انتهى إلا أن مما يستشكل من ذلك الرواية التي عند مسلم في حديث أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بخمس مكاكيك ويتوضأ بمكوك فإن في كلام صاحب الصحاح ما يدل على أن الخمسة المكاكيك ستة وخمسون رطلا وربع رطل وذلك أنه قال : إن المكوك ثلاث كيلجات والكيلجة من وسبعة أثمان من ، والمن رطلان وحكى القرطبي عن غير صاحب الصحاح أن المكوك مكيال لأهل العراق يسع صاعا ونصف صاع بالمدني انتهى .

                                                            فعلى هذا تكون المكاكيك الخمسة أربعين رطلا لا جرم قال القرطبي الصحيح أن المراد بالمكوك في حديث أنس المد بدليل الرواية الأخرى ولم يذكر النووي في شرحه مقدار المكوك عند أهل اللغة بل قال لعل المراد بالمكوك هنا المد انتهى ويدل على عدم التحديد في ماء الطهارة ما رواه أبو داود ، والنسائي بإسناد حسن من حديث أم عمارة الأنصارية أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بإناء فيه قدر ثلثي مد ورواه البيهقي من حديث عبد الله بن زيد [ ص: 91 ]

                                                            وروى البيهقي من طريق ابن عدي وضعفه من حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بنصف مد ورواه البيهقي أيضا بلفظ بقسط من ماء ، وهو ضعيف أيضا ، والقسط نصف مد وفيه رد على ابن شعبان من المالكية حيث قال لا يجزئ أقل من مد في الوضوء وصاع في الغسل قال القرطبي : وحديث الثلاثة أمداد يرد عليه انتهى .

                                                            وهكذا حكى عن محمد بن الحسن من الحنفية وذكر أصحابنا في كتب الفقه حديثا آخر أنه توضأ بثلث مد وحديث آخر أنه توضأ بما لا يلت الثرى ولا أصل لهما وبلغني عن شيخنا العلامة تقي الدين السبكي أنه توضأ مرة بثمانية عشر درهما أوقية ونصف وما أدري كيف يمكن جريان الماء على أعضاء الوضوء بهذا المقدار أو أضعافه فإنه يشترط جريان الماء على العضو المغسول باتفاق أصحابنا ، وقد أول ابن دقيق العيد وضوءه بثلثي مد وحمله على رواية وضوئه بمد فقال : إن هذا الذي ذكر فيه ثلثا مد هو في حديث الربيع بنت معاذ .

                                                            والمد مدان مد النبي صلى الله عليه وسلم ومد هشام بن إسماعيل ، وهو أزيد من المد الأول قيل بثلث وقيل بنصف لكن ذلك يتوقف على تاريخ موت الربيع ومدة ولاية هشام بن إسماعيل وهل أدركت زمن هشام بن إسماعيل أو لا ؟ فإن كان يمكن اجتماعهما فلا دلالة لجواز أن تكون أرادت مد هشام قال ولا يتوهمن أن قولها فأتى بما قدر ثلثي مد يتعين لأن يكون بمد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها إذا أدركت مد هشام جاز أن تعين ما كان أولا عند المقدار بثلثي المقدار الحاضر عند إخبارها انتهى وفي كلامه نظر فقد تقدم أن حديث ثلثي المد من حديث أم عمارة الأنصارية واسمها نسيبة ومن حديث عبد الله بن زيد الأنصاري وكلاهما لم تتأخر وفاته إلى مد هشام والله أعلم .



                                                            (السادسة) اختلفت عبارات أصحابنا في القدر الذي يستحب الاقتصار عليه من الماء للغسل ، والوضوء هل يستحب أن لا ينقص في الغسل عن صاع ولا في الوضوء عن مد أو المستحب أن لا يزيد على ذلك ؟ فالمشهور الأول ، وهو الذي اقتصر عليه الرافعي والنووي وقال ابن الرفعة : إن كلام الأصحاب يدل على أن المستحب الاقتصار على الصاع ، والمد ؛ لأن الرفق محبوب قال : وعليه يدل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال ستأتي أقوام يستقلون هذا فمن رغب في سنتي وتمسك بها بعث معي [ ص: 92 ] في حضيرة القدس انتهى .

                                                            والحديث الذي ذكره لا أصل له ، وقد رد عليه فيما نقله عن كلام الأصحاب .

                                                            (السابعة) ذكر الشيخ عز الدين بن عبد السلام في القواعد أن استحباب الصاع في الغسل ، والمد في الوضوء هو في حق من هو معتدل الخلق كاعتدال خلقه صلى الله عليه وسلم فلو كان ضئيل الخلق أو متفاحشه طولا أو ضخما فيستحب أن يستعمل في وضوئه ماء نسبته إلى جسده كنسبة المد إلى جسد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو حسن متجه .




                                                            الخدمات العلمية