الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثاني: اختلفوا في قول الراوي: "أن فلانا قال كذا وكذا" هل هو بمنزلة (عن) في الحمل على الاتصال، إذا ثبت التلاقي بينهما، حتى يتبين فيه الانقطاع.

مثاله: (مالك، عن الزهري: أن سعيد بن المسيب قال كذا).

فروينا عن مالك رضي الله عنه أنه كان يرى (عن فلان) و (أن فلانا) سواء.

وعن أحمد بن حنبل رضي الله عنه: أنهما ليسا سواء.

وحكى ابن عبد البر عن جمهور أهل العلم: أن "عن" و "أن" سواء، وأنه لا اعتبار بالحروف والألفاظ، وإنما هو باللقاء والمجالسة، والسماع والمشاهدة، يعني مع السلامة من التدليس، فإذا كان سماع بعضهم من بعض صحيحا كان حديث بعضهم عن بعض بأي لفظ ورد محمولا على الاتصال، حتى يتبين فيه الانقطاع.

وحكى ابن عبد البر، عن أبي بكر البرديجي أن حرف "أن" محمول على الانقطاع، حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من جهة أخرى. وقال: عندي لا معنى لهذا؛ لإجماعهم على أن الإسناد المتصل بالصحابي سواء فيه "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" أو "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" أو "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال" أو "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" والله أعلم.

قلت: ووجدت مثلما حكاه عن البرديجي أبي بكر الحافظ للحافظ الفحل يعقوب بن شيبة في مسنده الفحل، فإنه ذكر ما رواه أبو الزبير عن ابن الحنفية عن عمار قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه، فرد علي السلام" وجعله مسندا موصولا.

وذكر رواية قيس بن سعد لذلك، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن الحنفية "أن عمارا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي" فجعله مرسلا من حيث كونه قال: "إن عمارا فعل" ولم يقل: "عن عمار" والله أعلم.

ثم إن الخطيب مثل هذه المسألة بحديث نافع، عن ابن عمر، عن عمر: "أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينام أحدنا وهو جنب؟"... الحديث.

وفي رواية أخرى: عن نافع، عن ابن عمر أن عمر قال: "يا رسول الله..." الحديث. ثم قال: "ظاهر الرواية الأولى يوجب أن يكون من مسند عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. والثانية ظاهرها يوجب أن يكون من مسند ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم".

قلت: ليس هذا المثال مماثلا لما نحن بصدده؛ لأن الاعتماد فيه في الحكم بالاتصال على مذهب الجمهور إنما هو على اللقاء والإدراك، وذلك في هذا الحديث مشترك متردد؛ لتعلقه بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعمر رضي الله عنه، وبصحبة الراوي ابن عمر لهما، فاقتضى ذلك من جهة كونه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن جهة أخرى كونه رواه عن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.

الثالث: قد ذكرنا ما حكاه ابن عبد البر من تعميم الحكم بالاتصال فيما يذكره الراوي عمن لقيه بأي لفظ كان، وهكذا أطلق أبو بكر الشافعي الصيرفي ذلك فقال: "كل من علم له سماع من إنسان، فحدث عنه، فهو على السماع حتى يعلم أنه لم يسمع منه ما حكاه. وكل من علم له لقاء إنسان، فحدث عنه فحكمه هذا الحكم".

وإنما قال هذا فيمن لم يظهر تدليسه.

ومن الحجة في ذلك وفي سائر الباب أنه لو لم يكن قد سمعه منه لكان بإطلاقه الرواية عنه من غير ذكر الواسطة بينه وبينه مدلسا، والظاهر السلامة من وصمة التدليس، والكلام فيمن لم يعرف بالتدليس.

ومن أمثلة ذلك: قوله: "قال فلان كذا وكذا" مثل أن يقول نافع: "قال ابن عمر". وكذلك لو قال عنه: "ذكر، أو فعل، أو حدث، أو كان يقول كذا وكذا" وما جانس ذلك، فكل ذلك محمول ظاهرا على الاتصال، وأنه تلقى ذلك منه من غير واسطة بينهما، مهما ثبت لقاؤه له على الجملة.

ثم منهم من اقتصر في هذا الشرط المشترط في ذلك ونحوه على مطلق اللقاء، أو السماع، كما حكيناه آنفا. وقال فيه أبو عمرو المقرئ: "إذا كان معروفا بالرواية عنه". وقال فيه أبو الحسن القابسي: "إذا أدرك المنقول عنه إدراكا بينا".

وذكر أبو المظفر السمعاني في العنعنة أنه يشترط طول الصحبة بينهم.

وأنكر مسلم بن الحجاج في خطبة صحيحه على بعض أهل عصره؛ حيث اشترط في العنعنة ثبوت اللقاء والاجتماع، وادعى أنه قول مخترع لم يسبق قائله إليه، وأن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار قديما وحديثا أنه يكفي في ذلك أن يثبت كونهما في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا أو تشافها.

وفيما قاله مسلم نظر، وقد قيل: إن القول الذي رده مسلم هو الذي عليه أئمة هذا العلم: علي ابن المديني، والبخاري، وغيرهما، والله أعلم.

قلت: وهذا الحكم لا أراه يستمر بعد المتقدمين، فيما وجد من المصنفين في تصانيفهم، مما ذكروه عن مشايخهم قائلين فيه: "ذكر فلان، قال فلان" ونحو ذلك، فافهم كل ذلك، فإنه مهم عزيز. والله أعلم.

[ ص: 418 ] [ ص: 419 ] [ ص: 420 ] [ ص: 421 ]

التالي السابق


[ ص: 418 ] [ ص: 419 ] [ ص: 420 ] [ ص: 421 ] 53 - قوله: (اختلفوا في قول الراوي: "أن فلانا قال كذا وكذا" هل هو بمنزلة (عن) في الحمل على الاتصال، إذا ثبت التلاقي بينهما، حتى يتبين فيه الانقطاع.

مثاله: (مالك، عن الزهري: أن سعيد بن المسيب قال كذا).

فروينا عن مالك رضي الله عنه أنه كان يرى (عن فلان) و (أن فلانا) سواء. وعن أحمد بن حنبل رضي الله عنه: أنهما ليسا سواء.

وحكى ابن عبد البر عن جمهور أهل العلم: أن "عن" و "أن" سواء.

ثم قال: "وحكى ابن عبد البر، عن أبي بكر البرديجي أن حرف "أن" محمول على الانقطاع، حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من جهة أخرى") . ثم قال ابن الصلاح: "ووجدت مثل ما حكاه عن البرديجي أبي بكر الحافظ [ ص: 422 ] للحافظ الفحل يعقوب بن شيبة في مسنده الفحل فإنه ذكر ما رواه أبو الزبير، عن ابن الحنفية عن عمار قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلمت عليه فرد علي السلام" وجعله مسندا موصولا. وذكر رواية قيس بن سعد كذلك عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن الحنفية "أن عمارا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي" فجعله مرسلا من حيث كونه قال: إن عمارا فعل، ولم يقل: عن عمار. والله أعلم. انتهى.

وما حكاه المصنف عن أحمد بن حنبل، عن يعقوب بن شيبة من تفريقهما بين (عن) و(أن) ليس الأمر فيه على ما فهمه من كلامهما، ولم يفرق أحمد ويعقوب بين (عن) و(أن) لصيغة (أن) ولكن لمعنى آخر أذكره، وهو أن يعقوب إنما جعله مرسلا من حيث أن ابن الحنفية لم يسند حكاية القصة إلى [ ص: 423 ] عمار، وإلا فلو قال ابن الحنفية: إن عمارا قال: مررت بالنبي صلى الله عليه وسلم لما جعله يعقوب بن شيبة مرسلا، فلما أتى به بلفظ "أن عمارا مر" كان محمد ابن الحنفية هو الحاكي لقصة لم يدركها؛ لأنه لم يدرك مرور عمار بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكان نقله لذلك مرسلا، وهذا أمر واضح، ولا فرق بين أن يقول ابن الحنفية: "إن عمارا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم" أو "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به عمار" فكلاهما مرسل بالاتفاق، بخلاف ما إذا قال "عن عمار قال: مررت" أو "أن عمارا قال: مررت" فإن هاتين العبارتين متصلتان؛ لكونهما أسندتا إلى عمار.

وكذلك ما حكاه المصنف عن أحمد بن حنبل من تفرقته بين "عن" و"أن" فهو على هذا النحو، ويوضح ذلك حكاية كلام أحمد، وقد رواه الخطيب في الكفاية بإسناده إلى أبي داود، قال: سمعت أحمد قيل له: "إن رجلا قال: عروة أن عائشة قالت: يا رسول الله" و"عن عروة عن عائشة" سواء؟ قال: "كيف هذا سواء؟! ليس هذا سواء" انتهى كلام أحمد.

وإنما فرق بين اللفظين؛ لأن عروة في اللفظ الأول لم يسند ذلك إلى عائشة، [ ص: 424 ] ولا أدرك القصة، وإلا فلو قال عروة: "إن عائشة قالت: قلت يا رسول الله" لكان ذلك متصلا؛ لأنه أسند ذلك إليها.

وأما اللفظ الثاني فأسنده عروة إليها بالعنعنة، فكان ذلك متصلا.

فما فعله أحمد ويعقوب بن شيبة صواب، ليس مخالفا لقول مالك ولا لقول غيره، وليس في ذلك خلاف بين أهل النقل.

وجملة القول فيه أن الراوي إذا روى قصة أو واقعة فإن كان أدرك ما رواه بأن حكى قصة وقعت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وبين بعض أصحابه، والراوي لذلك صحابي قد أدرك تلك الواقعة - حكمنا لها بالاتصال، وإن لم نعلم أن الصحابي شهد تلك القصة. وإن علمنا أنه لم يدرك الواقعة فهو مرسل صحابي، وإن كان الراوي لذلك تابعيا كمحمد ابن الحنفية مثلا فهي منقطعة.

وإن روى التابعي عن الصحابي قصة أدرك وقوعها كان متصلا، ولو لم يصرح بما يقتضي الاتصال، وأسندها إلى الصحابي بلفظ "أن فلانا قال" أو بلفظ "قال: قال فلان" فهي متصلة أيضا، كرواية ابن الحنفية الأولى عن عمار، بشرط سلامة التابعي من التدليس كما تقدم.

وإن لم يدركها ولا أسند حكايتها إلى الصحابي فهي منقطعة، كرواية ابن الحنفية الثانية، فهذا تحقيق القول فيه.

وممن حكى اتفاق أهل النقل على ذلك الحافظ [ ص: 425 ] أبو عبد الله بن المواق في كتاب (بغية النقاد) فذكر من عند أبي داود حديث عبد الرحمن بن طرفة "أن جده عرفجة قطع أنفه يوم الكلاب" الحديث، وقال: إنه عند أبي داود هكذا مرسل. قال: "وقد نبه ابن السكن على إرساله، فقال: ..." فذكر الحديث مرسلا.

قال ابن المواق: وهو أمر بين، لا خلاف بين أهل التمييز من أهل هذا الشأن في انقطاع ما يروى كذلك إذا علم أن الراوي لم يدرك زمان القصة كما في هذا الحديث، وذكر نحو ذلك أيضا في حديث أبي قيس "أن عمرو بن العاص كان على سرية" الحديث، في التيمم من عند أبي داود أيضا، [ ص: 426 ] وكذلك فعل ذلك غيره، وهو أمر واضح بين. والله أعلم.

وقد ذكر المصنف بعدما حكاه عن مسند يعقوب بن شيبة أن الخطيب مثل هذه المسألة بحديث نافع، عن ابن عمر، عن عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: "أينام أحدنا وهو جنب" الحديث.

[ ص: 427 ] وفي رواية أخرى عن نافع، عن ابن عمر "أن عمر قال يا رسول الله" الحديث. ثم قال - أي الخطيب -: "ظاهر الرواية الأولى موجب أن يكون من مسند عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية ظاهرها يوجب أن يكون من مسند ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم" انتهى.

وهذا يشهد لما ذكرناه، إلا أن المصنف اعترض على الخطيب بقوله: "ليس هذا المثال مماثلا لما نحن بصدده" إلى آخر كلامه، إلا أن كون الرواية الثانية تدل على أنه من مسند ابن عمر، لا يخالف فيه ابن الصلاح، وهو موافق لما ذكرناه، وهو المقصود من الاستشهاد به. والله أعلم.




الخدمات العلمية