الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أما القسم الأول: فمكروه جدا، ذمه أكثر العلماء، وكان شعبة من أشدهم ذما له. فروينا عن الشافعي الإمام - رضي الله عنه - عنه أنه قال: "التدليس أخو الكذب". وروينا عنه أنه قال: "لأن أزني أحب إلي من أن أدلس". وهذا من شعبة إفراط محمول على المبالغة في الزجر عنه والتنفير.

ثم اختلفوا في قبول رواية من عرف بهذا التدليس فجعله فريق من أهل الحديث والفقهاء مجروحا بذلك، وقالوا: لا تقبل روايته بحال بين السماع أو لم يبين.

والصحيح التفصيل، وأن ما رواه المدلس بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع والاتصال حكمه حكم المرسل وأنواعه، وما رواه بلفظ مبين للاتصال نحو (سمعت، وحدثنا، وأخبرنا) وأشباهها فهو مقبول محتج به.

وفي الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتمدة من حديث هذا الضرب كثير جدا: كقتادة، والأعمش، والسفيانين، وهشام بن بشير، وغيرهم. وهذا لأن التدليس ليس كذبا، وإنما هو ضرب من الإيهام بلفظ محتمل.

والحكم بأنه لا يقبل من المدلس حتى يبين قد أجراه الشافعي رضي الله عنه فيمن عرفناه دلس مرة، والله أعلم.

وأما القسم الثاني: فأمره أخف، وفيه تضييع للمروي عنه، وتوعير لطريق معرفته على من يطلب الوقوف على حاله وأهليته. ويختلف الحال في كراهة ذلك بحسب الغرض الحامل عليه، فقد يحمله على ذلك كون شيخه الذي غير سمته غير ثقة، أو كونه متأخر الوفاة قد شاركه في السماع منه جماعة دونه، أو كونه أصغر سنا من الراوي عنه، أو كونه كثير الرواية عنه فلا يحب الإكثار من ذكر شخص واحد على صورة واحدة. وتسمح بذلك جماعة من الرواة المصنفين، منهم الخطيب أبو بكر، فقد كان لهجا به في تصانيفه، والله أعلم.

[ ص: 453 ] [ ص: 454 ]

التالي السابق


[ ص: 453 ] [ ص: 454 ] 61 - قوله: (أما القسم الأول: فمكروه جدا" ثم قال: "ثم اختلفوا في قبول رواية من عرف بهذا التدليس فجعله فريق من أهل الحديث والفقهاء مجروحا بذلك، وقالوا: لا تقبل روايته بحال بين السماع أو لم يبين. والصحيح التفصيل، وأن ما رواه المدلس بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع والاتصال حكمه حكم المرسل وأنواعه" ثم قال: "وأما القسم الثاني فأمره أخف" انتهى كلامه، وفيه أمور:

أحدها: أن المصنف أجرى الخلاف في الثقة المدلس وإن صرح بالسماع، وقد ادعى أبو الحسن بن القطان نفي الخلاف فيه، فذكر في كتابه (بيان الوهم والإيهام) أن يحيى بن أبي كثير كان يدلس، وأنه ينبغي أن يجري في معنعنه الخلاف، ثم قال: "أما إذا صرح بالسماع فلا كلام فيه فإنه ثقة حافظ صدوق، فيقبل منه ذلك بلا خلاف" انتهى كلامه.

والمشهور ما ذكره المصنف من إثبات الخلاف، فقد حكاه الخطيب في الكفاية عن فريق من الفقهاء وأصحاب الحديث، وهكذا حكاه غيره، والمثبت [ ص: 455 ] للخلاف مقدم على النافي له. والله أعلم.

الأمر الثاني: أن المصنف ذكر أن ما لم يبين فيه المدلس الاتصال حكمه حكم المرسل، فاقتضى كلامه أن من يقبل المرسل يقبل معنعن المدلس، وليس ذلك قول جميع من يحتج بالمرسل، بل بعض من يحتج بالمرسل يرد معنعن المدلس؛ لما فيه من التهمة، كما حكاه الخطيب في الكفاية، فقال: "إن جمهور من يحتج بالمرسل يقبل خبر المدلس" بل زاد النووي على هذا فحكى في (شرح المهذب) الاتفاق على أن المدلس لا يحتج بخبره إذا عنعن، وهذا منه إفراط، وكأن الذي أوقع النووي في ذلك ما ذكره البيهقي في المدخل وابن عبد البر في التمهيد مما يدل على ذلك.

أما البيهقي فإنه حكى عن الشافعي وسائر أهل العلم أنهم لا يقبلون عنعنة المدلس. وأما ابن عبد البر فإنه لما ذكر في مقدمة التمهيد الحديث المعنعن وأنه يقبل بشروط ثلاثة قال: "إلا أن يكون الرجل معروفا بالتدليس فلا يقبل حديثه حتى يقول: حدثنا، أو: سمعت. قال: فهذا ما لا أعلم فيه أيضا خلافا" انتهى كلامه.

[ ص: 456 ] وما ذكره من الاتفاق لعله محمول على اتفاق من لا يحتج بالمرسل، خصوصا عبارة البيهقي؛ فإن لفظ "سائر" قد تطلق ويراد به الباقي لا الجميع، والخلاف معروف في كلام غيرهما، وممن حكاه الحاكم في كتاب المدخل؛ فإنه قسم الصحيح إلى عشرة أقسام، خمسة متفق عليها، وخمسة مختلف فيها، فذكر من الخمسة المختلف فيها: المراسيل، وأحاديث المدلسين إذا لم يذكروا سماعاتهم، إلى آخر كلامه. وحكى الخلاف أيضا الحافظ أبو بكر الخطيب في كتاب الكفاية، فحكى عن خلق كثير من أهل العلم أن خبر المدلس مقبول، قال: "وزعموا أن نهاية أمره أن يكون مرسلا". والله أعلم.

الأمر الثالث: أن المصنف بين الحكم فيمن عرف بالقسم الأول من التدليس، ولم يبين الحكم في القسم الثاني، وإنما قال: "إن أمره أخف" فأردت بيان الحكم فيه للفائدة، وقد جزم أبو نصر بن الصباغ في كتاب (العدة) أن من فعل ذلك لكون من روى عنه غير ثقة عند الناس، وإنما أراد أن يغير اسمه [ ص: 457 ] ليقبلوا خبره - يجب ألا يقبل خبره، وإن كان هو يعتقد فيه الثقة فقد غلط في ذلك؛ لجواز أن يعرف غيره من جرحه ما لا يعرفه هو، وإن كان لصغر سنه فيكون ذلك رواية عن مجهول لا يجب قبول خبره حتى يعرف من روى عنه. والله أعلم.




الخدمات العلمية