الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الرابع من أنواع العلو: العلو المستفاد من تقدم وفاة الراوي

مثاله: ما أرويه عن شيخ، أخبرني به عن واحد، عن البيهقي الحافظ، عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ أعلى من روايتي لذلك عن شيخ، أخبرني به عن واحد، عن أبي بكر بن خلف، عن الحاكم ، وإن تساوى الإسنادان في العدد، لتقدم وفاة البيهقي على وفاة ابن خلف; لأن البيهقي مات سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، ومات ابن خلف سنة سبع وثمانين وأربعمائة .

روينا عن أبي يعلى الخليل بن عبد الله الخليلي الحافظ رحمه الله، قال : "قد يكون الإسناد يعلو على غيره بتقدم موت راويه، وإن كانا متساويين في العدد ". ومثل ذلك من حديث نفسه بمثل ما ذكرناه . ثم إن هذا كلام في العلو المنبني على تقدم الوفاة، المستفاد من نسبة شيخ إلى شيخ، وقياس راو براو .

أما العلو المستفاد من مجرد تقدم وفاة شيخك من غير نظر إلى قياسه براو آخر، فقد حده بعض أهل هذا الشأن بخمسين سنة.

وذلك ما رويناه عن أبي علي الحافظ النيسابوري قال : سمعت أحمد بن عمير الدمشقي - وكان من أركان الحديث - يقول : إسناد خمسين سنة من موت الشيخ إسناد علو ، وفيما نروي عن أبي عبد الله بن منده الحافظ ، قال : "إذا مر على الإسناد ثلاثون سنة فهو عال ". وهذا أوسع من الأول. والله أعلم .

الخامس : العلو المستفاد من تقدم السماع : أنبئنا عن محمد بن ناصر الحافظ، عن محمد بن طاهر الحافظ، قال : "من العلو تقدم السماع ".

قلت : وكثير من هذا يدخل في النوع المذكور قبله، وفيه ما لا يدخل في ذلك، بل يمتاز عنه . مثل أن يسمع شخصان من شيخ واحد، وسماع أحدهما من ستين سنة مثلا، وسماع الآخر من أربعين سنة. فإذا تساوى السند إليهما في العدد ، فالإسناد إلى الأول الذي تقدم سماعه أعلى .

فهذه أنواع العلو على الاستقصاء والإيضاح الشافي، ولله سبحانه وتعالى الحمد كله .

وأما ما رويناه عن الحافظ أبي الطاهر السلفي - رحمه الله - من قوله في أبيات له :


بل علو الحديث بين أولي الحفـ ـظ والإتقان صحة الإسناد



وما رويناه عن الوزير نظام الملك من قوله: " عندي أن الحديث العالي ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن بلغت رواته مائة" فهذا ونحوه ليس من قبيل العلو المتعارف إطلاقه بين أهل الحديث، وإنما هو علو من حيث المعنى فحسب. والله أعلم .

فصل

وأما النزول فهو ضد العلو ، وما من قسم من أقسام العلو الخمسة إلا وضده قسم من أقسام النزول ، فهو إذا خمسة أقسام، وتفصيلها يدرك من تفصيل أقسام العلو على نحو ما تقدم شرحه .

وأما قول الحاكم أبي عبد الله: "لعل قائلا يقول: النزول ضد العلو، فمن عرف العلو فقد عرف ضده، وليس كذلك، فإن للنزول مراتب لا يعرفها إلا أهل الصنعة .... إلى آخر كلامه" فهذا ليس نفيا لكون النزول ضدا للعلو على الوجه الذي ذكرته، بل نفيا لكونه يعرف بمعرفة العلو ، وذلك يليق بما ذكره هو في معرفة العلو، فإنه قصر في بيانه وتفصيله، وليس كذلك ما ذكرناه نحن في معرفة العلو، فإنه مفصل تفصيلا مفهما لمراتب النزول، والعلم عند الله تبارك وتعالى.

ثم إن النزول مفضول مرغوب عنه، والفضيلة للعلو على ما تقدم بيانه ودليله .

وحكى ابن خلاد، عن بعض أهل النظر أنه قال : "التنزل في الإسناد أفضل" واحتج له بما معناه أنه يجب الاجتهاد، والنظر في تعديل كل راو وتجريحه، فكلما زادوا كان الاجتهاد أكثر فكان الأجر أكثر.

وهذا مذهب ضعيف ضعيف الحجة ، وقد روينا عن علي ابن المديني، وأبي عمرو المستملي النيسابوري أنهما قالا : "النزول شؤم".

وهذا ونحوه مما جاء في ذم النزول مخصوص ببعض النزول، فإن النزول إذا تعين - دون العلو - طريقا إلى فائدة راجحة على فائدة العلو فهو مختار غير مرذول. والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية