الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
18 - قوله: (ص): (ولهذا نرى الإمساك عن الحكم لإسناد أو حديث بأنه الأصح على الإطلاق. على أن جماعة من أئمة الحديث خاضوا غمرة ذلك) . انتهى.

أما الإسناد فهو كما قال قد صرح جماعة من أئمة الحديث بأن إسناد كذا أصح الأسانيد .

وأما الحديث فلا يحفظ عن أحد من أئمة الحديث أنه قال: حديث كذا أصح الأحاديث على الإطلاق؛ لأنه لا يلزم من كون الإسناد أصح من غيره أن [ ص: 248 ] يكون المتن المروي به أصح من المتن المروي بالإسناد المرجوح ، لاحتمال انتفاء العلة عن الثاني ووجودها في الأول.

أو كثرة المتابعات وتوافرها على الثاني دون الأول. فلأجل هذا ما خاض الأئمة إلا في الحكم على الإسناد خاصة. وليس الخوض فيه يمتنع؛ لأن الرواة قد ضبطوا، وعرفت أحوالهم وتفاريق مراتبهم، فأمكن الاطلاع على الترجيح بينهم. وسبب الاختلاف في ذلك إنما هو من جهة أن كل من رجح إسنادا كانت أوصاف رجال ذلك الإسناد عنده أقوى من غيره بحسب اطلاعه، فاختلفت أقوالهم، لاختلاف اجتهادهم.

وتوضيح هذا أن كثيرا ممن نقل عنه الكلام في ذلك إنما يرجح إسناد أهل بلده، وذلك لشدة اعتنائه.

فروينا في الجامع للخطيب من طريق أحمد بن سعيد الدارمي قال: سمعت محمود بن غيلان يقول: قيل لوكيع بن جراح :

هشام بن عروة يحدث عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها [ ص: 249 ] وأفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة - رضي الله عنها - .

وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة - رضي الله عنها - . أيهم أحب إليك؟

قال: لا نعدل بأهل بلدنا أحدا.

قال أحمد بن سعيد الدارمي : فأما أنا فأقول: هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - أحب إلي هكذا رأيت أصحابنا يقدمون.

ولكن يفيد مجموع ما نقل عنهم في ذلك ترجيح التراجم التي حكموا لها بالأصحية. على ما لم يقع له حكم من أحد منهم.

[ ص: 250 ]

وللناظر المتقن في ذلك ترجيح بعضها على بعض ولو من حيث رجحان (حفظ) الإمام الذي رجح ذلك الإسناد على غيره.

وقد ذكر المصنف من ذلك خمسة تراجم.

ومما لم يذكره.

1 - قال حجاج بن الشاعر أو غيره: أصح الأسانيد شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن شيوخه.

2 – وقال يحيى بن معين : عبد الرحمن بن القاسم عن [ ص: 251 ] أبيه عن عائشة ، ليس إسناد أثبت من هذا.

3 - وقال سليمان بن داود الشاذكوني : أصح الأسانيد: يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه .

4 - وقال النسائي : أصح الأسانيد التي تروى أربعة منها - غير ما تقدم - الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس عن عمر - رضي الله عنه [ ص: 252 ]

5 – وقال ابن معين أيضا: عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة - رضي الله عنها - ترجمة مشبكة بالدر، وفي رواية بالذهب.

6 – وقال أبو حاتم الرازي : يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر بن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - كأنك تسمعها من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

7 - وكذا رجح أحمد بن حنبل عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - على مالك وأيوب [ ص: 253 ]

8 - وقال ابن المبارك ووكيع - كما تقدم - والعجلي : أرجح الأسانيد.

وأحسنها: سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه.

وروينا في الجامع للخطيب من طريق أبي العباس أحمد بن محمد البرقاني قال: سمعت خلف بن هشام البزار يقول: سألت أحمد بن حنبل : أي الأسانيد أثبت؟

9 - قال: أيوب عن نافع عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - فإن كان من حديث حماد بن زيد عن أيوب فيا لك.

[ ص: 254 ]

قلت: فعلى هذا فقد اختلف اجتهاد أحمد بن حنبل في هذه الترجمة.

وكذا رجحها النسائي .

10 - نعم، وأخرج الترمذي عن محمد بن أبان عن وكيع . قال: الأعمش أحفظ لإسناد إبراهيم من منصور .

11 - وقال علي بن المديني : من أصح الأسانيد حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة - رضي الله عنه .

12 - وقال البخاري - فيما ذكره الحاكم عنه أيضا أصح الأسانيد [ ص: 255 ] أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه

13 – وروى ابن شاهين في الثقات عن أحمد بن صالح المصري قال: من أثبت أسانيد أهل المدينة إسماعيل بن أبي حكيم عن عبيدة بن سفيان - يعني عن أبي هريرة - رضي الله عنه .

14 - وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: ليس بالكوفة أصح من هذا الإسناد: يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن سليمان التيمي عن الحارث بن سويد عن علي - رضي الله عنه [ ص: 256 ] وروى عن يحيى بن معين نحوه.

15 - وفي الترمذي في الدعوات (عن سليمان بن داود الهاشمي أنه قال: في حديث الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي - رضي الله عنه - هذا مثل الزهري عن سالم عن أبيه)، ذكره عقب حديث الافتتاح قبل باب ما يقول في سجود القرآن.

وقال الحاكم أبو عبد الله في معرفة علوم الحديث له: أصح أسانيد أهل البيت : جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي عن أبيه عن جده عن علي - رضي الله عنه - إذا كان الراوي عن جعفر ثقة.

وأصح أسانيد الصديق - رضي الله عنه -: إسماعيل بن أبي خالد عن [ ص: 257 ] قيس بن أبي حازم عن أبي بكر - رضي الله عنه - .

وأصح أسانيد الفاروق - رضي الله عنه - الزهري عن سالم عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم - .

وأصح أسانيد عائشة - رضي الله عنها - الزهري عن عروة عنها.

وأصح أسانيد أنس بن مالك - رضي الله عنه - مالك عن الزهري عنه.

وأصح أسانيد اليمانيين : معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - [ ص: 258 ]

وأصح أسانيد المكيين - سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر - رضي الله عنه - .

وأثبت أسانيد المصريين - الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - .

وأثبت أسانيد الشاميين - الأوزاعي عن حسان بن عطية عن الصحابة - رضي الله عنهم - [ ص: 259 ]

وأثبت أسانيد الخراسانيين - الحسن بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه - رضي الله تعالى عنه - .

قلت: وهذا الذي ذكره الحاكم قد ينازع في بعضه، ولا سيما في أسانيد أنس - رضي الله تعالى عنه - .

فإن قتادة وثابتا البناني أقعد وأسعد بحديثه من الزهري ، ولهما من الرواة جماعة، فأثبت أصحاب ثابت البناني حماد بن زيد ، وأثبت أصحاب قتادة شعبة وقيل: غيره.

وإنما جزمت بشعبة ؛ لأنه كان لا يأخذ عن أحد ممن وصف بالتدليس إلا ما صرح فيه ذلك المدلس بسماعه من شيخه.

وقد تقدم النقل عن أحمد بن سعيد الدارمي في ترجيح هشام بن عروة عن أبيه [ ص: 260 ] وكذا قوله في أسانيد أهل الشام فيه نظر. فإن جماعة من أئمتهم رجحوا رواية سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر - رضي الله عنه - .

فهذه بقية أقوال الأئمة في أصح الأسانيد.

وذكر البزار في مسنده أن رواية علي بن الحسين بن علي عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أصح إسناد يروى عن سعد - رضي الله عنه - .

[ ص: 261 ]

وقال ابن حزم : أصح طريق يروى في الدنيا عن عمر - رضي الله عنه - رواية الزهري عن السائب بن يزيد - رضي الله عنه - .

فإذا أضيفت إلى ما ذكره المصنف أفادت ترجيح ما نص على أصحيته إذا عارضه ما لم ينص فيه على الأصحية وإن كان صحيحا.

فإن عارضه من نص - أيضا على أصحيته نظر إلى المرجحين؛ فأيهما كان أرجح حكم بقوله وإلا فيرجع إلى القرائن التي تحف أحد الحديثين فيقدم بها على غيره - والله أعلم.

تنبيه:

الذي رجح رواية أيوب عن ابن سيرين هو سليمان بن حرب .

تذييل

قال البرديجي : أجمع أهل النقل على صحة حديث الزهري عن سالم [ ص: 262 ] عن أبيه، وعن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - من مالك وابن عيينة ومعمر والزبيدي وعقيل ما لم (يختلفوا)، فإذا اختلفوا توقف فيه.

والذي رجح رواية ابن عون عن ابن سيرين هو ابن المديني وعين الراوي عن أيوب فقال: هو حماد بن زيد .

تنبيه:

لم يذكر المصنف أوهى الأسانيد، وقد ذكره الحاكم وأظنه حذفه لقلة جدواه بالنسبة إلى مقابله، وسأشير إليه في الكلام على الحديث الموضوع إن شاء الله تعالى.

التالي السابق


الخدمات العلمية