الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
10 - قوله: (ع): "بل أزيد على هذا وأقول: الظاهر أن البخاري لم يرد برد الصدقة حديث جابر - رضي الله تعالى عنه - المذكور في بيع المدبر وإنما أراد - والله أعلم - حديث جابر - رضي الله تعالى عنه - في الرجل الذي دخل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فأمرهم فتصدقوا عليه... " الحديث.

[ ص: 355 ] وهو حديث ضعيف رواه الدارقطني وغيره. انتهى.

فيه أمور:

أحدها: أن الدارقطني لم يرو قصة الداخل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فأمرهم فتصدقوا عليه من حديث جابر - رضي الله تعالى عنه - أصلا، وإنما رواه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه - .

وسبب هذا الاشتباه في هذا أن القصة شبيهة بحديث جابر - رضي الله تعالى عنه - في قصة سليك الغطفاني التي أخرجها أصحاب الحديث الصحيح والدارقطني وغيرهم من حديث جابر - رضي الله تعالى عنه - لكن ليس فيها قصة المتصدق ورد الصدقة عليه.

ثانيها: أن الحديث المذكور عند الدارقطني مع كونه ليس من حديث جابر - رضي الله تعالى عنه - وإنما هو من حديث أبي سعيد - رضي الله تعالى عنه - ليس ضعيفا، بل هو صحيح أخرجه النسائي [ ص: 356 ] وابن ماجه والترمذي وصححه ابن حبان في صحيحه والحاكم كلهم من حديث محمد بن عجلان عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه - قال: جاء رجل يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب - بهيئة بذة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أصليت؟ " قال: لا. قال - صلى الله عليه وسلم - : "صل ركعتين" .

وحث الناس على الصدقة قال: فألقى أحد ثوبيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : جاء هذا يوم الجمعة (يعني التي قبلها) بهيئة بذة، فأمرت الناس بالصدقة (فألقوا ثيابا فأمرت له منها بثوبين ثم جاء الآن فأمرت الناس بالصدقة فألقى أحدهما فانتهره وقال: خذ ثوبك) لفظ النسائي .

ثالثها: نفيه أن يكون البخاري أراد بحديث جابر - رضي الله تعالى عنه - حديثه في بيع المدبر ليس بجيد.

بل الظاهر أنه أراده. وقد سبق مغلطاي إلى ذلك ابن بطال في شرح البخاري وعبد الحق في أواخر الجمع بين الصحيحين وغيرهما ولا [ ص: 357 ] يلزمه به منه ما ألزمه المعترض الذي تعقب الشيخ كلامه على ما سنبينه.

وبيان ذلك: أن حديث جابر - رضي الله تعالى عنه - في بيع المدبر قد اتفق الشيخان على تخريجه من طرق عن عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار عنه، وأخرجه البخاري من طريق محمد بن المنكدر عن جابر - رضي الله تعالى عنه - [ ص: 358 ] وليس في رواية واحد منهم زيادة على قصة بيعه وإعطائه الثمن لصاحبه.

ورواه مسلم منفردا من طريق أبي الزبير عن جابر - رضي الله تعالى عنه - فزاد فيه زيادة ليست عند البخاري .

ولفظه: أعتق رجل من بني عذرة عبدا له عن دبر، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ألك مال غيره؟ قال: لا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي - رضي الله عنه - بثمانمائة درهم فجاء بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدفعها إليه، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - : "ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا" .

فهذه الزيادة من حديث أبي الزبير عن جابر - رضي الله تعالى عنه - في قصة المدبر فيها إشعار بمعنى ما علقه البخاري من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد على المتصدق صدقته قبل النهي ثم نهاه، لكن ليس في هذا تصريح بالنهي.

فإن كان هو الذي أراده البخاري فلا حرج عليه في عدم جزمه به لأن راوي الزيادة وهو أبو الزبير ليس ممن يحتج به على شرطه وعلى تقدير صلاحيته [ ص: 359 ] عنده للحجة فقد تقدم أنه ربما علق الحديث بالمعنى أو بالاختصار فلا يجزم به بل يذكره بصيغة التمريض للاختلاف في ذلك كما قرره الشيخ، فعلى كل تقدير لا يتم للمعترض اعتراضه.

رابعها: ظهر لي مراد البخاري بالتعليق السابق عن جابر - رضي الله تعالى عنه - حديث آخر غير حديث المدبر.

وهو ما أخبرني به إبراهيم بن محمد المؤذن بمكة أن أحمد بن أبي طالب أخبرهم أنا عبد الله بن عمر أنا أبو الوقت أنا أبو الحسن بن داود أنا عبد الله بن أحمد أنا إبراهيم بن خريم أنا عبد بن حميد ، ثنا يعلى بن عبيد ثنا محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن جابر بن عبد الله - رضي الله تعالى عنهما - قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل بمثل البيضة من الذهب أصابها في بعض المعادن، فجاء بها إلى رسول الله - صلى [ ص: 360 ] الله عليه وسلم - من ركنه الأيمن فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خذها مني صدقة فوالله ما لي مال غيرها، فأعرض - صلى الله عليه وسلم - عنه ثم جاء من ركنه الأيسر فقال مثل ذلك، فجاءه من بين يديه فقال مثل ذلك فقال - صلى الله عليه وسلم - : "هاتها" مغضبا فحذفه بها، فلو أصابه بها لعقره أو أوجعه، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - : "يأتي أحدكم بماله كله لا يملك غيره فيتصدق به ثم يقعد بعد ذلك يتكفف الناس. إنما الصدقة عن ظهر غنى خذه لا حاجة لنا به" [قال] فأخذ الرجل ماله فذهب .

وهذا الحديث رواه أحمد في مسنده والدارمي وأبو داود في السنن وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم في مستدركه كلهم من طريق محمد بن إسحاق به. يزيد بعضهم على بعض في سياقه، ورواة إسناده ثقات ومحمد بن إسحاق مشهور ولم أره من حديثه إلا معنعنا ثم رأيته في مسند أبي يعلى مصرحا فيه بالتحديث [ ص: 361 ] وسياقه أنسب وأشبه بمراد البخاري من الذي قبله.

والمتن الذي أورده الشيخ مناسب للمراد إلا أنه ليس من حديث جابر - رضي الله تعالى عنه - كما بيناه - والله أعلم - .

لطيفة:

الرجل الذي جاء بالبيضة هو حجاج بن علاط السهمي - رضي الله تعالى عنه – رواه عبد الغني بن سعيد الأزدي من رواية بعض أحفاده عن أبيه عن جده إلى أن انتهى إلى الحجاج بن علاط - رضي الله عنه - أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بلبنة من ذهب أصابها من كنز فذكر الحديث.

التالي السابق


الخدمات العلمية