الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 371 ] [دعوى ابن عبد السلام والنووي أن أخبار الصحيحين لا تفيد إلا الظن :]

12 - قوله: (ع): "وقد عاب ابن عبد السلام على ابن الصلاح هذا وذكر أن بعض المعتزلة يرون أن الأمة إذا عملت بحديث اقتضى ذلك القطع بصحته".

وقال النووي : خالف ابن الصلاح المحققون والأكثرون. فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر، وقال في شرح مسلم : يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على أنه مقطوع بأنه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - .

[رد الحافظ على النووي وابن عبد السلام :]

أقول: أقر شيخنا هذا من كلام النووي، وفيه نظر وذلك أن ابن الصلاح لم يقل: إن الأمة أجمعت على العمل (بما فيهما)، وكيف يسوغ له أن يطلق ذلك والأمة لم تجمع على العمل بما فيهما لا من حيث الجملة ولا من حيث التفصيل؛ لأن فيهما أحاديث ترك العمل بما دلت عليه لوجود معارض من ناسخ أو مخصص.

وإنما نقل ابن الصلاح أن الأمة أجمعت على تلقيهما بالقبول من حيث الصحة، ويؤيد ذلك أنه قال في شرح مسلم ما صورته: [ ص: 372 ]

ما اتفقا عليه مقطوع بصدقه لتلقي الأمة له بالقبول؛ وذلك يفيد العلم النظري وهو في إفادة العلم كالمتواتر إلا أن المتواتر يفيد العلم الضروري ، وتلقي الأمة بالقبول يفيد العلم النظري.

ثم حكى عن إمام الحرمين مقالته المشهورة أنه لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتاب البخاري ومسلم مما حكم بصحته من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ألزمته الطلاق ولا حنثته لإجماع علماء المسلمين على صحتهما.

فهذا يؤيد ما قلنا أنه ما أراد أنهم اتفقوا على العمل وإنما اتفقوا على الصحة. وحينئذ فلابد لاتفاقهم من مزية؛ لأن اتفاقهم على تلقي خبر غير ما في الصحيحين بالقبول، ولو كان سنده ضعيفا يوجب العمل بمدلوله. فاتفاقهم على تلقي ما صح سنده ماذا يفيد؟

فأما متى قلنا يوجب العمل فقط لزم تساوي الضعيف والصحيح، فلابد للصحيح من مزية. وقد وجدت فيما حكاه إمام الحرمين في البرهان عن الأستاذ أبي بكر محمد بن الحسن بن فورك ما يصرح بهذا التفصيل الذي أشرت [ ص: 373 ] إليه؛ فإنه قال في الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول مقطوع بصحته .

ثم فصل ذلك فقال: إن اتفقوا على العمل به لم يقطع بصدقه وحمل الأمر على اعتقادهم وجوب العمل بخبر. وإن تلقوه بالقبول قولا وفعلا حكم بصدقه قطعا وحكى أبو نصر القشيري عن القاضي أبي بكر الباقلاني أنه بين في "كتاب التقريب" أن الأمة إذا اجتمعت أو أجمع أقوام لا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب من غير أن يظهر منهم ذلك التواطؤ على أن الخبر صدق، كان ذلك دليلا على الصدق.

قال أبو نصر وحكى إمام الحرمين عن القاضي أن تلقي الأمة لا يقتضي القطع بالصدق.

ولعل هذا فيما إذا تلقته بالقبول، ولكن يحصل إجماع على تصديق الخبر فهذا وجه الجمع بين كلامي القاضي .

وجزم القاضي أبو نصر عبد الوهاب المالكي في كتاب الملخص بالصحة فيما إذا تلقوه بالقبول. قال: وإنما اختلفوا فيما إذا أجمعت على العمل بخبر المخبر هل يدل ذلك على صحته أم لا؟ على قولين: قال: وكذلك إذا عمل بموجبه أكثر الصحابة - رضي الله عنهم - وأنكروا على من عدل عنه فهل يدل على صحته وقيام الحجة به؟

[ ص: 374 ] ذهب الجمهور إلى أنه لا يكون صحيحا بذلك.

وذهب عيسى بن أبان إلى أنه يدل على صحته، انتهى.

فقول الشيخ محيي الدين النووي : خالف ابن الصلاح المحققون والأكثرون. غير متجه.

بل تعقبه شيخنا شيخ الإسلام في محاسن الاصطلاح فقال: هذا ممنوع؛ فقد نقل بعض الحفاظ المتأخرين عن جمع من الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة أنهم يقطعون بصحة الحديث الذي تلقته الأمة بالقبول.

قلت: وكأنه عني بهذا الشيخ تقي الدين ابن تيمية ؛ فإني رأيت فيما حكاه عن بعض ثقات أصحابه ما ملخصه: الخبر إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقا له وعملا بموجبه أفاد العلم عند جماهير العلماء من السلف والخلف وهو الذي ذكره جمهور المصنفين في أصول الفقه كشمس الأئمة السرخسي وغيره من الحنفية والقاضي عبد الوهاب وأمثاله من المالكية ، [ ص: 375 ] والشيخ أبي حامد الإسفرائيني والقاضي أبي الطيب الطبري والشيخ أبي إسحاق الشيرازي وسليم الرازي وأمثالهم من الشافعية ، وأبي عبد الله بن حامد والقاضي أبي يعلى وأبي الخطاب وغيرهم من الحنبلية وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشاعرة وغيرهم كأبي إسحاق [ ص: 376 ] الإسفرائيني وأبي بكر ابن فورك وأبي منصور التميمي وابن السمعاني وأبي هاشم الجبائي وأبي عبد الله البصري قال وهو مذهب أهل الحديث قاطبة وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح في مدخله إلى علوم الحديث - فذكر ذلك استنباطا وافق فيه هؤلاء الأئمة وخالفه في ذلك من ظن أن الجمهور على خلاف قوله لكونه لم يقف إلا على تصانيف من خالف في ذلك كالقاضي أبي بكر الباقلاني والغزالي وابن عقيل وغيرهم؛ لأن هؤلاء يقولون: إنه لا يفيد العلم مطلقا. وعمدتهم أن خبر الواحد لا يفيد العلم بمجرده ، والأمة إذا عملت بموجبه فالوجوب العمل بالظن عليهم وأنه لا يمكن جزم الأمة بصدقه في الباطن؛ لأن هذا جزم بلا علم.

والجواب: أن إجماع الأمة معصوم عن الخطأ في الباطن، وإجماعهم على [ ص: 377 ] تصديق الخبر كإجماعهم على وجوب العمل به، والواحد منهم وإن جاز عليه أن يصدق في نفس الأمر من هو كاذب أو غالط فمجموعهم معصوم عن هذا كالواحد من أهل التواتر يجوز عليه بمجرده الكذب والخطأ، ومع انضمامه إلى أهل التواتر ينتفي الكذب والخطأ عن مجموعهم ولا فرق، (انتهى كلامه).

وأصرح من رأيت كلامه في ذلك ممن نقل الشيخ تقي الدين عنه ذلك فيما نحن بصدده - الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني فإنه قال: أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بها عن صاحب الشرع وإن حصل الخلاف في بعضها فذلك خلاف في طرقها ورواتها.

كأنه يشير بذلك إلى ما نقده بعض الحفاظ.

وقد احترز ابن الصلاح عنه.

وأما قول الشيخ محيي الدين : "لا يفيد العلم إلا إن تواتر" فمنقوض بأشياء:

أحدها: الخبر المحتف بالقرائن يفيد العلم النظري وممن صرح به إمام الحرمين والغزالي والرازي ، والسيف الآمدي وابن الحاجب ومن تبعهم.

[ ص: 378 ] ثانيها: الخبر المستفيض الوارد من وجوه كثيرة لا مطعن فيها يفيد العلم النظري للمتبحر في هذا الشأن.

وممن ذهب إلى هذا الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني والأستاذ أبو منصور التميمي والأستاذ أبو بكر بن فورك .

وقال الأبياري - شارح البرهان - بعد أن حكى عن إمام الحرمين أنه ضعف هذه المقالة: بأن العرف واطراد الاعتبار لا يقتضي الصدق قطعا بل قصاراه غلبة الظن لغلبة الإسناد. أراد أن النظر في أحوال المخبرين من أهل الثقة والتجربة يحصل ذلك، ومال إليه الغزالي . وإذا قلنا: إنه يفيد العلم فهو نظري لا ضروري، وبالغ أبو منصور التميمي في الرد على من أبى ذلك، فقال: المستفيض وهو الحديث الذي له طرق كثيرة صحيحة لكنه لم يبلغ مبلغ التواتر ، يوجب العلم المكتسب ولا عبرة بمخالفة أهل الأهواء في ذلك.

ثالثها: ما قدمنا نقله عن الأئمة في الخبر إذا تلقته الأمة بالقبول . ولا شك أن إجماع الأمة على القول بصحة الخبر أقوى من إفادة العلم من القرائن المحتفة ومن مجرد كثرة الطرق.

ثم بعد تقرير ذلك كله جميعا لم يقل ابن الصلاح ولا من تقدمه أن [ ص: 379 ] هذه الأشياء تفيد العلم القطعي كما يفيده الخبر المتواتر لأن المتواتر يفيد العلم الضروري الذي لا يقبل التشكيك ، وما عداه مما ذكر يفيد العلم النظري الذي يقبل التشكيك، ولهذا تخلفت إفادة العلم عن الأحاديث التي عللت في الصحيحين - والله أعلم -

وبعد تقرير هذا فقول ابن الصلاح : "والعلم اليقيني النظري حاصل به" لو اقتصر على قوله: "العلم النظري" لكان أليق بهذا المقام.

أما اليقيني فمعناه القطعي، فلذلك أنكر عليه من أنكر؛ لأن المقطوع به لا يمكن الترجيح بين آحاده، وإنما يقع الترجيح في مفهوماته. ونحن نجد علماء هذا الشأن قديما وحديثا يرجحون بعض أحاديث الكتابين على بعض بوجوه من الترجيحات النقلية، فلو كان الجميع مقطوعا به (ما بقي للترجيح مسلك وقد سلم ابن الصلاح هذا القدر فيما مضى) لما رجح بين صحيحي البخاري ومسلم ، فالصواب الاقتصار في هذه المواضع على أنه يفيد العلم النظري كما قررناه - والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية