الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
23 - قوله: (ع): في الجواب من اعتراض أبي الفتح اليعمري ؛ إذ زعم أن شرط أبي داود كشرط مسلم إلا في الأحاديث التي بين أبو داود ضعفها - بأن مسلما شرط الصحيح - فليس لنا أن نحكم على حديث في كتابه بأنه حسن، وأبو داود إنما قال:

ما سكت عنه فهو صالح. والصالح يجوز أن يكون صحيحا وأن يكون حسنا فالاحتياط أن يحكم عليه بالحسن.

[ ص: 433 ] أقول: أجاب الحافظ صلاح الدين العلائي عن كلام أبي الفتح اليعمري بجواب أمتن من هذا فقال ما نصه:

"هذا الذي قاله ضعيف، وقول ابن الصلاح أقوى؛ لأن درجات الصحيح إذا تفاوتت (فلا نعني بالحسن إلا) الدرجة الدنيا منها".

والدرجة الدنيا منها لم يخرج مسلم منها شيئا في الأصول وإنما يخرجها في المتابعات والشواهد.

[ الرواة عند مسلم ثلاثة أقسام :]

قلت: وهو تعقب صحيح وهو مبني على أمر اختلف نظر الأئمة فيه؛ وهو قول مسلم ما معناه أن الرواة ثلاثة أقسام:

الأول: كمالك وشعبة وأنظارهما.

الثاني: مثل عطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد وأمثالهما.

وكل من القسمين مقبول، (لما يشمل الكل) من اسم الصدق.

والطبقة الثالثة: أحاديث المتروكين.

فقال القاضي عياض وتبعه النووي وغيره: إن مسلما أخرج أحاديث القسمين الأولين ولم يخرج شيئا من أحاديث القسم الثالث.

وقال الحاكم والبيهقي وغيرهما: لم يخرج مسلم إلا أحاديث القسم الأول فقط فلما حدث به اخترمته المنية قبل إخراج القسمين الآخرين .

[ ص: 434 ] ويؤيد هذا ما رواه البيهقي بسند صحيح عن إبراهيم بن محمد بن سفيان صاحب مسلم قال: صنف مسلم ثلاثة كتب أحدها هذا الذي قرأه على الناس (يعني الصحيح) والثاني يدخل فيه عكرمة وابن إسحاق وأمثالهما والثالث يدخل فيه الضعفاء.

قلت: وإنما اشتبه الأمر على القاضي عياض ومن تبعه بأن الرواية عن أهل القسم الثاني موجودة في صحيحه لكن فرض المسألة هل احتج (بهم كما احتج) بأهل القسم الأول أم لا؟

والحق: أنه لم يخرج شيئا مما انفرد به الواحد منهم وإنما احتج بأهل القسم الأول سواء تفردوا أم لا؟

ويخرج من أحاديث أهل القسم الثاني ما يرفع به التفرد عن أحاديث أهل القسم الأول. وكذلك إذا كان لحديث أهل القسم الثاني طرق كثيرة يعضد بعضها بعضا فإنه قد يخرج ذلك.

وهذا ظاهر بين في كتابه ولو كان يخرج جميع أحاديث أهل القسم الثاني في الأصول بل وفي المتابعات لكان كتابه أضعاف ما هو عليه.

ألا تراه أخرج لعطاء بن السائب في المتابعات وهو من المكثرين، فما له عنده سوى مواضيع يسيرة.

[ ص: 435 ] وكذا محمد بن إسحاق وهو من بحور الحديث وليس له عنده في المتابعات إلا ستة أو سبعة.

ولم يخرج لليث بن أبي سليم ولا ليزيد بن أبي زياد ولا لمجالد بن سعيد إلا مقرونا.

وهذا بخلاف أبي داود ، فإنه يخرج أحاديث هؤلاء في الأصول محتجا بها، ولأجل ذا تخلف كتابه عن شرط الصحة وفي قول أبي داود : وما كان فيه وهن شديد بينته (ما يفهم أن الذي يكون فيه وهن غير شديد) أنه لا يبينه.

ومن هنا يتبين أن جميع ما سكت عليه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحي. بل هو على أقسام:

1 - منه ما هو في الصحيحين أو على شرط الصحة.

2 - ومنه ما هو من قبيل الحسن لذاته.

3 - ومنه ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضد.

وهذان القسمان كثير في كتابه جدا.

4 - ومنه ما هو ضعيف، لكنه من رواية من لم يجمع على تركه غالبا. وكل هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج بها.

[ ص: 436 ] كما نقل ابن منده عنه أنه يخرج الحديث الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره وأنه أقوى من رأي الرجال.

وكذلك قال ابن عبد البر : كل ما سكت عليه أبو داود فهو صحيح عنده لاسيما إن كان لم يذكر في الباب غيره. ونحو هذا ما روينا عن الإمام أحمد بن حنبل فيما نقله ابن المنذر عنه أنه كان يحتج بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا لم يكن في الباب غيره.

[ ص: 437 ] وأصرح من هذا ما رويناه عنه فيما حكاه أبو العز بن كادش أنه قال - لابنه - :لو أردت أن أقتصر على ما صح عندي لم أرو من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء، لكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث أني لا أخالف ما يضعف إلا إذا كان في الباب شيء يدفعه.

ومن هذا ما روينا من طريق عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل بالإسناد الصحيح إليه قال: سمعت أبي يقول: لا تكاد ترى أحدا ينظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل والحديث الضعيف أحب إلي من الرأي.

[موقف أحمد من الرأي:]

قال: فسألته عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيها إلا صاحب حديث لا يدرى صحيحه من سقيمه وصاحب رأي فمن يسأل؟

قال: يسأل صاحب الحديث ولا يسأل صاحب الرأي.

فهذا نحو مما حكي عن أبي داود . ولا عجب، فإنه كان من تلامذة الإمام أحمد فغير مستنكر أن يقول بقوله.

[ ص: 438 ] بل حكى النجم الطوفي عن العلامة تقي الدين ابن تيمية أنه قال: اعتبرت مسند أحمد ، فوجدته موافقا لشرط أبي داود .

وقد أشار شيخنا في النوع الثالث والعشرين إلى شيء من هذا ومن هنا ضعف طريقة من يحتج بكل ما سكت عليه أبو داود فإنه يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنها مثل: ابن لهيعة ، وصالح مولى التوأمة ، وعبد الله بن محمد بن عقيل ، [ ص: 439 ] وموسى بن وردان، وسلمة بن الفضل، ودلهم بن صالح وغيرهم.

فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم ويتابعه في الاحتجاج بهم، بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع فيعتضد به أو غريب فيتوقف فيه؟

ولا سيما إن كان مخالفا لرواية من هو أوثق منه، فإنه ينحط إلى قبيل المنكر وقد يخرج لمن هو أضعف من هؤلاء بكثير كالحارث بن وجيه وصدقة الدقيقي وعثمان بن واقد العمري ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني وأبي [ ص: 440 ] جناب الكلبي وسليمان بن أرقم وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وأمثالهم من المتروكين.

وكذلك ما فيه من الأسانيد المنقطعة وأحاديث المدلسين بالعنعنة والأسانيد التي فيها من أبهمت أسماؤهم، فلا يتجه الحكم لأحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود ؛ لأن سكوته تارة يكون اكتفاء بما تقدم له من الكلام في ذلك الراوي في نفس كتابه وتارة يكون لذهول منه.

وتارة يكون لشدة وضوح ضعف ذلك الراوي واتفاق الأئمة على طرح روايته.

كأبي الحويرث ويحيى بن العلاء وغيرهم.

[ ص: 441 ] وتارة يكون من اختلاف الرواة عنه وهو الأكثر.

فإن في رواية أبي الحسن بن العبد عنه من الكلام على جماعة من الرواة والأسانيد ما ليس في رواية اللؤلؤي وإن كانت روايته أشهر.

ومن أمثلة ذلك ما رواه من طريق الحارث بن وجيه عن مالك بن دينار عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - حديث: "إن تحت كل شعرة جنابة... " الحديث.

فإنه تكلم عليه في بعض الروايات فقال: هذا حديث ضعيف والحارث حديثه منكر وفي بعضها اقتصر على بعض هذا الكلام.

وفي بعضها لم يتكلم فيه وقد يتكلم على الحديث بالتضعيف البالغ خارج السنن ويسكت عنه فيها.

[ ص: 442 ] ومن أمثلته: ما رواه في السنن من طريق محمد بن ثابت العبدي عن نافع قال: انطلقت مع ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - في حاجة إلى ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - فذكر الحديث في الذي سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يرد عليه حتى تيمم، ثم رد السلام وقال: "إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني لم أكن على طهر" .

لم يتكلم عليه في السنن، ولما ذكره في كتاب التفرد قال: لم يتابع أحد محمد بن ثابت على هذا.

ثم حكى عن أحمد بن حنبل أنه قال: هو حديث منكر.

[ ص: 443 ] [كثرة الانقطاع والإبهام في سنن أبي داود :]

وأما الأحاديث التي في إسنادها انقطاع أو إبهام ففي الكتاب من ذلك أحاديث كثيرة.

منها: وهو ثالث حديث في كتابه - ما رواه من طريق أبي التياح قال: حدثني شيخ قال: لما قدم ابن عباس البصرة كان يحدث عن أبي موسى - رضي الله تعالى عنه - فذكر حديث: "إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله" .

لم يتكلم عليه في جميع الروايات، وفيه هذا الشيخ المبهم.

إلى غير ذلك من الأحاديث التي يمنع من الاحتجاج بها ما فيها من العلل.

فالصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته لما وصفنا أنه يحتج بالأحاديث الضعيفة، ويقدمها على القياس إن ثبت ذلك عنه.

والمعتمد على مجرد سكوته لا يرى الاحتجاج بذلك فكيف يقلده فيه؟

[ ص: 444 ] وهذا جميعه إن حملنا قوله: "وما لم أقل فيه شيئا فهو صالح". على أن مراده أنه صالح للحجة. وهو الظاهر.

وإن حملناه على ما هو أعم من ذلك - وهو الصلاحية للحجة أو للاستشهاد أو للمتابعة - فلا يلزم منه أنه يحتج بالضعيف.

ويحتاج إلى تأمل تلك المواضع التي يسكت عليها وهي ضعيفة هل فيها إفراد أم لا؟

إن وجد فيها إفراد تعين الحمل على الأول وإلا حمل على الثاني، وعلى كل تقدير فلا يصلح ما سكت عليه للاحتجاج مطلقا .

وقد نبه على ذلك الشيخ محيي الدين النووي - رحمه الله تعالى - فقال : في سنن أبي داود أحاديث ظاهرة الضعف لم يبينها مع أنه متفق على ضعفها، فلا بد من تأويل كلامه.

ثم قال: والحق أن ما وجدناه في سننه ما لم يبينه، ولم ينص على صحته أو حسنه أحد ممن يعتمد فهو حسن، وإن نص على ضعفه من يعتمد أو رأى العارف في سنده ما يقتضي الضعف ولا جابر له، حكم بضعفه ولم يلتفت إلى سكوت أبي داود .

قلت: وهذا هو التحقيق، لكنه خالف ذلك في مواضع من شرح المهذب [ ص: 445 ] وغيره من تصانيفه، فاحتج بأحاديث كثيرة من أجل سكوت أبي داود عليها فلا يغتر بذلك - والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية