الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1544 (5) باب ما جاء أن الميت ليعذب ببكاء الحي عليه

                                                                                              [ 796 ] عن عبد الله بن أبي مليكة قال : توفيت ابنة لعثمان بن عفان بمكة ، قال : فجئنا لنشهدها ، قال : فحضرها ابن عمر وابن عباس ، قال : فإني لجالس بينهما ، قال : جلست إلى أحدهما ، قال : ثم جاء الآخر فجلس إلى جنبي ، فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان ، وهو مواجهه : ألا تنهى عن البكاء ؟ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه . فقال ابن عباس : قد كان عمر يقول بعض ذلك ثم حدث فقال : صدرت مع عمر من مكة ، حتى إذا كنا بالبيداء إذا هو بركب تحت ظل سمرة ، فقال : اذهب فانظر من هؤلاء الركب ؟ فنظرت فإذا صهيب . قال: فأخبرته ، فقال : ادعه لي . قال : فرجعت إلى صهيب ، فقلت : ارتحل فالحق أمير المؤمنين . فلما أن أصيب عمر دخل صهيب يبكي يقول : وا أخاه ! وا صاحباه ! فقال عمر : يا صهيب ! أتبكي علي ؟ وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه ، فقال ابن عباس : فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة ، فقالت : يرحم الله عمر ، لا والله ! ما حدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد ، ولكن قال : إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه ، قال : وقالت عائشة : حسبكم القرآن : ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير [ فاطر :18 ] قال : وقال ابن عباس عند ذلك : والله أضحك وأبكى .

                                                                                              قال ابن أبي مليكة : فوالله ما قال ابن عمر من شيء .

                                                                                              وفي رواية : لما بلغ عائشة قول عمر وابن عمر ، قالت : إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين ولكن السمع يخطئ .

                                                                                              رواه البخاري (1286) ، ومسلم (928) (23) و (929) ، والنسائي (4 \ 18 - 19) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (5) ومن باب : إن الميت ليعذب ببكاء الحي

                                                                                              قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن الميت ليعذب ببكاء أهله : اختلف في معناه على أقوال : [ ص: 581 ] فأنكرته عائشة - رضي الله عنها - ، وصرحت بتخطئة الناقل أو نسيانه ، وحملها على ذلك أنها لم تسمعه كذلك ، وأنه معارض بقوله - تعالى - : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ الأنعام : 164] وهذا فيه نظر . أما إنكارها ، ونسبة الخطأ لراويه فبعيد ، وغير بين ولا واضح ، وبيانه من وجهين :

                                                                                              أحدهما : أن الرواة لهذا المعنى كثير : عمر ، وابن عمر ، والمغيرة بن شعبة ، وقيلة بنت مخرمة ، وهم جازمون بالرواية ، فلا وجه لتخطئتهم ، وإذا أقدم على رد خبر جماعة مثل هؤلاء مع إمكان حمله على محمل الصحيح ، فلأن يرد خبر راو واحد أولى ، فرد خبرها أولى ، على أن الصحيح : ألا يرد واحد من تلك الأخبار ، وينظر في معانيها كما نبينه .

                                                                                              [ ص: 582 ] وثانيهما : أنه لا معارضة بين ما روت هي ولا ما رووا هم ; إذ كل واحد منهم أخبر عما سمع وشاهد ، وهما واقعتان مختلفتان . وأما استدلالها على رد ذلك بقوله - تعالى - : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ الأنعام : 164 ] فلا حجة فيه ، ولا معارضة بين هذه الآية والحديث ، على ما نبديه من معنى الحديث إن شاء الله تعالى .

                                                                                              وقد اختلف العلماء فيه ، فقيل : محمله على ما إذا كان النوح من وصيته وسنته ، كما كانت الجاهلية تفعل ، حتى قال طرفة :


                                                                                              إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا ابنة معبد



                                                                                              وقد جمع عبد المطلب بناته عند موته وأمرهن أن ينعينه ويندبنه ففعلن ، وأنشدت كل واحدة منهن شعرا تمدحه فيه ، فلما فرغن قال آخر ما كلمهن : أحسنتن ، هكذا فانعينني ، وإلى هذا نحا البخاري . وقيل : معناه : أن تلك الأفعال التي يبكى بها الميت ، مما كانوا يفعلونه في الجاهلية ; من قتل النفوس ، وأخذ [ ص: 583 ] الأموال ، وإخراب البلاد ، وغير ذلك ، فأهله يمدحونه بها ، ويعددونها عليه ، وهو يعذب لسببها ، وعلى هذا تحمل رواية من رواه : ببعض بكاء أهله ; إذ ليس كل ما يعددونه من خصاله يكون مذموما ، فقد يكون من خصاله : كرم ، وإعتاق رقاب ، وكشف كرب . وقد دل على صحة هذا التأويل : حديث عبد الله بن رواحة ; حيث أغمي عليه ، فجعلت أخته عمرة تبكي : واجبلاه ! واكذا ! واكذا ، تعدد عليه ، فأفاق وقال لها : ما قلت شيئا إلا قيل لي : أنت كذلك ؟ ! فلما مات لم تبك عليه . خرجه البخاري ، وذهب داود وطائفة إلى اعتقاد ظاهر الحديث ، وأنه إنما يعذب بنوحهم ; لأنه أهمل نهيهم عنه قبل موته وتأديبهم بذلك ، فيعذب بتفريطه في ذلك ، ويترك ما أمر الله - تعالى - به من قوله - تعالى - : قوا أنفسكم وأهليكم نارا [ التحريم :6 ] وقيل : معناه : أنه يعذب بسماع بكاء أهله ; لرقته لهم ، وشفقته عليهم ; لما يصيبهم من أجله . وقد دل على صحة هذا المعنى : حديث قيلة بنت مخرمة العنزية ، وبكت على ابنها مات عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لها وأنكر عليها : والذي نفس محمد بيده ! إن أحدكم ليبكي فيستعبر إليه صويحبه ، يا عباد الله ! لا تعذبوا إخوانكم . ذكره أبو بكر بن أبي شيبة ، وهو حديث طويل مشهور ، وهذا التأويل حسن جدا ، ولعله أولى ما قيل في ذلك . والله أعلم . وسكوت ابن عمر عن عائشة حين قالت ما قالت ; ليس لشكه فيما رواه ، لا هو ولا أبوه عمر - رضي الله عنهما - ; فإنهما قد صرحا برفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما كان - والله تعالى أعلم - لأنه ظهر له أن الحديث قابل للتأويل ، ولم يتعين له محمل ، أو [ ص: 584 ] سكت محترما لها عن أن يراجعها في ذلك المجلس ، وفي ذلك الوقت ، وأخر ذلك لوقت آخر ، مع أنه لم ترهق إليه في ذلك الوقت حاجة يعتد بها . والله تعالى أعلم .




                                                                                              الخدمات العلمية