الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1659 [ 860 ] وعن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (إن الله قال لي : أنفق أنفق عليك) .

                                                                                              وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (يمين الله ملأى لا يغيضها ، سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه ، قال : وعرشه على الماء ، وبيده الأخرى القبض ، يرفع ويخفض)


                                                                                              رواه أحمد (2 \ 242 و 500)، والبخاري (4684)، والترمذي (3045)، وابن ماجه (197) .

                                                                                              [ ص: 37 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 37 ] وقوله : ( يمين الله ملأى ) ; كذا صحت الرواية ، وهي الصواب . ومن رواها " ملآن " فقد أخطأ ، فإن اليمين اسم اليد ، واليد مؤنثة . ونسبة اليمين إلى الله تعالى نسبة مجازية توسعية ، عبر بها عن كثرة العطاء ، والقدرة عليه ، [وحمل على هذه الاستعارة عادة التخاطب وحصول التفاهم] ، ومنه قوله تعالى : لأخذنا منه باليمين واليد : عبارة عن القدرة ، وتسميتها باليمين: على ما تعارفناه فيما بيننا من أن القوة والبطش والتصرف إنما هو باليمين ; ولأنه مشتق من اليمن والبركة .

                                                                                              وكذلك قال في حديث آخر : (وكلتا يديه يمين) ; نافيا لتوهم النقص والقصور في حقه تعالى .

                                                                                              وكذلك كل ما أطلق على الله تعالى ; مما يدل على الجوارح والأعضاء ; كالأعين والأيدي والجنب والأصبع ، وغير ذلك مما يلزم من ظاهره التجسيم ، الذي تدل العقول بأوائلها على استحالته ، فهي كلها [ ص: 38 ] متأولة في حقه تعالى ; لاستحالة حملها على ظواهرها .

                                                                                              وقوله : ( سحاء ) بالمد والهمز والرفع ، على أنه خبر بعد خبر . و " الليل والنهار " منصوبان على الظرف ، متعلقان بما في " سحاء " من معنى الفعل ، وهي الرواية المشهورة . وعند أبي بحر : " سحاء " منصوبا منونا على أنه مصدر صدره محذوف ، يدل عليه قوة الكلام ، كأنه قال : تسح سحا . ويكون من باب قوله :


                                                                                              ما إن تمس الأرض إلا منكب منه وحرف الساق طي المحمل

                                                                                              والسح " : الصب الكثير ، كما قال امرؤ القيس :


                                                                                              فدمعهما سكب وسح وديمة . . . . . . . . . . . . .

                                                                                              ويغيضها " : ينقصها . يقال : غاض الماء ، وغضته ، متعديا ولازما . وفاعله مضمر تدل عليه المشاهدة . تقديره : لا ينقصها شيء . وقد جاء هذا المضمر مظهرا في رواية ابن نمير . فقال : " لا يغيضها شيء " .

                                                                                              ووقع عند الطبري في حديث عبد الرزاق : " لا يغيضها سح الليل والنهار " ، برفع " سح " على أنه فاعل " يغيضها " .

                                                                                              وخفض " الليل والنهار " بالإضافة: على التوسع ، كما قالوا : يا سارق الليلة أهل الدار .

                                                                                              وقوله : ( وعرشه على الماء ) : العرش: السرير في أصل اللغة ، وهو من [ ص: 39 ] الرفع كما تقدم . وليس معناه في حق الله تعالى السرير ، ولا المحل ; إذ لو كان كذلك لكان محمولا ، ولكان مفتقرا ، ويلزم منه حدوثه ، وإنما العرش المضاف إليه عبارة عن موجود عظيم ، هو أعظم المخلوقات . خلقه الله على الماء ، فاستولى عليه ، بمعنى : أنه سخره كيف شاء .

                                                                                              قال كعب في قوله تعالى : وكان عرشه على الماء إن الله تعالى بدأ الخلق ياقوتة خضراء ، فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء ، ثم خلق عرشه عليه . وقال ابن عباس : وكان عرشه على الماء ; أي : فوقه ; إذ لم يخلق سماء ولا أرضا .

                                                                                              وظاهر هذا الحديث : أن العرش حالة إخباره - صلى الله عليه وسلم - هو على الماء كما قال كعب ، وظاهر كلام ابن عباس : أنه لما خلق السماوات والأرض ، أضيفت فوقية العرش إليهما .

                                                                                              وقوله : ( وبيده الأخرى القبض ) ; ولم يقل اليسرى ، ولا الشمال ، اجتنابا لما تضمنته ألفاظهما ، ونفيا لتوهم النقص ; ولذلك قال : (وكلتا يديه يمين) . ويفهم من إضافة اليدين إليه تعالى : قدرته على [المخلوقات] .

                                                                                              والقيض " - بالقاف والياء باثنتين من أسفل . والقبض في الرواية الأولى : هو نقيض البسط ، ولذلك اكتفى بذكره عن البسط ، وصار هذا كقوله : (بيدك الخير) ، اكتفى به عن ذكر نقيضه ، وهو الشر . ويكون هذا الحديث مثل قوله تعالى : والله يقبض ويبسط ; أي : يقبض الأرزاق ، والأرواح ، والقلوب ، والأمور كلها ، بالقبض اللائق بها . ويبسطها ببسطها اللائق بها .

                                                                                              وقوله : ( يرفع ويخفض ) ; أي : يعلي ويضع ، ويعز ويذل ، ويفعل ما يريد من الشيء ونقيضه .




                                                                                              الخدمات العلمية