الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1664 [ 863 ] وعن أنس بن مالك قال : كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب ، قال أنس : فلما نزلت هذه الآية : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : إن الله يقول في كتابه : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله! حيث شئت ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( بخ ذلك مال رابح ، ذلك مال رابح ، قد سمعت ما قلت فيها ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين) ، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه .

                                                                                              وفي رواية : قال اجعلها في قرابتك ، قال : فجعلها في حسان بن ثابت وأبي بن كعب

                                                                                              رواه أحمد (3 \ 141)، والبخاري (1461)، ومسلم (998) .

                                                                                              [ ص: 41 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 41 ] وقوله في حديث أبي طلحة : " وكان أحب أمواله إليه بيرحاء " ، رويت هذه اللفظة بكسر الباء بواحدة ، وبفتح الراء وضمها وبمدها ، وقصرها ، فالنصب على أنه خبر كان ، وحينئذ ترفع " أحب " على أنه اسمها ، ورفع بير على أنه اسم كان ، وحينئذ تنصب " أحب " على أنه خبرها . فأما مد " حاء " وقصرها فلغتان ، وهو حائط نخل سمي بهذا الاسم ، بموضع يعرف بقصر بني جديلة ، وليس ببئر ; ولذلك قال الباجي : قرأت هذه اللفظة على أبي ذر الهروي بنصب الراء على كل حال ، وعليه أدركت أهل العلم والحفظ بالمشرق . وقال لي الصوري : بيرحاء ; بنصب الراء ، قال : وبالرفع قرأناه على شيوخنا الأندلسيين .

                                                                                              وقد روى هذا الحرف في " الأم " : حماد بن سلمة : بريحاء بكسر الراء وفتح الباء .

                                                                                              وقوله تعالى : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قال الحسن : لن تكونوا أبرارا حتى تبذلوا كبير أموالكم .

                                                                                              أبو بكر الوراق : لن تنالوا بري بكم حتى تبروا إخوانكم . قال ابن عباس -رضي الله عنهما- : هو الجنة . وقال مجاهد : ثواب البر .

                                                                                              [ ص: 42 ] وقوله : (بخ) ; بالإسكان والكسر من غير تنوين ، وبالتنوين ، وقد ذكر الأحمر فيها التشديد . وقد روي فيها الرفع . وقال بعضهم : فإذا كررت فالاختيار فيها التحريك والتنوين في الأول ، والتسكين في الثاني .

                                                                                              قال أبو بكر : معناه : تعظيم الأمر وتفخيمه . وسكنت الخاء فيه كما سكنت اللام في هل وبل . ومن قال " بخ " بالخفض والتنوين شبهه بالأصوات ، كصه ومه ، وقال ابن السكيت : بخ ، بخ وبه وبه .

                                                                                              وقوله : ( ذلك مال رابح ) ; المشهور : " رابح " بالباء بواحدة من الربح . ووصف المال بالرابح ; لأنه بسببه يربح ، كما قال تعالى : فما ربحت تجارتهم وهذا مذهب العرب في " لابن وتامر ; أي : ذو لبن وتمر ، كما قال النابغة :


                                                                                              كليني لهم يا أميمة ناصب . . . . . . . . . . .

                                                                                              أي : ذو نصب .

                                                                                              وقد روي : " رايح " ، بالياء باثنتين ، اسم فاعل من " راح " ، ومعناه : قربت الفائدة . وقيل : غير بعيد . وقال ابن دينار : يروح أجره عليه في الآخرة . وقال غيره : يروح عليه كلما أثمرت الثمار .

                                                                                              وفي هذا الحديث أبواب من الفقه :

                                                                                              منها : صحة الصدقة المطلقة ، والحبس المطلق ، وهو الذي لم يعين مصرفه ، وبعد هذا يعين .

                                                                                              ومنها : صحة الوكالة ; لقوله : ( ضعه حيث شئت ) .

                                                                                              [ ص: 43 ] ومنها : إطلاق لفظ الصدقة بمعنى الحبس .

                                                                                              وقد روي : أنها بقيت وقفا بأيدي بني عمه . وبه احتج غير واحد من العلماء على جواز تحبيس الأصول على الكوفيين . لكن قد روي من طريق صحيحة : أن حسان باع نصيبه من معاوية ، فقيل له : تبيع صدقة أبي طلحة ؟ فقال : ألا أبيع صاعا من تمر بصاع من دراهم ؟ وعلى هذا فلا يكون فيه ما يدل على صحة الوقف .

                                                                                              ومنها : مراعاة القرابة ، وإن بعدوا في النسب ; إذ بين أبي طلحة وحسان وأبي آباء كثيرة ، وإنما يجتمعان مع أبي طلحة في عمرو بن مالك بن النجار ، [وهو السابع من آبائهم . وقال أبو عمر : إن حسان يجتمع معه في حرام ] ، وهو الجد الثالث ، وأبي يجتمع معه في عمرو ، وهو الجد السابع ، إلى غير ذلك ، فتأمل ما فيه .




                                                                                              الخدمات العلمية