الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              (6) باب

                                                                                              الأمر بتنزيل الناس منازلهم ووجوب الكشف عمن له عيب من رواة الحديث

                                                                                              [ 6 ] عن عائشة ; أنها قالت : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننزل الناس منازلهم .

                                                                                              استدل به مسلم هكذا ولم يسنده ، وقد ذكره أبو داود في مصنفه ، وأبو بكر البزار في مسنده ، وقال : لا يعلم إلا من حديث ميمون بن أبي شبيب ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                              - وعن أبي عقيل يحيى بن المتوكل صاحب بهية ، قال : كنت جالسا عند القاسم بن عبيد الله ، ويحيى بن سعيد ، وقال يحيى للقاسم : يا أبا محمد ، إنه قبيح - على مثلك - عظيم أن تسأل عن شيء من أمر هذا الدين ، فلا يوجد عندك منه علم ولا فرج ، أو علم ولا مخرج . فقال له القاسم : وعم ذاك ؟ قال : لأنك ابن إمامي هدى ; ابن أبي بكر وعمر ، قال : يقول له القاسم : أقبح من ذلك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم ، أو آخذ عن غير ثقة ، قال : فسكت فما أجابه .

                                                                                              - وفي رواية : فقال له يحيى بن سعيد : إني لأعظم أن يكون مثلك - وأنت ابن إمامي الهدى ; يعني عمر وابن عمر - تسأل عن أمر ليس عندك فيه علم ، فقال : أعظم من ذلك عند الله ، وعند من عقل عن الله ، أن أقول بغير علم ، أو آخذ عن غير ثقة .

                                                                                              - وقال يحيى بن سعيد القطان : لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث .

                                                                                              قال مسلم : يقول : يجري الكذب على لسانهم ، ولا يتعمدون الكذب .

                                                                                              - وقال أبو الزناد : أدركت بالمدينة مائة ، كلهم مأمون ، ما يؤخذ عنهم الحديث ، يقال : ليس من أهله .

                                                                                              - وقال يحيى بن سعيد : سألت سفيان الثوري ، وشعبة ، ومالكا ، وابن عيينة ، عن الرجل لا يكون ثبتا في الحديث ، فيأتيني الرجل فيسألني عنه ؟ فقالوا : أخبر عنه أنه ليس بثبت .

                                                                                              - وذكر مسلم عن جماعة كثيرة من السلف كابن المبارك ، والشعبي ، وإبراهيم النخعي ، وأيوب السختياني ، وغيرهم : التنصيص على عيوب أقوام بأعيانهم ، وذكر كذب بعضهم ، والتحذير عن الرواية عنهم : بابا طويلا قال في آخره : وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث ، وناقلي الأخبار ، وأفتوا بذلك حين سئلوا ، لما فيه من عظيم الخطر ; إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل أو تحريم ، أو أمر أو نهي ، أو ترغيب أو ترهيب ; فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن الصدق والأمانة ، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه ، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته : كان آثما بفعله ذلك ، غاشا لعوام المسلمين ; إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها ، أو يستعمل بعضها ، ولعلها أو أكثرها أحاديث أكاذيب لا أصل لها .

                                                                                              فهذا الباب ما ذكره في صدر كتابه .

                                                                                              رواه مسلم ( 1 \ 6 - المقدمة ) ، وأبو داود ( 4842 ) مرفوعا من قوله صلى الله عليه وسلم - بلفظ : " أنزلوا الناس منازلهم " وفيه انقطاع .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (6) ومن باب : الأمر بتنزيل الناس منازلهم ووجوب الكشف عمن له عيب من رواة الحديث

                                                                                              (قول عائشة - رضي الله عنها - : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننزل الناس منازلهم ") . استدلال مسلم بهذا الحديث يدل ظاهرا على أنه لا بأس به ، وأنه مما يحتج به عنده ، وإنما لم يسنده في كتابه ; لأنه ليس على شرط كتابه .

                                                                                              وقد أسنده أبو بكر البزار في مسنده ، عن ميمون بن أبي شبيب ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : لا يعلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه ، وقد روي عن عائشة من غير هذا الوجه موقوفا .

                                                                                              وقد ذكره أبو داود في " مصنفه " ، فقال : حدثنا إسماعيل بن أبي خلف ; أن يحيى بن يمان أخبرهم ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ميمون بن [ ص: 126 ] أبي شبيب ; أن عائشة مر بها سائل فأعطته كسرة ، ومر بها رجل عليه ثياب زاهية ، فأقعدته فأكل ، فقيل لها في ذلك ، فقالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنزلوا الناس منازلهم " . قال ابن الأعرابي : قال أبو داود : ميمون لم ير عائشة .

                                                                                              قال المؤلف رحمه الله تعالى : وعلى هذا ، فالحديث منقطع ; فقد ظهر لأبي داود من هذا الحديث ما لم يظهر لمسلم ، ولو ظهر له ذلك ، لما جاز له أن يستدل به ، إلا أن يكون يعمل بالمراسيل ، والله أعلم أن مسلما إنما قال : وذكر عن عائشة ، وهو مشعر بضعفه ، وأنه لم يكن عنده مما يعتمده .

                                                                                              [ ص: 127 ] ومعنى هذا الحديث : الحض على مراعاة مقادير الناس ، ومراتبهم ، ومناصبهم ، فيعامل كل أحد منهم بما يليق بحاله ، وبما يلائم منصبه في الدين والعلم والشرف والمرتبة ; فإن الله تعالى قد رتب عبيده وخلقه ، وأعطى كل ذي حق حقه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " .

                                                                                              و " أبو عقيل " هو : بفتح العين وكسر القاف ، واسمه : يحيى بن المتوكل ; كما ذكره في الأصل .

                                                                                              " وبهية " بضم الباء ، وفتح الهاء ، وما بعدها ، تصغير بهية ، وهي امرأة كانت تروي عن عائشة أم المؤمنين ، وهي التي سمتها بهذا الاسم ، وكان هذا أبو عقيل قد روى عنها ، وعرف بها ; فنسب إلى صحبتها ، وقد خرج عنها أبو داود .

                                                                                              و (قول يحيى بن سعيد الأنصاري للقاسم : " إنك ابن أبي بكر وعمر ") إنما صحت النسبتان على القاسم ; لأن أباه هو عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، وأمه هي ابنة القاسم بن محمد بن أبي بكر ، وباسم جده هذا ، كان يكنى ; فـ " عمر " جده لأبيه الأعلى ، و " أبو بكر " جده لأمه ; فصدقت عليه النسبتان .

                                                                                              و (قول يحيى القطان : " لم ير أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث ") يعني به : الغلط والخطأ ; كما فسره مسلم . وسبب هذا : أن أهل الخير هؤلاء المعنيين غلبت عليهم العبادة ، فاشتغلوا بها عن الرواية ، فنسوا الحديث ، ثم إنهم [ ص: 128 ] تعرضوا للحديث فغلطوا ، أو كثر عليهم الوهم فترك حديثهم ، كما اتفق للعمري ، وفرقد السبخي ، وغيرهما .

                                                                                              و (قول أبي الزناد : " أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ") يعني : أنهم كانوا موثوقا بهم في دينهم وأمانتهم ، غير أنهم لم يكونوا حفاظا للحديث ، ولا متقنين لروايته ، ولا متحرزين فيه ; فلم تكن لهم أهلية الأخذ عنهم ، وإن كانوا قد تعاطوا الحديث والرواية .

                                                                                              [ ص: 129 ] وفتيا سفيان ومن بعده هي التي يجب العمل بها . ولا يختلف المسلمون في ذلك ; كما ذكره مسلم بعد هذا وأوضحه .

                                                                                              وحاصله أن ذكر مساوئ الراوي والشاهد القادحة في عدالتهما وفي روايتهما : أمر ضروري ; فيجب ذلك ; فإنه إن لم يفعل ذلك ، قبل خبر الكذاب ، وشهادة الفاسق ، وغش المسلمون ، وفسدت الدنيا والدين . ولا يلتفت لقول غبي جاهل يقول : ذلك غيبة ; لأنها وإن كانت من جنس الغيبة ، فهي واجبة بالأدلة القاطعة ، والبراهين الصادعة ; فهي مستثناة من تلك القواعد ; للضرورة الداعية .




                                                                                              الخدمات العلمية