الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2371 [ 1190 ] وعن عطاء قال: لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام، فكان من أمره ما كان ، تركه ابن الزبير، حتى قدم الناس الموسم ، يريد أن يجرئهم، أو يحزبهم على أهل الشام ، فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس أشيروا علي في الكعبة أنقضها، ثم أبني بناءها، أو أصلح ما وهى منها؟ فقال ابن عباس: فإني قد فرق لي رأي فيها ، أرى أن تصلح ما وهى منها ، وتدع بيتا أسلم الناس عليه ، وأحجارا أسلم الناس عليها، وبعث عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجده ، فكيف ببيت ربكم ، إني مستخير ربي ثلاثا، ثم عازم على أمري ، فلما مضت ثلاث أجمع رأيه أن ينقضها ، فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء ، حتى صعده رجل فألقى منه حجارة ، فلما لم يره الناس أصابه شيء ، تتابعوا فنقضوه ، حتى بلغوا به الأرض ، فجعل ابن الزبير أعمدة ، فستر عليها الستور ، حتى ارتفع بناؤه . وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة تقول: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر ، وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه لكنت أدخلت من الحجر خمس أذرع ، ولجعلت لها بابا يدخل الناس منه ، وبابا يخرجون منه . قال: فأنا اليوم أجد ما أنفق ، ولست أخاف الناس. قال: فزاد فيه خمس أذرع من الحجر ، حتى أبدى أسا نظر الناس إليه ، فبنى عليه البناء ، وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعا ، فلما زاد فيه استقصره ، فزاد في طوله عشر أذرع ، وجعل له بابين: أحدهما يدخل منه ، والآخر يخرج منه. قال : فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك ، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة ، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء ، أما ما زاد في طوله فأقره ، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه. وسد الباب الذي فتحه . فنقضه وأعاده إلى بنائه .

                                                                                              وفي رواية : قال عبد الملك: ما أظن

                                                                                              أبا خبيب (يعني ابن الزبير) سمع من عائشة ما كان زعم أنه سمعه منها. قال الحارث بن عبد الله : بلى أنا سمعته منها. قال: سمعتها تقول: ماذا؟ قال: قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن قومك استقصروا من بنيان البيت ، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه ، فإن بدا لقومك من بعدك أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه. فأراها قريبا من سبع أذرع.

                                                                                              وفي أخرى : فقال عبد الملك : لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير.


                                                                                              رواه أحمد ( 6/ 239) والبخاري (1586)، ومسلم (1333) ( 402 و 403 و 404)، والنسائي ( 5/ 261).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقوله : (يريد أن يجرئهم - أو يحزبهم -) ; الأول : من الجرأة ، وهي الشجاعة . والثاني من التحزيب ، وهو التجميع. هكذا لابن سعيد ، والفارسي ، وغيرهما . ومعنى ذلك : أنه أراد أن يشجعهم أو يجمعهم على أهل الشام بإظهار قبح أفعالهم في الكعبة . وروى العذري الحرف الأول : (يجربهم) بالباء بواحدة ; من التجربة ; أي : يختبر ما عندهم من الغضب لله تعالى ، ولنبيه. وقيد كافتهم الحرف الثاني : (يحربهم) بالحاء والراء المهملتين ، والباء بواحدة ; من التحريب ، وهو : التغضيب . يقال : حربت الأسد . وأسد محرب ; أي : أغضبته ، فهو مغضب .

                                                                                              [ ص: 437 ] وقول ابن عباس : ( إنه فرق لي فيها رأي ) ; أي : انكشف واتضح . ومنه قوله تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث [الإسراء: 106] ; أي : أوضحناه ، وكشفنا معانيه. و ( وهى ) : ضعف ورث . و ( أجمع رأيه ) - رباعيا - : عزم ، وأمضى . فأما : جمع - ثلاثيا - : فضد التفريق . و ( تحاماه الناس ) ; أي : امتنعوا من نقض البيت خوفا وهيبة . و ( تتابعوا ) كافة الرواة على الباء بواحدة من التتابع . وهو الجيد هنا . وضبطه أبو بحر بالياء باثنتين من تحتها ، ومعناهما واحد ، غير أن : التتايع - بالياء ، باثنتين - أكثره في الشر .

                                                                                              وقوله : ( فجعل ابن الزبير أعمدة فستر عليها الستور ) ; إنما فعل ذلك ابن الزبير لاستقبال المستقبلين ، وطواف الطائفين ، ولأن ابن عباس قال : (إن كنت هادمها فلا تدع الناس لا قبلة لهم. وهذا يدل على أن بقعة البيت ما كانت تتنزل عندهما منزلة البيت ، وقد خالفهما في ذلك جابر وقال : صلوا إلى موضعها. وقد ذكرنا الخلاف بين الفقهاء في ذلك . وما فعله عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- في [ ص: 438 ] البيت كان صوابا وحقا . وقبح الله الحجاج ، وعبد الملك ، لقد جهلا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واجترأا على بيت الله وعلى أوليائه .

                                                                                              و ( التلطيخ ) : التلويث والتقذير . يقال : لطخت فلانا بأمر قبيح : إذا رماه به . ورجل لطيخ ; أي : قذر . أراد بذلك العيب لفعله . وهو المعاب .

                                                                                              وقوله : ( ثم أعاده إلى بنائه ) ; يعني : البناء الأول المتقدم على بناء ابن الزبير . وهو الذي عليه الآن . وقد كان الرشيد أراد أن يرده على ما بناه ابن الزبير ، فقال له مالك : نشدتك الله يا أمير المؤمنين ! ألا تجعل هذا البيت [ ص: 439 ] ملعبة للملوك ; لا يشاء أحد إلا نقض البيت وبناه ، فتذهب هيبته من صدور الناس . فترك ما هم به ، واستحسن الناس هذا من مالك ، وعملوا عليه ، فصار هذا كالإجماع . على أنه لا يجوز التعرض له بهد أو تغيير . والله أعلم .

                                                                                              وقوله : ( فأراها قريبا من سبع أذرع ) ; هذا ليس مخالفا لما تقدم من خمس أذرع ; لأن هذا تقدير ، وذكر الخمس تحقيق .

                                                                                              وقول عبد الملك : ( لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير ) ; تصريح منه بجهله بالسنة الواردة في ذلك ، وهو غير معذور في ذلك ; فإنه كان متمكنا من التثبت في ذلك ، والسؤال ، والبحث ، فلم يفعل ; واستعجل ، وقصر . فالله حسيبه ، ومجازيه على ذلك .




                                                                                              الخدمات العلمية