الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2375 (49) باب

                                                                                              الحج عن المعضوب والصبي

                                                                                              [ 1193 ] عن عبد الله بن عباس قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه ، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه ، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر قالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه؟ قال: " نعم" وذلك في حجة الوداع.

                                                                                              وفي رواية : قالت: يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فحجي عنه" .

                                                                                              رواه أحمد ( 1 \ 36 ) والبخاري ( 1513)، ومسلم (133) و (1335)، وأبو داود (1809)، والنسائي ( 5 \ 118)، وابن ماجه (2909).

                                                                                              [ ص: 441 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 441 ] (49) ومن باب: الحج عن المعضوب

                                                                                              قوله : ( فجعل الفضل ينظر إليها ، وتنظر إليه ) ; هذا النظر منهما بمقتضى الطباع ; فإنها مجبولة على الميل إلى الصور الحسنة . ولذلك قال في رواية : (وكان الفضل أبيض وسيما) ; أي : جميلا . و (صرف النبي - صلى الله عليه وسلم - وجه الفضل إلى الشق الآخر) ; منع له من مقتضى الطبع ، ورد له إلى مقتضى الشرع .

                                                                                              وفيه دليل : على أن المرأة تكشف وجهها في الإحرام ، وأنها لا يجب عليها ستره وإن خيف منها الفتنة ، لكنها تندب إلى ذلك ، بخلاف أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الحجاب عليهن كان فريضة .

                                                                                              وقولها : ( إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا ، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ) ; هذا هو المسمى بالمعضوب . والعضب : القطع . وبه سمي السيف : عضبا ، وكأن من انتهى إلى هذه الحالة قطعت أعضاؤه ; إذ لا يقدر على شيء . وقد [ ص: 442 ] بينته في الرواية الأخرى بقولها : (لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره . فبمجموع الروايتين يحصل : أنه لا يقدر على الاستواء على الراحلة ، ولو استوى لم يثبت عليها .

                                                                                              وقولها : ( أدركت أبي ) ، وفي الرواية الأخرى : ( عليه فريضة الله في الحج ) ; ظاهر في أن من لم يستطع الحج بنفسه أنه يخاطب به . وبهذا الظاهر أخذ الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو حنيفة ، والجمهور على تفصيل لهم يأتي إن شاء الله تعالى . وخالفهم في ذلك مالك وأصحابه ، ورأوا : أن هذا الظاهر مخالف لقوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [آل عمران: 97] فإن الأصل في الاستطاعة إنما هي القوة بالبدن . ومنه قوله تعالى : فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا [الكهف: 97] ; أي : ما قدروا ، ولا قووا . وبالجملة : فإذا قال القائل : فلان مستطيع ، أو غير مستطيع . فالظاهر منه السابق إلى الفهم : نفي القدرة أو إثباتها ، فلما عارض ظاهر الحديث ظاهر القرآن رجح مالك رحمه الله ظاهر القرآن . وهو مرجح بلا شك من أوجه : منها : أنه مقطوع بتواتره . ومنها : أن هذا القول إنما هو قول المرأة على ما ظنت. ثم إنه يحتمل أن يكون معنى : (أدركت أبي) : أن الحج فرض وأبوها حي على تلك الحالة الموصوفة .

                                                                                              قلت : وهذا التأويل ، وإن قبله قولها : (أدركت) . فلا يقبله قولها في الرواية الأخرى : (عليه فريضة الحج) . لكن هذا كله منها ظن وحسبان ، ولا حجة في شيء من ذلك ، فإنها ظنت الأمر على خلاف ما هو عليه . ولا يقال : فقد أجابها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سؤالها ، ولو كان سؤالها غلطا لما أجابها عليه ، ولبينه لها ، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز ، لأنا نقول : إنه لم يجبها على هذا القول ، بل على قولها : (أفأحج عنه؟) فقال لها : (نعم) . أو : (فحجي عنه) على اختلاف [ ص: 443 ] الرواية ، وإنما قال لها ذلك لما رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأبيها ، فأجابها إلى ذلك . كما قال للأخرى التي قالت : إن أمي نذرت أن تحج ، فلم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها؟ فقال : (حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته عنها ؟) قالت : نعم ; ففي هذا ما يدل على أنه من باب التطوعات ، وإيصال الخير والبر للأموات . ألا ترى أنه قد شبه فعل الحج بالدين؟! وبالإجماع : لو مات ميت وعليه دين لم يجب على وليه قضاؤه من ماله ، فإن تطوع بذلك تأدى الدين عنه . ولا يبعد في كرم الله وفضله إذا حج الولي عن الميت الصرورة أن يعفو الله عن الميت بذلك ، ويثيبه عليه ، أو لا يطالبه بتفريطه . وقد تقدم الكلام على هذا المعنى في الصوم . ولم يتعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - لقولها ; لأنه فهم أن مرادها الاحتمال الذي قدمناه . والله تعالى أعلم .

                                                                                              قلت : وقد قال بعض أصحابنا - وهو أبو عمر بن عبد البر - : حديث الخثعمية عند مالك وأصحابه مخصوص بها . وقال آخرون : فيه اضطراب . قلت : وفي هذين القولين بعد . والصحيح ما قدمته . والله أعلم .

                                                                                              وقد قال بعض أصحابنا بموجب حديث الخثعمية فقال : لا تجوز النيابة في الحج إلا للابن عن أبيه خاصة . وفي هذا الحديث رد على الحسن بن حيي حيث قال : لا يجوز حج المرأة عن الرجل .

                                                                                              وقد اختلف العلماء في النيابة في الحج قديما وحديثا . فحكي عن النخعي [ ص: 444 ] وبعض السلف : لا يحج أحد عن أحد جملة من غير تفصيل . وحكي مثله عن مالك . وقال جمهور الفقهاء : يجوز أن يحج عن الميت ، عن فرضه ، ونذره ، وإن لم يوص به ، ويجزئ عنه . واختلف قول الشافعي - رحمه الله - في الإجزاء عن الفرض . ومذهب مالك ، والليث ، والحسن بن حيي : أنه لا يحج أحد عن أحد إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام ، ولا ينوب عن فرضه . قال مالك : إذا أوصى به . وكذلك عنده يتطوع بالحج عن الميت إذا أوصى به . وأجاز أبو حنيفة ، والثوري وصية الصحيح بالحج عنه تطوعا . وروي مثله عن مالك .

                                                                                              وسبب الخلاف في هذه المسألة : ما قد أشرنا إليه من معارضة الظواهر بعضها بعضا ، ومعارضة القياس لتلك الظواهر ، واختلافهم في تصحيح حديثي جابر وابن عباس . فأما حديث جابر : فخرجه عبد الرزاق قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله يدخل بالحجة الواحدة ثلاثة الجنة : الميت ، والحاج ، والمنفذ لذلك ) . في إسناده أبو معشر ; نجيح ، وأكثر الناس يضعفه ، ومع ضعفه يكتب حديثه .

                                                                                              وأما حديث ابن عباس : فخرجه أبو داود . قال فيه : سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا يقول : لبيك عن شبرمة . فقال : (من شبرمة ؟) قال : أخ لي ، أو قريب لي . فقال : (حججت عن نفسك ؟) قال : لا . قال : (حج عن نفسك ، ثم حج عن شبرمة ) . علله بعضهم : بأنه قد روي موقوفا ، والذي أسنده ثقة . وقد قال سفيان ، والحسن بن علي : لا يحج في الوصية بالحج من لم يحج عن نفسه ، أخذا بحديث [ ص: 445 ] شبرمة هذا . وقاله الشافعي فيمن حج عن ميت . وقال غير من ذكر : بجواز ذلك ، وإن كان الأولى هو الأول .

                                                                                              والجمهور على كراهية الإجارة في الحج . وقال أبو حنيفة : لا تجوز . وقال مالك والشافعي - في أحد قوليه - : لا تجوز ، فإن وقع مضى . وقال بعض أصحابنا بجواز ذلك ابتداء .




                                                                                              الخدمات العلمية