الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2426 [ 1220 ] وعن عامر بن سعد، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها . وقال: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، .......... لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه ، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة .

                                                                                              وفي رواية : "ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء.

                                                                                              رواه أحمد ( 1 \ 169 )، ومسلم (1363).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقوله " إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها ، أو يقتل صيدها " ، اللابة : الأرض ذات الحجارة ، وهي الحرة ، وجمعها في القلة : لابات ، وفي الكثرة : لاب ، ولوب . كـ (قارة) و (قور) و (ساحة) و (سوح) و (باحة) و (بوح) ، قاله ابن الأنباري . اللابتان : الحرتان الشرقية والغربية ، وللمدينة لابتان في القبلة والجرف ، وترجع إليهما الشرقية والغربية ، قال الهروي : [ ص: 481 ] يقال : ما بين لابتيها أجهل من فلان ; أي : ما بين طرفيها - يعني المدينة .

                                                                                              وهذا الحديث نص في تحريم صيد المدينة وقطع شجرها ، وهو حجة للجمهور على أبي حنيفة وأصحابه في إباحة ذلك ، وإنكارهم على من قال بتحريم المدينة بناء منهم على أصلهم في ردهم أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى ، وقد تكلمنا معهم في هذا الأصل في باب أحداث الوضوء ، ولو سلم لهم ذلك جدلا فتحريم المدينة قد انتشر عند أهل المدينة والمحدثين وناقلي الأخبار حتى صار ذلك معلوما عندهم بحيث لا يشكون فيه ، والذي قصر بأبي حنيفة وأصحابه في ذلك قلة اشتغالهم بالحديث ونقل الأخبار ، وإلا فما الفرق بين الأحاديث الشاهدة بتحريم مكة وبين الشاهدة بتحريم المدينة في الشهرة ، ولو بحثوا عنها، وأمعنوا فيه حصل لهم منها مثل الحاصل لهم من أحاديث مكة .

                                                                                              والجمهور على أن صيدها لا جزاء فيه ; لعدم النص في ذلك ، ولم يتحققوا جامعا بين الصيدين فلم يلحقوه به ، وقد قال بوجوب الجزاء فيه ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى وابن نافع من أصحابنا ، واختلف قول الشافعي في ذلك . فأما الشجر : فيحرم قطعه منها أيضا ، وهو محمول على مثل ما حمل عليه شجر مكة ، وهو ما لم يعالج إنباته الآدمي ، ويدل على صحة ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع نخل المسجد ، وقد ذكر ابن نافع عن مالك أنه قال : إنما نهي عن قطع شجر المدينة لئلا تتوحش وليبقى فيها شجرها ; ليستأنس ويستظل به من هاجر إليها .

                                                                                              قلت : وعلى هذا فلا يقطع منها نخل ولا غيره ، وحينئذ تزول خصوصية ذكر العضاه وهو شجر البادية الذي ينبت لا بصنع آدمي ، والأول أولى ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              وقوله " والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " ; يعني : للمرتحلين عنها إلى [ ص: 482 ] غيرها ، ويفسر هذا حديث سفيان بن زهير الآتي بعد هذا إن شاء الله تعالى .

                                                                                              وقوله " لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل فيها من هو خير منه . . . " إلى آخر الحديث ، " رغبة عنها " أي كراهية لها ، يقال : رغبت في الشيء - أحببته ، ورغبت عنه : كرهته .

                                                                                              وفي معنى هذا الحديث قولان ;

                                                                                              أحدهما: أن ذلك مخصوص بمدة حياته .

                                                                                              والثاني : أنه دائم أبدا .

                                                                                              ويشهد له قوله في حديث آخر " يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء ! والمدينة خير لهم " ، وذكر ما تقدم.

                                                                                              وقوله " لا يثبت أحد على لأوائها وشدتها " ، اللأواء - ممدود : هو الجوع وشدة الكسب فيها والمشقات . ويحتمل أن يعود الضمير في " شدتها " على اللأواء فإنها مؤنثة ، وعلى المدينة ، والأول أقرب .

                                                                                              وقوله " إلا كنت له شفيعا أو شهيدا " ، زعم قوم أن " أو " هنا شك من بعض الرواة وليس بصحيح ، فإنه قد رواه جماعة من الصحابة ومن الرواة كذلك على لفظ واحد ، ولو كان شكا لاستحال أن يتفق الكل عليه ، وإنما " أو " هنا للتقسيم والتنويع ، كما قال الشاعر :


                                                                                              فقالوا لنا ثنتان لا بد منهما صدور رماح أشرعت أو سلاسل

                                                                                              ويكون المعنى : إن الصابر على شدة المدينة صنفان ; من يشفع له النبي - صلى الله عليه وسلم – [ ص: 483 ] من العصاة ، ومن يشهد له بما نال فيها من الشدة ليوفى أجره . وشفاعته - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت عامة للعصاة من أمته إلا أن العصاة من أهل المدينة لهم زيادة خصوص منها ، وذلك - والله تعالى أعلم - بأن يشفع لهم قبل أن يعذبوا بخلاف غيرهم ، أو يشفع في ترفيع درجاتهم أو في السبق إلى الجنة ، أو فيما شاء الله من ذلك .

                                                                                              وقوله " ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار " ، ظاهر هذا أن الله يعاقبه بذلك في النار ، ويحتمل أن يكون ذلك كناية عن إهلاكه في الدنيا أو عن توهين أمره وطمس كلمته كما قد فعل الله ذلك بمن غزاها، وقاتل أهلها فيمن تقدم ; كمسلم بن عقبة إذ أهلكه الله منصرفه عنها ، وكإهلاك يزيد بن معاوية إثر إغزائه أهل المدينة ، إلى غير ذلك .




                                                                                              الخدمات العلمية