الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3296 (8) باب

                                                                                              لا يستحق القاتل السلب بنفس القتل

                                                                                              [ 1271 ] عن عبد الرحمن بن عوف قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر ، نظرت عن يميني وشمالي ، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار ، حديثة أسنانهما ، تمنيت لو كنت بين أضلع منهما ، فغمزني أحدهما فقال: يا عم ، هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت: نعم ، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا ، قال: فتعجبت لذلك ، فغمزني الآخر فقال مثلها ، قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس ، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه ، قال: فابتدراه ، فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه ، ثم انصرفا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبراه فقال: أيكما قتله؟. فقال كل واحد منهما: أنا قتلته ، فقال: هل مسحتما سيفيكما؟. قالا: لا ، فنظر في السيفين فقال: كلاكما قتله. وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ، والرجلان: معاذ بن عمرو بن الجموح ، ومعاذ بن عفراء .

                                                                                              رواه أحمد ( 1 \ 192 - 193) والبخاري (3141)، ومسلم (1752).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (8) ومن باب: لا يستحق القاتل السلب بنفس القتل

                                                                                              قوله : ( تمنيت لو كنت بين أضلع منهما ) ; كذا الرواية ، بالضاد المعجمة ، والعين المهملة ، ووقع في بعض روايات البخاري : (أصلح) بالحاء ، والصاد ، مهملتين ، من الصلاح ، والأول أصوب . ومعنى (أضلع) : أقوى ، والضلاعة : [ ص: 548 ] القوة . ومنه قولهم : هل يدرك الظالع شأو الضليع - بالضاد - ; أي : القوي ، والظالع - بالظاء المشالة - : هو الذي أصابه الظلع ، وهو ألم يأخذ الدابة في بعض قوائمها . وكأنه استضعفهما لصغر أسنانهما.

                                                                                              وقوله : ( لا يفارق سوادي سواده ) ; أي : شخصي شخصه . وأصله : أن الشخص يرى على البعد أسود . والله تعالى أعلم .

                                                                                              وقوله : ( حتى يموت الأعجل منا ) ; أي : الأقرب أجلا ، وهو كلام مستعمل يفهم منه : أنه يلازمه ، ولا يتركه إلى وقوع الموت بأحدهما . وصدور مثل هذا الكلام في حالة الغضب والانزعاج يدل على صحة العقل ، وثبوت الفهم ، والتثبت العظيم في النظر في العواقب ; فإن مقتضى الغضب أن يقول : حتى أقتله ; لكن العاقبة مجهولة .

                                                                                              وقوله : ( فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس ) ; معنى لم أنشب : لم أشتغل بشيء . وهو من : نشب بالشيء ; إذا دخل فيه ، وتعلق به . و (يزول) ; أي : يجول ويضطرب في المواضع ، ولا يستقر على حال . وهو فعل من يعبئ الناس ، ويحرضهم . أو فعل من أخذه الزويل ، وهو : الفزع والقلق . والأول أولى ; لرواية ابن ماهان لهذا الحرف : (يجول) بالجيم .

                                                                                              [ ص: 549 ] وقوله : ( هل مسحتما سيفيكما ؟ قالا : لا ، فنظر في السيفين فقال : كلاكما قتله ) ; هذا يدل على: أن للإمام أن ينظر في شواهد الأحوال ليترجح عنده قول أحد المتداعيين ، وذلك أن سؤاله عن مسح السيفين إنما كان لينظر إن كان تعلق بأحدهما من أثر الطعام أو الدم ما لم يتعلق بالآخر ، فيقضي له ، فلما رأى تساوي سيفيهما في ذلك قال : ( كلاكما قتله ) ، ومع ذلك فقضى بالسلب لأحدهما ، فكان ذلك أدل دليل على صحة ما قدمناه من مذهب مالك ، وأبي حنيفة . وقد اعتذر المخالفون عن هذا الحديث بأوجه :

                                                                                              منها : أن هذا منسوخ بما قاله يوم حنين . وهو فاسد لوجهين :

                                                                                              أحدهما : أن الجمع بينهما ممكن . كما قدمناه ، فلا نسخ .

                                                                                              والثاني : أنه قد روى أهل السير وغيرهم : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر : ( من قتل قتيلا فله سلبه ) ; كما قال يوم حنين . وغايته : أن يكون من باب تخصيص العموم على ما قلناه .

                                                                                              ومنها : أن بعض الشافعية قال : إنما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ; لأنه استطاب نفس أحدهما . وهذا كلام غير محصل ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيب الأنفس بما لا يحل . ثم كيف يستطيب نفس هذا بإفساد قلب الآخر ؟ هذا مما لا يليق بذوي المروءات ، فكيف بخاتم النبوات ؟!

                                                                                              ومنها : أنه لعله أن يكون رأى على سيف أحدهما من الأثر ما لم ير على الآخر ، فأعطاه السلب لذلك ، وقال : ( كلاكما قتله ) تطييبا لقلب الآخر. وهذا [ ص: 550 ] يبطله قوله : ( كلاكما قتله ) . والقتل هو السبب عند القائل . وظاهره التسوية في القتل ; فإن القائل إذا قال لمخاطبيه : كلاكما قال ، أو كلاكما خرج ، فظاهره المشاركة فيما نسب إليهما . ثم يلزم هذا القائل أن يجوز على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التورية في الأحكام . والقول بذلك باطل ، وحرام .

                                                                                              وقوله : ( والرجلان : معاذ بن عمرو بن الجموح ، ومعاذ بن عفراء ) ; هكذا الصحيح ، وقد جاء في البخاري من حديث ابن مسعود : أن ابني عفراء ضرباه حتى برك . وكأن هذا وهم من بعض الرواة لحديث ابن مسعود . وسبب هذا الوهم : أن عفراء هذه من بني النجار ، أسلمت وبايعت ، وكان أولادها سبعة ، كلهم شهد بدرا ، وكانت عند الحارث بن رفاعة ، فولدت له : معاذا ، ومعوذا ، ثم طلقها ، فتزوجها بكير بن عبد ياليل ، فولدت له : خالدا ، وإياسا ، وعاقلا ، وعامرا ، ثم راجعها الحارث ، فولدت له عوفا ، فشهدوا كلهم بدرا . فكأنه التبس على بعض الرواة معاذ بن عمرو بن الجموح بمعاذ بن عفراء وبمعوذ بن عفراء عند السكوت عن ذكر عمرو والد معاذ . والله تعالى أعلم .

                                                                                              وفي البخاري ومسلم : أن ابن مسعود هو الذي أجهز على أبي جهل [ ص: 551 ] واحتز رأسه بعد أن جرى له معه كلام سيأتي إن شاء الله تعالى .




                                                                                              الخدمات العلمية