الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3314 [ 1286 ] وعن أبي سعيد قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ ، فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى سعد ، فأتاه على حمار ، فلما دنا قريبا من المسجد ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للأنصار: " قوموا إلى سيدكم ، (أو خيركم)" ، ثم قال: "إن هؤلاء نزلوا على حكمك". قال: تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذريتهم. قال: فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: "قضيت بحكم الله". ......... وربما قال: "قضيت بحكم الملك".

                                                                                              وفي رواية : "لقد حكمت بحكم الله" .

                                                                                              رواه أحمد (3 \ 22 و 71) والبخاري (3043) و (4122)، ومسلم (1768) (64)، وأبو داود (5215) و (5216).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقوله : ( قوموا لسيدكم أو خيركم ) ; استدل بهذا من قال بجواز القيام للفضلاء ، والعلماء ، إكراما لهم ، واحتراما . وإليه مال عياض ، وقال : إنما القيام المنهي عنه : أن يقام عليه وهو جالس ، وهو الذي أنكره النبي -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه ، حيث صلوا قياما وهو قاعد للخدش الذي أصابه ، فقال لهم : (ما لكم تفعلون فعل [ ص: 593 ] فارس والروم ، يقومون على ملوكهم وهم قعود) . وعليه حمل قول عمر بن عبد العزيز : إن تقوموا نقم ، وإن تقعدوا نقعد ، وإنما يقوم الناس لرب العالمين . وقد رويت لعبد الملك جواز قيام الرجل لوالديه ، والزوجة لزوجها . ومذهب مالك : كراهية القيام لأحد مطلقا . واستدل له على ذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم- : (من سره أن يتمثل له الناس قياما ، فليتبوأ مقعده من النار) . وعليه حمل قول عمر بن عبد العزيز . وقد جاء في كتاب أبي داود مرفوعا : (لا تقوموا كما تقوم الأعاجم ، يعظم بعضهم بعضا) . ويعتضد هذا : بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يقم له أحد ، ولا يقوم هو لأحد . هذا هو المنقول من سيرته ، وعليه درج الخلفاء رضوان الله عليهم ، ولو كان القيام لأحد من العظماء مشروعا ، لكان أحق الناس بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه . ولم فلا .

                                                                                              وتأول بعض أصحابنا حديث : ( قوموا إلى سيدكم ) على أن ذلك مخصوص بسعد ، لما تقتضيه تلك الحال المعينة. وقال بعضهم : إنما أمرهم بالقيام له لينزلوه عن الحمار لمرضه ، وفيه بعد . والله تعالى أعلم .

                                                                                              واختلف تأويل الصحابة فيمن عنى النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك ; هل الأنصار خاصة ، أو جميع من حضر من المهاجرين والأنصار ؟ وعلى الجملة : فهي قضية معينة ، محتملة ، والتمسك بالقاعدة المقررة أولى . والله تعالى أعلم.

                                                                                              والسيد : المتقدم على قومه بما فيه من الخصال الحميدة .

                                                                                              [ ص: 594 ] وقوله : ( أو خيركم ) ; على جهة الشك من الراوي ، وفي بعض طرقه في غير كتاب مسلم : ( قوموا إلى سيدكم ) من غير شك .

                                                                                              وقوله -صلى الله عليه وسلم- : ( إن هؤلاء نزلوا على حكمك ) ; إنما قال له هذا بعد أن رد له الحكم ، كما قال في الرواية المتقدمة .

                                                                                              وقوله : ( إني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة ، وتسبى الذرية ، وتقسم الأموال ) ; إنما حكم فيهم بذلك لعظيم جناياتهم ، وذلك : أنهم نقضوا ما بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- من العهد ، ومالؤوا عليه قريشا ، وقاتلوه ، وسبوه أقبح سب ، فاستحقوا ذلك- لعنهم الله- ، فلما حكم فيهم سعد بذلك ، أخبره بأنه قد أصاب فيهم حكم الله ، تنويها به ، وإخبارا بفضيلته ، وانشراح صدره ، وردعا للقوم الذين سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أن يتركهم ، وأن يحسن فيهم ، فإنهم كانوا حلفاءهم ، فلما جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حكمهم إلى سعد انطلق مواليهم إلى سعد ، فكلموه في ذلك ، وقالوا له : أحسن في مواليك ، فلما أكثروا عليه ، قال : أما إنه قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم . فلما سمعوا ذلك يئسوا مما طلبوا ، وعزى بعضهم بعضا في بني قريظة . ومن هاهنا تظهر خصوصية سعد بقوله : ( قوموا إلى سيدكم ) ، وإن الأولى أنه إنما قال ذلك لقومه خاصة دون غيرهم ; لأن قومه كلهم مالوا إلى إبقاء بني قريظة ، والعفو عنهم ، إلا ما كان منه رضي الله عنه لا جرم لما مات اهتز له عرش الرحمن. وسيأتي بيان معناه ، إن شاء الله تعالى . وفيه دليل لمذهب مالك في تصويب أحد المجتهدين ، وإن لله في الواقع حكما معينا ، فمن أصابه [ ص: 595 ] فهو المصيب ، ومن لم يصبه ، فهو المخطئ ، لكنه لا إثم عليه إذا اجتهد . وقد تقدم هذا المعنى . وغاية ما في هذا الحديث : أن بعض الوقائع فيها حكم معين لله ، لكن من أين يلزم منه أن يكون حكم كل واقعة كذلك ؟ بل يقال : إنها منقسمة إلى ما لله فيه حكم معين ، ومنها ما ليس لله فيه ذلك ، وتكميل ذلك في علم الأصول .

                                                                                              وقوله : ( لقد قضيت بحكم الملك ) ; الرواية بكسر اللام ، وهو الله تعالى . وكذلك الرواية الأخرى : (بحكم الله) ، وفي غير كتاب مسلم : (لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع أرقعة) ، وهي السماوات ، وهو جمع رقيع ، كرغيف ، وأرغفة . والفوقية هنا راجعة إلى أن الله تعالى أظهر الحكم لمن هناك من ملائكته ، أو أثبته في اللوح المحفوظ . ونسبة الفوقية المكانية إلى الله تعالى محال ; لأنه منزه عن الفوقية ، كما هو منزه عن التحتية ; إذ كل ذلك من لوازم الأجرام ، وخصائص الأجسام ، ويتقدس عنها الذي ليس كمثله شيء من جميع الأنام .




                                                                                              الخدمات العلمية