الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3519 [ 1353 ] وعن البراء قال: جاء رجل من بني النبيت -قبيلمن الأنصار- فقال: أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك عبده ورسوله، ثم تقدم فقاتل حتى قتل، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: " عمل هذا يسيرا وأجر كثيرا" .

                                                                                              رواه البخاري (2808)، ومسلم (1900).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقول مسروق : ( سألنا عبد الله عن هذه الآية ) ; هو عبد الله بن مسعود ، وهكذا في رواية أبي بحر : (سألنا عبد الله بن مسعود ) ، ومن قال فيه : عبد الله بن عمرو فقد أخطأ .

                                                                                              وقول عبد الله : ( أما إنا سألنا عن ذلك فقال ) ; كذا صحت الرواية ، ولم يذكر فيها (رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) ، وهو المراد منها قطعا . ألا ترى قوله : (فقال) ; وأسند الفعل إلى ضميره ، وإنما سكت عنه للعلم به ، فهو مرفوع ، وليس هذا المعنى الذي في هذا الحديث مما يتوصل إليه بعقل ولا قياس ، وإنما يتوصل إليه بالوحي ، فلا يقال : هو موقوف على عبد الله بن مسعود .

                                                                                              وقد تضمن هذا الحديث تفسير قوله تعالى : بل أحياء عند ربهم يرزقون [آل عمران : 169] وأن معنى حياة الشهداء : أن لأرواحهم من خصوص الكرامة ما ليس لغيرهم ، بأن جعلت في جوف طير ، كما في هذا الحديث ، أو في حواصل طير خضر ، كما في الحديث الآخر ، صيانة لتلك الأرواح ، ومبالغة في إكرامها ، لإطلاعها على ما في الجنة من المحاسن والنعم ، كما يطلع الراكب المظلل عليه بالهودج الشفاف ; الذي لا يحجب عما وراءه . ثم يدركون في تلك الحال التي يسرحون فيها من روائح الجنة ، وطيبها ، ونعيمها ، وسرورها ما يليق بالأرواح مما ترتزق وتنتعش به . وأما اللذات الجسمانية فإذا أعيدت تلك الأرواح إلى أجسادها استوفت من النعيم جميع ما أعد الله تعالى لها ، ثم إن أرواحهم بعد سرحها في [ ص: 716 ] الجنة ترجع تلك الطير بهم إلى مواضع مكرمة مشرفة منورة عبر عنها بالقناديل ; لكثرة أنوارها ، وشدتها . والله تعالى أعلم .

                                                                                              وهذه الكرامات كلها مخصوصة بالشهداء كما دلت عليه الآية وهذا الحديث ، وأما حديث مالك الذي قال فيه : (إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في ثمر الجنة) ; فالمراد بالمؤمن هنا : الشهيد .

                                                                                              والحديثان واحد في المعنى ، وهو من باب حمل المطلق على المقيد . وقد دل على صحة هذا قوله في الحديث الآخر : (إذا مات الإنسان عرض عليه مقعده بالغداة والعشي من الجنة والنار ، فيقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة) ; فالمؤمن غير الشهيد هو الذي يعرض عليه مقعده من الجنة وهو في موضعه من القبر أو الصور ، أو حيث شاء الله تعالى غير سارح في الجنة ، ولا داخل فيها ; وإنما يدرك منزلته فيها بخلاف الشهيد ; فإنه يباشر ذلك ويشاهده وهو فيها ، على ما تقدم ، وكذلك أرواح الكفار تشاهد ما أعد الله لها من العذاب عند عرض ذلك عليها ، كما قال تعالى في آل فرعون : النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [غافر: 46] وعند هذا العرض تدرك روح الكافر من الألم ، والتخويف ، والحزن ، والعذاب بالانتظار ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . فنسأل الله العافية . كما أنه يحصل للمؤمن عند عرض الجنة من الفرح ، والسرور ، والتنعم بانتظار المحبوب ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . فإذا أعيدت الأرواح إلى الأجساد استكمل كل فريق منهم ما أعد الله له . وبهذا الذي ذكرناه تلتئم الأحاديث ، وتتفق . والله الموفق .

                                                                                              [ ص: 717 ] وقد حصل من مجموع الكتاب والسنة . أن الأرواح باقية بعد الموت ، وأنها متنعمة ، أو معذبة إلى يوم القيامة.

                                                                                              وقد اختلف الناس في الأرواح قديما وحديثا ما هي ؟ وعلى أي حال هي ؟ اختلافا كثيرا ، واضطربوا فيها اضطرابا شديدا ; الواقــف عليه يتحقق أن الكل منهم على غير بصيرة منها ; وإنما هي أقوال صادرة عن ظنون متقاربة ، ولا يشك في أنه مما انفرد الله تعالى بعلم حقيقته . وعلى هذا المعنى حمل أكثر المفسرين قوله تعالى : قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [الإسراء: 85] فليقطع العاقل طمعه من علم حقيقته ، ولينظر هل ورد في الأقوال الصادقة ما يدل على شيء من صفته؟ وعند تصفح ذلك ، واستقراء ما هنالك يحصل للباحث : أن الروح أمر ينفخ في الجسد ، ويقبض منه ، ويتوفى بالنوم والموت ، ويؤمن ، ويكفر ، ويعلم ، ويجهل ، ويفرح ، ويحزن ، ويتنعم ، ويتألم ، ويخرج ، ويدخل ، والإنسان يجد من ذاته بضرورته قابلا للعلوم وأضدادها ، وللفكر وأضدادها ، ولغير ذلك من المعاني ، فيحصل من مجموع تلك الأمور على القطع : أن الروح ليس من قبيل الأعراض لاستحالة كل ما ذكر عليها ، فيلزم أن يكون الروح من قبيل ما يقوم بنفسه ، وأنه قابل للأعراض .

                                                                                              وهل هو متحيز أو ليس بمتحيز ؟ ذهبت طوائف من الأوائل ، ومن نحا نحوهم من الإسلاميين ، إلى أنه قائم بنفسه غير متحيز . وذهب أكثر أهل الإسلام إلى أن ذلك من أوصاف الحق سبحانه وتعالى الخاصة به ، وأنه لا تصح مشاركته في ذلك لأدلة تذكر في علم الكلام ، وأن الروح قائم بنفسه متحيز ، فهو من قبيل الجواهر .

                                                                                              ثم اختلف ، هل هو يقبل الانقسام فيكون جسما أو لا يقبله فيكون جوهرا [ ص: 718 ] فردا ؟ فذهبت طائفة من جلة علماء أهل السنة إلى أنه جسم لطيف مشابك لجميع أجزاء البدن ، أجرى الله العادة ببقائه في الجسم ما دام حيا ، فإذا أراد الله تعالى إماتة الحيوان نزعه منه ، وأزال اتصاله بالحياة ، وأعقبها بالموت. وأطبق معظم المتكلمين من أهل السنة على أنه جزء فرد من أجزاء القلب ، أو غيره مما يكون في الإنسان ، أجرى الله العادة بحياة ذلك الجسم ما دام ذلك الجزء متصلا به . والله تعالى أعلم ، وأحكم ، والتسليم أولى وأسلم .

                                                                                              والذي اتفق أهل التحقيق عليه : أنه محدث مخترع ; لأنه متغير ، وكل متغير محدث على ما يعرف في موضعه ، ولا يلتفت لقول من قال : إن الروح قديم ; إذ لا قديم إلا الله تعالى ، على ما يعرف في موضعه ، ولا يلتفت أيضا لقول التناسخية القائلين بأن الأرواح تنتقل إلى أجساد أخر ، فأهل السعادة ينقلون إلى أجساد حسنة مشرقة مرفهة ، فتتنعم بها ، كما جاء في هذه الأحاديث ، وأهل الشقاء تنقل أرواحهم إلى أجسام خسيسة قبيحة ، فتعذب فيها ، حتى إذا استوفت أمد عقابها رجعت إلى أحسن بنية ، وهكذا أبدا . وهذا معنى الإعادة والثواب والعقاب عندهم . وهو قول مناقض لما جاءت به الشريعة ، ولما أجمعت الأمة عليه ، ومعتقده يكفر قطعا ، فإنه أنكر ما علم قطعا من إخبار الله تعالى ، وإخبار نبيه -صلى الله عليه وسلم- عن أمور الآخرة ، وعن تفاصيل أحوالها ، وأن الأمر ليس على شيء مما قالوه . فالتناسخ والقول به باطل ، محال عقلا ، على ما يعرف في علم الكلام .

                                                                                              وقوله : ( فاطلع إليهم ربهم اطلاعة ) ; أي : تجلى لهم برفع حجبهم ، وكلمهم مشافهة بغير واسطة ، مبالغة في الإكرام ، وتتميما للإنعام .

                                                                                              [ ص: 719 ] وقولهم : ( نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا ) ; دليل على أن مجرد الأرواح هي المتكلمة ، ويدل على: أن الروح ليس بعرض خلافا لمن ذهب إلى ذلك . وفيه رد على التناسخية ، وأن أجواف الطير ليست أجسادا لها ، وإنما هي مودعة فيها على سبيل الحفظ والصيانة والإكرام ، على ما قدمناه . وهذا كله يدل على أن لمنزلة الشهادة من خصوص الإكرام ما ليس لغيرها من أعمال البر ، كما قال في الحديث الآخر : ( ليس أحد له عند الله خير يتمنى أن يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد ; لما يرى من فضل الشهادة) .




                                                                                              الخدمات العلمية