الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3403 [ 1402 ] وعن أبي موسى قال: أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين. أحدهما عن يميني والآخر عن يساري، فكلاهما سأل العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك، فقال: ما تقول يا أبا موسى؟ أو: يا عبد الله بن قيس؟ قال: قلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل ! قال: وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت ! فقال: لن - أو: لا - نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى - أو يا عبد الله بن قيس. فبعثه على اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه قال: انزل - وألقى له وسادة، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهوديا فأسلم، ثم راجع دينه دين السوء فتهود ! قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله ! فقال: اجلس، نعم ! قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله - ثلاث مرات، فأمر به فقتل، ثم تذاكرا قيام الليل، فقال أحدهما: معاذ: أما أنا فأنام وأقوم، وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي.

                                                                                              وفي رواية: فقال عليه الصلاة والسلام: "إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه".


                                                                                              رواه البخاري (4341 و 4342)، ومسلم (1733) في الإمارة (14 و 15)، وأبو داود (4354 - 4357)، والنسائي ( 1 \ 10 ). [ ص: 17 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 17 ] وقوله صلى الله عليه وسلم: " ما تقول يا أبا موسى ؟ " استفهام استعلام عما عنده من إرادته العمل، أو من معونته لهما على استدعائهما العمل، فأجابه بما يقتضي: أنه لم يكن عنده إرادة ذلك ولا خبر من إرادة الرجلين. فلما تحقق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولاه العمل إذ لم يسأله ولا حرص عليه، ومنعه الرجلين لحرصهما وسؤالهما على ما تقرر آنفا: من أن الحريص عليها مخذول، والكاره لها معان.

                                                                                              ومما جرى من الكلام بهذا المعنى مجرى المثل: الحرص على الأمانة دليل الخيانة.

                                                                                              و " قلصت شفته " تقبضت وقصرت، وكأن السواك كان فيه قبض، أو يكون النبي صلى الله عليه وسلم قبض شفته ليتمكن من تسويك أسنانه.

                                                                                              وقوله: " فبعثه على اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل "، ظاهر هذا أنه صلى الله عليه وسلم ولى معاذا على أبي موسى ولم يعزل أبا موسى ، وعلى هذا يدل تنفيذ معاذ الحكم بقتل المرتد، وإمضاؤه. ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم ولى كل واحد منهما على عمل غير عمل الآخر؛ (فإما في الجهات، وإما في الأعمال)، وهذا هو الصحيح [ ص: 18 ] بدليل ما وقع في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ولى معاذا على مخلاف من اليمن وأبا موسى على مخلاف، والمخلاف واحد المخاليف؛ وهي الكور.

                                                                                              وقوله: " لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله " يدل بظاهره: على أن المرتد لا يستتاب، وأنه يقتل من غير استتابة، وبه قال الحسن وطاوس وبعض السلف، وحكي عن عبد العزيز بن أبي سلمة ، وهو قول أهل الظاهر، وحكاه الطحاوي عن أبي يوسف . قالوا: وتنفعه توبته عند الله تعالى، ولكن لا تدرأ عنه القتل. وفرق عطاء بين من ولد مسلما فلم نستتبه، وبين من أسلم ثم ارتد، وجمهور الأئمة والفقهاء على استتابته، وحكىابن القصار إجماع الصحابة على استتابته. ثم اختلف هؤلاء في مدة الاستتابة وهل يضرب لها أجل؛ فقال أحمد وإسحاق : ثلاثة أيام - واستحسنه مالك وأبو حنيفة ، وقاله الشافعي مرة، وحكى ابن القصار عن مالك فيه قولين: الوجوب، والاستحباب. وقال الزهري : يدعى إلى الإسلام ثلاث مرات، فإن أبى قتل. وقاله الشافعي مرة. وقال المزني : يقتل مكانه إن لم يتب. وعن علي - رضي الله عنه - أنه يستتاب شهرا، وقال النخعي : يستتاب أبدا - وقاله الثوري . وعن أبي حنيفة : يستتاب ثلاث مرات أو ثلاث جمع، أو ثلاثة أيام مرة في كل يوم أو جمعة. والرجل والمرأة عند الجمهور سواء، وفرق أبو حنيفة فقال: تسجن المرأة ولا تقتل. وشذ قتادة والحسن فقالا: تسترق ولا تقتل. وروي مثله عن علي . وخالف أصحاب الرأي في الأمة فقالوا: تدفع إلى سيدها، ويجبرها على الإسلام.

                                                                                              [ ص: 19 ] وقتل المرتد بالسيف عند الجمهور. وذهب ابن سريج من أصحاب الشافعي إلى أنه يقتل بالخشب ضربا؛ لأنه أبطأ لقتله، لعله يراجع التوبة أثناء ذلك.

                                                                                              وفيه حجة على أن لولاة الأمصار إقامة الحدود في القتل والزنى وغير ذلك، وهو مذهب كافة العلماء: مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، وغيرهم.

                                                                                              واختلف في إقامة ولاة المياه وأشباههم لذلك؛ فرأى أشهب ذلك لهم إذا جعل ذلك لهم الإمام، وقال ابن القاسم نحوه، وقال الكوفيون: لا يقيمه إلا فقهاء الأمصار، ولا يقيمه عامل السواد.

                                                                                              واختلف في القضاة إذا كانت ولايتهم مطلقة غير مقيدة بنوع من الأحكام؛ فالجمهور على أن جميع ذلك لهم من إقامة الحدود وإثبات الحقوق وتغيير المناكر والنظر في المصالح، [قام بذلك قائم أو اختص بحق الله تعالى]، وحكمه عندهم حكم الوصي المطلق اليد في كل شيء إلا ما يختص بضبط بيضة الإسلام من إعداد الجيوش وجباية الخراج.

                                                                                              واختلف أصحاب الشافعي : هل له نظر في مال الصدقات والتقديم للجمع والأعياد أم لا؟ على قولين، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا نظر له في إقامة حد ولا في مصلحة إلا لطالب مخاصم، وحكمه عندهم حكم الوكيل.

                                                                                              وقوله: " ثم تذاكرا قيام الليل "؛ أي: فضل قيام الليل، هل الأفضل قيامه كله أو قيام بعضه؟ فكأن أبا موسى ذهب إلى أن قيامه كله لمن قوي عليه [ ص: 20 ] أفضل، وهذا كما وقع لعبد الله بن عمرو في حديثه المتقدم، وكأن معاذا رأى أن قيام بعضه ونوم بعضه أفضل، وهذا كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بقوله: "إنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونفهت نفسك"، وكما قاله في حديث البخاري المتقدم: "أما أنا فأقوم وأنام"، وقال في آخره: "فمن رغب عن سنتي فليس مني".

                                                                                              وقوله: " وأرجو في نومتي ما أرجوه في قومتي "، إنما كان ذلك لأنه كان ينام ليقوم؛ أي: يقصد بنومه الاستعانة على قيامه والتنشيط عليه، والتفرغ من شغل النوم عن فهم القرآن، فكان نومه عبادة يرجو فيها من الثواب ما يرجوه في القيام، ولا يتفطن لمثل هذا إلا مثل معاذ الذي يسبق العلماء يوم القيامة برتوة؛ أي: رمية قوس - كما قاله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                              وعلى هذا فما من مباح إلا ويمكن أن يقصد فيه وجه من وجوه الخير، فيصير قربة بحسب القصد الصحيح، والله تعالى أعلم.




                                                                                              الخدمات العلمية