الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2547 [ 1473 ] وعن عائشة قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لست سنين، وبنى بي وأنا بنت تسع سنين. قالت: فقدمنا المدينة فوعكت شهرا، فوفى شعري جميمة، فأتتني أم رومان وأنا على أرجوحة، ومعي صواحبي فصرخت بي فأتيتها، وما أدري ما تريد، فأخذت بيدي فأوقفتني على الباب فقلت: هه هه حتى ذهب نفسي فأدخلتني بيتا، فإذا نسوة من الأنصار فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن فغسلن رأسي، وأصلحنني فلم يرعني إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، فأسلمنني إليه.

                                                                                              رواه البخاري (3896)، ومسلم (1422) (69)، وأبو داود (4933)، والنسائي ( 6 \ 82 )، وابن ماجه (1876).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقول عائشة رضي الله عنها: (تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لست سنين). وفي الرواية الأخرى: وهي بنت سبع سنين. ظاهر هاتين الروايتين الاختلاف. فيمكن أن يقال: إن ذلك تقدير لا تحقيق، ويمكن أن يقال: إن ذلك كان في أوائل السنة السابعة. فيكون معنى قولها: (لست سنين) انقضت.

                                                                                              و (قولها: وهي بنت سبع سنين ) أي: هي فيها، والله تعالى أعلم.

                                                                                              وهذا الحديث مستند الإجماع على أن الأب يجبر البكر الصغيرة على النكاح. وإذا جاز ذلك في الأنثى التي لا تملك حل العقد عن نفسها، فلأن يجوز في الصغير الذي يملك حل العقد عن نفسه عند بلوغه أحرى وأولى.

                                                                                              وما ذكرناه جار على مذهب مالك والشافعي ، وفقهاء أهل الحجاز . وأما أهل العراق فقالوا: لها الخيار إذا بلغت، إلا أبا يوسف ، فإنه قال: لا خيار لها.

                                                                                              ثم اختلفوا في غير الأب، من ولي أو وصي، هل له أن يجبر أم لا؟ فمنع الجمهور ذلك؛ غير أن الشافعي جعل الجد بمنزلة الأب، وغير ما روي عن مالك في الوصي على الإنكاح: أنه يجبر - في أحد قوليه - وهو الذي حكاه الخطابي عن مالك ، وعن حماد بن أبي سلمة ، وقاله شريح ، وعروة بن الزبير . والمشهور عن مالك المنع من ذلك. وقال أبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعي ، وجماعة من السلف بجواز ذلك. وليس بصحيح؛ لما يختص به الأب من فرط الشفقة، والاجتهاد في ابتغاء المصلحة، فإنه يختص من ذلك بما لا يوجد في غيره غالبا. ويكفي هذا فارقا مانعا من الإلحاق.

                                                                                              [ ص: 121 ] و (قولها: ( وبنى بي وأنا بنت تسع سنين ) ذهبت طائفة إلى أن بلوغ المرأة إلى تسع يوجب إجبارها على الدخول إذا طلبه الزوج. وبه قال أحمد وأبو عبيد . وقال مالك وأبو حنيفة : حد ذلك أن تطيق الرجل، فإن لم تطق؛ لم يمكن الزوج منها، وإن بلغت التسع. وقال الشافعي : حد ذلك أن تطيق الرجل، وتقارب البلوغ.

                                                                                              وحكم إلزام الزوج النفقة حكم الجبر، فمتى أجبرناها على الدخول ألزمناه لها النفقة. قال الداودي : وكانت رضي الله عنها قد شبت شبابا حسنا.

                                                                                              و (قولها: ( فقدمنا المدينة فوعكت شهرا ) أي: مرضت بالحمى، وكان هذا في أول قدومهم المدينة في الوقت الذي وعك فيه أبو بكر رضي الله عنه وقبل أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة بأن يصححها، وينقل حماها إلى الجحفة ، فلما دعا؛ فعل الله ذلك.

                                                                                              و (قولها: ( فوفى شعري جميمة ) أي: بلغ إلى أن صار جمة صغيرة. وقد تقدم: أن (الجمة) إلى شحمة الأذن و (اللمة) للمنكب. وفي كلامها حذف، وتقديره: فوعكت؛ فسقط شعري، ثم برئت فوفى جميمة.

                                                                                              و (قوله: فأتتني أم رومان ) أم رومان - بضم الراء المهملة، ويقال بفتحها، والأول أشهر -، واسمها: زينب بنت عامر الكنانية ، وهي زوج أبي بكر الصديق وأم ولديه: عبد الرحمن ، وعائشة . أسلمت وهاجرت، وتوفيت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها، واستغفر لها.

                                                                                              و ( الأرجوحة ): خشبة يركب على طرفيها صغيران، فيترجح أحدهما على [ ص: 122 ] الآخر تارة، والآخر أخرى. ويقال: الأرجوحة: حبل يعلق، فيركبه الصبيان، يلعبون عليه. قاله شيخنا المنذري الشافعي .

                                                                                              و ( صرخت بي ) أي: صاحت صياحا مزعجا.

                                                                                              و (قولها: ( فقلت: هه، هه ) هي حكاية عن صوت المنبهر؛ الذي ضاق نفسه، وذلك أنها كانت تترجح، ثم إنها صيح بها صياحا مزعجا، فأتت مسرعة، فضاق نفسها لذلك، وانبهرت. ولذلك قالت: ( حتى ذهب نفسي ) وهو بفتح الفاء، وقد أخطأ من سكنها.

                                                                                              وقول النساء: ( على الخير والبركة ) هو نحو مما روي من حديث معاذ : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار شهد إملاكه، فقال: (على الألفة والخير والطائر الميمون). وقد قال صلى الله عليه وسلم لابن عوف : ( بارك الله لك ). وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بارك الله لكم وعليكم).

                                                                                              قلت: وهذه أدعية، والدعاء كله حسن، غير أن الدعاء بما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم أولى، ولذلك كره بعضهم قول العرب: بالرفاء والبنين.

                                                                                              وقولهن: على خير طائر . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وعلى الطائر الميمون ) على [ ص: 123 ] جهة التفاؤل الحسن، والكلام الطيب، وليس هذا من قبيل الطيرة المنهي عنها؛ التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: (لا طيرة، وخيرها الفأل). وقد ذكرنا أصل هذه اللفظة وحكمها في كتاب الإيمان.

                                                                                              و (قولها: فلم يرعني ) أي: لم يفزعني. والروع: الفزع. وهو مستعمل في كل أمر يطرأ على الإنسان فجأة من خير أو شر؛ فيرتاع لفجأته.




                                                                                              الخدمات العلمية