الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              259 [ 139 ] وعن عبد الله بن مسعود ; وأبي هريرة ; في تفسير : ولقد رآه نزلة أخرى [ النجم : 13 ] : أنه جبريل .

                                                                                              رواه مسلم ( 173 ) عن ابن مسعود و ( 175 ) عن أبي هريرة .

                                                                                              [ ص: 401 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 401 ] (58) ومن باب هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه ؟

                                                                                              (قول عائشة للذي سألها عن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه : " لقد قف شعري لما قلت ") أي : قام من الفزع . قال أبو زيد : قف الرجل من البرد قفة ، والقفوف . القشعريرة . قال الخليل بن أحمد : القفقفة . الرعدة . قال ابن الأعرابي : تقول العرب عند إنكار الشيء . قف شعري واقشعر جلدي واشمأزت نفسي .

                                                                                              واختلف قديما وحديثا في جواز رؤية الله تعالى ، فأكثر المبتدعة على إنكار جوازها في الدنيا والآخرة ، وأهل السلف والسنة على جوازها فيهما ووقوعها في الآخرة ، ثم هل رأى نبينا - صلى الله عليه وسلم - ربه أم لا ؟ اختلف في ذلك السلف والخلف ، فأنكرته عائشة وأبو هريرة وجماعة من السلف ، وهو المشهور عن ابن مسعود ، وإليه ذهب جماعة من المتكلمين والمحدثين . وذهبت طائفة أخرى من السلف إلى [ ص: 402 ] وقوعه وأنه رأى ربه بعينيه ، وإليه ذهب ابن عباس ، وقال : اختص موسى بالكلام وإبراهيم بالخلة ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بالرؤية . وأبو ذر وكعب والحسن وأحمد بن حنبل . وحكي عن ابن مسعود وأبي هريرة في قول لهما آخر ، ومثل ذلك حكي عن أبي الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه .

                                                                                              وذهبت طائفة من المشايخ إلى الوقف ، وقالوا : ليس عليه قاطع نفيا ولا إثباتا ، ولكنه جائز عقلا ، وهذا هو الصحيح ; إذ رؤية الله تعالى جائزة كما دلت عليها الأدلة العقلية والنقلية ، فأما العقلية ، فتعرف في علم الكلام . وأما النقلية فمنها سؤال موسى رؤية ربه ، ووجه التمسك بذلك علم موسى بجواز ذلك ، ولو علم استحالة ذلك ، لما سأله ، ومحال أن يجهل موسى جواز ذلك ; إذ يلزم منه أن يكون مع علو منصبه في النبوة ، وانتهائه إلى أن يصطفيه الله على الناس ، وأن يسمعه كلامه بلا واسطة ، جاهلا بما يجب لله تعالى ويستحيل عليه ويجوز ، ومجوز هذا كافر .

                                                                                              ومنها قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [ القيامة : 22 - 24] ووجه التمسك بها امتنانه تعالى على عباده بالنظر إلى وجهه تعالى في الدار الآخرة ، وإذا جاز أن يروه فيها ، جاز أن يروه في الدنيا ; لتساوي الوقتين بالنظر إلى الأحكام العقلية .

                                                                                              ومنها : ما تواترت جملته في صحيح الأحاديث من أخباره - صلى الله عليه وسلم - لوقوع ذلك ; كرامة للمؤمنين في الدار الآخرة ، فهذه الأدلة تدل على جواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة والدنيا . ثم هل وقعت رؤية الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء أو لم تقع ؟ ليس في ذلك دليل قاطع ، وغاية المستدل على نفي ذلك أو إثباته التمسك [ ص: 403 ] بظواهر متعارضة معرضة للتأويل ، والمسألة ليست من باب العمليات ، فيكتفى فيها بالظنون ، وإنما هي من باب المعتقدات ، ولا مدخل للظنون فيها ; إذ الظن من باب الشك ; لأن حقيقته تغليب أحد المجوزين ، وذلك يناقض العلم والاعتقاد .

                                                                                              واختلفوا أيضا هل كلم محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا ؟ فذهب ابن مسعود وابن عباس وجعفر بن محمد وأبو الحسن الأشعري في طائفة من المتكلمين إلى أنه كلم الله بغير واسطة ، وذهبت جماعة إلى نفي ذلك . والكلام على هذه المسألة كالكلام على مسألة الرؤية سواء .

                                                                                              و (قول عائشة : " فقد أعظم الفرية على الله تعالى ") الفرية هي الافتراء ، وهو اختلاق الكذب وما يقبح التحدث به .

                                                                                              و ( قوله تعالى : بالأفق المبين [ التكوير : 23 ] ) الأفق : الجانب والناحية ، وجمعه آفاق ، ويقال : أفق بضم الفاء وسكونها . والمبين : البين الواضح . والضمير في ولقد رآه عائد إلى رسول ، وهو جبريل . وكذلك في قوله : ولقد رآه نزلة أخرى [ النجم : 13 ] وقد روت ذلك عائشة مرفوعا مفسرا على ما يأتي ، [ ص: 404 ] فلا يلتفت إلى ما يقال في الآية غير هذا . وأما استدلال عائشة بقوله تعالى : لا تدركه الأبصار [ الأنعام : 103 ] ففيه بعد ; إذ قد يقال بموجبه ، إذ يفرق بين الإدراك والإبصار ، فيكون معنى " لا تدركه " لا تحيط به ، مع أنها تبصره ، قاله سعيد بن المسيب . وقد بقي الإدراك مع وجود الرؤية في قول الله تعالى : فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا [ الشعراء : 61 - 62 ] ; أي : لا يدركونكم . وأيضا فإن الإبصار عموم وهو قابل للتخصيص ، فيخصص بالكافرين ، كما قال تعالى : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [ المطففين : 15 ] ويكرم المؤمنون أو من شاء الله منهم بالرؤية ، كما قال تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [ القيامة : 22 - 23 ] وبالجملة فالآية ليست نصا ولا من الظواهر الجلية ، فلا حجة فيها .

                                                                                              و " اللطيف " الكثير اللطف ، وهو في حق الله تعالى رفقه بعباده وإيصاله لهم ما يصلحهم بحيث لا يشعرون ، كما قال : إن ربي لطيف لما يشاء [ يوسف : 100 ] وأصله من اللطف في العمل وهو الرفق فيه ، وضده العنف ، والاسم منه اللطف بتحريك الطاء ، يقال : جاءتنا لطفة من فلان ; أي : هدية . و " الخبير " العليم بخبرة الأمور ; أي : ببواطنها وما يختبر منها ، يقال : صدق الخبر الخبر بضم الخاء ، ومنه قول أبي الدرداء . وجدت الناس اخبر تقله .

                                                                                              وأما استدلالها بقوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا [ الشورى : 21 ] [ ص: 405 ] فلا حجة فيه على نفي الرؤية ; إذ يقال بموجبها ، فإن مقتضاها نفي كلام الله على غير هذه الأحوال الثلاثة ، وإنما يصلح أن يستدل بها على نفي تكليم الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - مشافهة على ضعف في ذلك لا يخفى على متأمل ، بل قد استدل بعض المشايخ بهذه الآية على أن محمدا رأى ربه وكلمه دون واسطة ، فقال : هي ثلاثة أقسام . من وراء حجاب ، كتكليم موسى ، وبإرسال الملائكة ، كحال جميع الأنبياء . ولم يبق من تقسيم المكالمة إلا كونها مع المشاهدة ، وهذا أيضا فيه نظر .

                                                                                              و (قوله تعالى : فيوحي بإذنه ما يشاء [ الشورى : 51 ] ; أي : بأمره ، كما قال : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ البقرة : 255 ] وفي " يوحي " ضمير يعود على الرسول ، وفي " يشاء " ضمير يعود على الله تعالى ، ومعناه . فيلقي الرسول إلى الموحى إليه ما يشاؤه الله تعالى . و " العلي " ذو العلو ، وهو الرفعة المعنوية في حقه تعالى لا المكانية . والحكيم المحكم الأمور ، أو الكثير الحكمة . ومعنى مساق الآية . أنه تعالى منزه عن أن يتنزل كلامه أسماع كل السامعين ، بل يحكم الله كيفية إيصاله إلى النبيين والمرسلين .

                                                                                              [ ص: 406 ] وقولها : " ولو كان محمد كاتما شيئا لكتم هذه الآية : وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك [ الأحزاب : 37 ] ، قد اجترأ بعض المفسرين في تفسير هذه الآية ونسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا يليق به ويستحيل عليه ; إذ قد عصمه الله منه ، ونزهه عن مثله ، فقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - هوي زينب امرأة زيد ، وربما أطلق بعض المجان لفظ " عشق " . ثم جاء زيد يريد تطليقها ، فقال له : أمسك عليك زوجك واتق الله ، وهو مع ذلك يحب أن يطلقها ليتزوجها . وهذا القول إنما يصدر عن جاهل بعصمته - عليه الصلاة والسلام - عن مثل هذا ، أو مستخف بحرمته . والذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين أن ذلك القول الشنيع ليس بصحيح ، ولا يليق بذوي المروءات ، فأحرى بخير البريات ، وأن تلك الآية إنما تفسيرها ما حكي عن علي بن حسين : أن الله تعالى أعلم نبيه بكونها زوجة له ، فلما شكاها زيد له وأراد أن يطلقها ، قال له : أمسك عليك زوجك واتق الله ، وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به مما هو مبديه بطلاق زيد لها وتزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - لها . ونحوه عن الزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري وغيرهم .

                                                                                              والذي خشيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو إرجاف المنافقين ، وأنه نهى عن تزويج نساء الأبناء وتزوج بزوجة ابنه ، ومساق الآية يدل على صحة هذا الوجه بقوله تعالى : ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له [ الأحزاب : 38 ] ولو كان ما ذكر أولئك ، لكان فيه أعظم الحرج ولقوله : لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا [ الأحزاب : 37 ] وبالله التوفيق .




                                                                                              الخدمات العلمية