الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2996 (31) باب

                                                                                              اتقاء الشبهات ولعن المقدم على الربا

                                                                                              [ 1689 ] عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه: إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.

                                                                                              رواه البخاري (52)، ومسلم (1599)، وأبو داود (3329-3330)، والترمذي (1205)، والنسائي ( 7 \ 241 ). [ ص: 488 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 488 ] (31) ومن باب اتقاء الشبهات

                                                                                              (قوله صلى الله عليه وسلم: الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور متشابهات ) يعني: أن كل واحد منهما مبين بأدلته في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تأصيلا وتفصيلا. فمن وقف على ما في كتاب الله والسنة من ذلك وجد فيهما أمورا جلية التحليل، وأمورا جلية التحريم، وأمورا مترددة بين التحليل والتحريم. وهي التي تتعارض فيها الأدلة. فهي المتشابهات. وقد اختلف في حكمها فقيل: مواقعتها حرام؛ لأنها توقع في الحرام. وقيل: مكروهة والورع تركها. وقيل: لا يقال فيها واحد منهما. والصواب الثاني؛ لأن الشرع قد أخرجها من قسم الحرام، فلا توصف به، وهي مما يرتاب فيه. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) وهذا هو الورع. وقد قال فيها بعض الناس: إنها حلال ويتورع عنها.

                                                                                              قلت: وليست بعبارة صحيحة؛ لأن أقل مراتب الحلال أن يستوي فعله [ ص: 489 ] وتركه، فيكون مباحا. وما كان كذلك لم يتصور فيه الورع من حيث هو متساوي الطرفين. فإنه إن ترجح أحد طرفيه على الآخر خرج عن كونه مباحا. وحينئذ يكون تركه راجحا على فعله، وهو المكروه. أو فعله راجحا على تركه، وهو المندوب.

                                                                                              فإن قيل: فهذا يؤدي إلى رفع معلوم من الشرع، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، وأكثر الصحابة رضي الله عنهم كانوا يزهدون في المباح. فإنهم رفضوا التنعم بأكل الطيبات من الأطعمة، وبلباس اللين الفاخر من الملابس، وبسكنى المباني الأنيقة من المساكن. ولا شك في إباحة هذه الأمور. ومع هذا فآثروا أكل الخشن، ولباس الخشن، وسكنى الطين واللبن. وكل هذا معلوم من حالهم، منقول من سيرتهم.

                                                                                              فالجواب: إن تركهم التنعم بالمباح لا بد له من موجب شرعي أوجب ترجيح الترك على الفعل، وحينئذ يلزم عليه خروج المباح عن كونه مباحا، فإن حقيقته التساوي من غير رجحان. فلم يزهدوا في مباح، بل في أمر تركه خير من فعله شرعا. وهذه حقيقة المكروه. فإذا إنما زهدوا في مكروه. غير أن المكروه تارة يكرهه الشرع من حيث هو، كما كره لحوم السباع. وتارة يكرهه لما يؤدي إليه، كما يكره القبلة للصائم، فإنها تكره لما يخاف منها من فساد الصوم. وتركهم للتنعم من هذا القبيل، فإنه انكشف لهم من عاقبته ما خافوا على نفوسهم منه مفاسد إما في الحال، كالركون إلى الدنيا. وإما في المآل كالحساب عليه، والمطالبة بالشكر، وغير ذلك مما ذكر في كتب الزهد. وعلى هذا فقد ظهر ولاح: أنهم لم يزهدوا ولا تورعوا عن مباح.

                                                                                              و (قوله: لا يعلمهن كثير من الناس ) أي: لا يعلم حكمهن من التحليل أو التحريم، وإلا فالذي يعلم الشبهة يعلمها من حيث إنها مشكلة، لترددها بين أمور محتملة، فإذا علم بأي أصل تلحق زال كونها شبهة، وكانت إما من الحلال، أو من الحرام. وفيه دليل: على أن الشبهة لها حكم خاص بها، عليه دليل شرعي، [ ص: 490 ] يمكن أن يصل إليه بعض الناس، فمن ظفر به فهو المصيب كما بيناه في الأصول.

                                                                                              و (قوله: فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) أي: من ترك ما يشتبه عليه سلم دينه مما يفسده، أو ينقصه. وعرضه مما يشينه، ويعيبه، فيسلم من عقاب الله وذمه. ويدخل في زمرة المتقين الفائزين بثناء الله تعالى وثوابه، لكن لا يصح اتقاء الشبهات حتى تعرف، ومعرفتها على التعيين والتفصيل يستدعي فصل تطويل، لكن نعقد فيه عقدا كليا إن شاء الله تعالى عن التفصيل مغنيا، فنقول:

                                                                                              المكلف بالنسبة إلى الشرع: إما أن يترجح فعله على تركه، أو تركه على فعله، أو لا يترجح واحد منهما. فالراجح الفعل أو الترك؛ إما أن يجوز نقيضه بوجه ما، أو لا يجوز نقيضه. فإن لم يجز نقيضه فهو المعلوم الحكم من التحليل، كحلية لحوم الأنعام. أو من التحريم؛ كتحريم الميتة والخنزير على الجملة. فهذان النوعان هما المرادان بقوله: ( الحلال بين، والحرام بين ). وأما إن جوز نقيض ما ترجح عنده: فإما أن يكون ذلك التجويز بعيدا لا مستند له أكثر من توهم، وتقدير: فلا يلتفت إلى ذلك، ويلغى بكل حال. وهذا كترك النكاح من نساء بلدة كبيرة مخافة أن يكون له فيها ذات محرم من النسب أو الرضاع. أو كترك استعمال ماء باق على أوصافه في فلاة من الأرض مخافة تقدير نجاسة وقعت فيه، أو كترك الصلاة على موضع لا أثر، ولا علامة للنجاسة فيه، مخافة أن يكون فيها بول قد جف. أو كتكرار غسل الثوب مخافة طروء نجاسة لم يشاهدها. إلى غير ذلك مما في معناه. فهذا النوع يجب ألا يلتفت إليه، والتوقف لأجل ذلك التجويز هوس. والورع فيه وسوسة شيطانية؛ إذ ليس فيه من معنى الشبهة شيء، وقد دخل الشيطان على كثير من أهل الخير من هذا الباب، حتى يعطل عليهم واجبات، أو ينقص ثوابها لهم. وسبب الوقوع في ذلك عدم العلم بالمقاصد الشرعية، وأحكامها.

                                                                                              فإن قيل: كيف [ ص: 491 ] يقال هذا، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك لما دخل بيته فوجد فيه تمرة فقال: (لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها). ودخول الصدقة بيت النبي صلى الله عليه وسلم بعيد؛ لأنها كانت محرمة عليه وعلى آله، لكنه راعى الاحتمال البعيد، والاحتمالات في الصور التي ذكرتم ليس بأبعد من هذا الاحتمال، فما وجه الانفصال؟ !

                                                                                              قلنا: لا نسلم أن ما توقعه النبي صلى الله عليه وسلم كان بعيدا؛ لأنهم كانوا يأتون بصدقات التمر للمسجد، وحجرته متصلة بالمسجد، فتوقع أن يكون صبي أو من يغفل عن ذلك يدخل التمر من الصدقة في البيت. فاتقى ذلك لقربه بحسب ما ظهر مما قرب ذلك التقدير، وليس من تلك الصور في شيء؛ لأنها خلية عن الأمارات. وإنما هي محض تجويزات.

                                                                                              وأما إن كان ذلك التجويز له مستند معتبر بوجه ما، فالأصل: العمل بالراجح، والورع الترك إن لم يلزم منه العمل بترك الراجح وبيانه بالمثال. وهو: أن جلد الميتة لا يطهره الدباغ في مشهور مذهب مالك . فلا يجوز أن يستعمل في شيء من المائعات، لأنها تنجس إلا الماء وحده، فإنه يدفع النجاسة عن نفسه؛ لأنه لا ينجس إلا إذا تغير. هذا الذي ترجح عنده. ثم إنه اتقى الماء في خاصة نفسه. ونحو ذلك حكي عن أبي حنيفة أو سفيان الثوري أنه قال: لأن أخر من السماء أهون علي من أن أفتي بتحريم قليل النبيذ، وما شربته قط، ولا أشربه. فقد أعملوا الراجح في الفتيا، وتورعوا عنه في أنفسهم. وقد قال بعض المحققين: من حكم الحكيم أن يوسع على المسلمين في الأحكام، ويضيق على نفسه؛ يعني به ذلك المعنى.

                                                                                              ومنشأ هذا الورع الالتفات إلى مكان اعتبار الشرع ذلك المرجوح. وهذا [ ص: 492 ] الالتفات نشأ من القول: بأن المصيب واحد. وهو مشهور قول مالك . ومنه ثار القول في مذهبه بمراعاة الخلاف. كما بيناه في الأصول. غير أن تلك التجويزات المعتبرة - وإن كانت مرجوحة - فهي على مراتب في القرب والبعد، والقوة والضعف. وذلك بحسب الموجب لذلك الاعتبار. فمنها ما يوجب حزازة في قلب المتقي، ومنها ما لا يوجب ذلك. فمن لم يجد ذلك، فلا ينبغي له أن يتوقف؛ لأنه يلتحق ذلك بالقسم الأول عنده. ومن وجد ذلك توقف وتورع وإن أفتاه المفتون بالراجح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس). وهنا يصدق قولهم: استفت قلبك وإن أفتوك. لكن هذا إنما يصح ممن نور الله قلبه بالعلم، وزين جوارحه بالورع، بحيث يجد للشبهة أثرا في قلبه. كما يحكى عن كثير من سلف هذه الأمة، كما نقل عنهم في "الحلية" و"صفة الصفوة"، وغيرهما من كتب ذلك الشأن.

                                                                                              وأما إن لم يترجح الفعل على الترك، ولا الترك على الفعل: فهذا هو الأحق باسم الشبهة، والمتشابه؛ لأنه قد تعارضت فيه الأشباه. فهذا النوع يجب فيه التوقف إلى الترجيح؛ لأن الإقدام على أحد الأمرين من غير رجحان حكم بغير دليل. فيحرم، إذ لا دليل مع التعارض. ولعل الذي قال: إن الإقدام على الشبهة حرام؛ أراد هذا النوع. والذي قال: إن ذلك مكروه؛ أراد النوع الذي قبل هذا، والله تعالى أعلم.

                                                                                              [ ص: 493 ] و (.... قوله: " ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ) وذلك يكون بوجهين:

                                                                                              أحدهما: أن من لم يتق الله تعالى، وتجرأ على الشبهات، أفضت به إلى المحرمات بطريق اعتياد الجرأة، والتساهل في أمرها، فيحمله ذلك على الجرأة على الحرام المحض؛ ولهذا قال بعض المتقين: الصغيرة تجر إلى الكبيرة. والكبيرة تجر إلى الكفر. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (المعاصي بريد الكفر). وهو معنى قوله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [المطففين: 14]

                                                                                              وثانيهما: أن من أكثر من مواقعة الشبهات أظلم عليه قلبه، لفقدان نور العلم، ونور الورع، فيقع في الحرام، ولا يشعر به. وإلى هذا النور الإشارة بقوله تعالى: أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه [الزمر: 22] وإلى ذلك الإظلام الإشارة بقوله: فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله [الزمر: 22]

                                                                                              و (قوله: كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ) هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لمحارم الله تعالى. وأصله: أن ملوك العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها الخاصة بها، وتحرج بالتوعد بالعقوبة على من قربها. فالخائف من عقوبة السلطان يبعد بماشيته من ذلك الحمى؛ لأنه إن قرب منه فالغالب الوقوع، وإن كثر الحذر؛ إذ قد تنفرد الفاذة، وتشذ الشاذة ولا تنضبط، فالحذر أن يجعل بينه وبين ذلك الحمى مسافة بحيث يأمن فيها من وقوع الشاذة والفاذة. وهكذا محارم الله تعالى، لا ينبغي أن يحوم حولها مخافة الوقوع فيها على الطريقتين المتقدمتين.

                                                                                              [ ص: 494 ] و (يوشك) بكسر الشين، مضارع (أوشك) بفتحها. وقد قدمنا: أنها من أفعال المقاربة، والملابسة، ومعناها هنا: يقع في الحرام بسرعة.

                                                                                              و (يرتع) بفتح التاء مضارع (رتع) بفتحها أيضا. وفتحت في المضارع مراعاة لحرف الحلق؛ ومعناها: أكل الماشية من المرعى. وأصله: إقامتها فيه، وتبسطها في الأكل. ومنه قوله تعالى: يرتع ويلعب [يوسف: 12]

                                                                                              و (قوله: ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله ) الحديث، المضغة: القطعة من اللحم. وهي قدر ما يمضغه الماضغ؛ يعني بذلك: صغير جرمها، وعظيم قدرها. و (صلحت) رويناه بفتح العين في الماضي ومضارعه: يصلح بضمها، وكذلك مقابلها. وهي: فسد، يفسد. ومعناه: إذا صارت تلك المضغة ذات صلاح أو ذات فساد. وقد يقال: صلح، وفسد - بضم العين فيهما -: إذا صار الصلاح أو الفساد هيئة لازمة لها. كما يقال: ظرف، وشرف.

                                                                                              و (قوله: ألا وهي القلب ) هذا اللفظ في الأصل مصدر: قلبت الشيء، أقلبه، قلبا: إذا رددته على بدأته. وقلبت الإناء: إذا رددته على وجهه. وقلبت الرجل عن رأيه: إذا صرفته عنه، وعن طريقه، كذلك. ثم نقل هذا اللفظ، فسمي به هذا العضو الذي هو أشرف أعضاء الحيوان، لسرعة الخواطر فيه، ولترددها عليه. وقد نظم بعض الفضلاء هذا المعنى فقال:

                                                                                              [ ص: 495 ]

                                                                                              ما سمي القلب إلا من تقلبه فاحذر على القلب من قلب وتحويل



                                                                                              ثم لما نقلت العرب هذا المصدر لهذا العضو التزمت فيه تفخيم قافه؛ تفريقا بينه وبين أصله، وليحذر اللبيب من سرعة انقلاب قلبه؛ إذ ليس بين القلب والقلب إلا التفخيم، وما يعقلها إلا كل ذي فهم مستقيم.

                                                                                              ثم اعلم: أن الله خص جنس الحيوان بهذا العضو المسمى: بالقلب، وأودع فيه المعنى الذي تنتظم به المصالح المقصودة من ذلك النوع، فتجد البهائم تدرك مصالحها ومنافعها، وتميز بين مفاسدها ومضارها مع اختلاف أشكالها، وصورها، إذ منها ما يمشي على بطنه، ومنها ما يمشي على أربع، ومنها ما يطير بجناحيه. ثم خص الله تعالى من بين سائر الحيوان نوع الإنسان؛ الذي هو المقصود الأول من الكونين، والمعني في العالمين بهذا القلب المخصوص المشتمل على هذا المعنى المخصوص، الذي به تميز الإنسان. ووقع به بينه وبين سائر الحيوانات الفرقان. وهو المعنى الذي به يفهم القلب المفهومات، ويحصل به على معرفة الكليات والجزئيات، ويعرف به فرق ما بين الواجبات والجائزات والمستحيلات. وقد أضاف الله تعالى العقل إلى القلب، كما أضاف السمع إلى الأذن، والإبصار إلى العين. فقال تعالى: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [الحج: 46] وهو رد على من قال من أهل الضلال: إن العقل في الدماغ. وهو قول من زل عن الصواب، وزاغ. كيف لا، وقد أخبرنا عن محله خالقه القدير: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير وقد روي ذلك عن أبي حنيفة ، وما أظنها عنه معروفة.

                                                                                              [ ص: 496 ] وإذا فهمت: أن الإنسان إنما شرفه الله تعالى على سائر الحيوان بهذا القلب، وأن هذا القلب لم يشرف من حيث صورته الشكلية، فإنها موجودة لغيره من الحيوانات البهيمية، بل من حيث هو مقر لتلك الخاصية الإلهية؛ علمت أنه أشرف الأعضاء، وأعز الأجزاء؛ إذ ليس ذلك المعنى موجودا في شيء منها. ثم إن الجوارح مسخرة له، ومطيعة، فما استقر فيه ظهر عليها، وعملت على مقتضاه: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وعند هذا انكشف لك معنى قوله: (إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله). ولما ظهر ذلك وجبت العناية بالأمور التي يصلح بها القلب، ليتصف بها، وبالأمور التي تفسد القلب ليتجنبها. ومجموع ذلك علوم، وأعمال، وأحوال.

                                                                                              فالعلوم ثلاثة:

                                                                                              الأول: العلم بالله تعالى، وصفاته، وأسمائه، وتصديق رسله فيما جاءوا به.

                                                                                              والثاني: العلم بأحكامه عليهم، ومراده منهم.

                                                                                              والثالث: العلم بمساعي القلوب من خواطرها، وهمومها، ومحمود أوصافها، ومذمومها.

                                                                                              وأما أعمال القلوب: فالتحلي بالمحمود من الأوصاف، والتخلي عن المذموم منها، ومنازلة المقامات، والترقي عن مفضول المنازلات إلى سني الحالات.

                                                                                              وأما الأحوال: فمراقبة الله تعالى في السر والعلن، والتمكن من الاستقامة على السنن. وإلى هذا أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أن تعبد الله كأنك تراه). وتفصيل هذه المعاقد الجملية توجد في تصانيف محققي الصوفية.

                                                                                              [ ص: 497 ] تنبيه:

                                                                                              الجوارح وإن كانت تابعة للقلب فقد يتأثر القلب بأعمالها، للارتباط الذي بين الباطن والظاهر. والقلب مع الجوارح كالملك مع الرعية؛ إن صلح صلحت، ثم يعود صلاحها عليه بزيادة مصالح ترجع إليه. ولذلك قيل: الملك سوق، ما نفق عنده جلب إليه. وقد نص على هذا المعنى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الرجل ليصدق فينكت في قلبه نكتة بيضاء، حتى يكتب عند الله صديقا. وإن الرجل ليكذب الكبة فيسود قلبه حتى يكتب عند الله كذابا). وفي "الترمذي" عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (إن الرجل ليصيب الذنب، فيسود قلبه، فإن هو تاب صقل قلبه) قال: وهو الران الذي ذكر الله تعالى في كتابه: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [المطففين: 14] وقال مجاهد : القلب كالكف تقبض منه بكل ذنب أصبع، ثم يطبع. وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله: ( إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد ) متصلا بقوله: ( الحلال بين، والحرام بين ) إشعارا بأن أكل الحلال ينوره، ويصلحه، وأكل الحرام والشبهة يفسده، ويقسيه، ويظلمه. وقد وجد ذلك أهل الورع، حتى قال بعضهم: استسقيت جنديا فسقاني شربة ماء، فعادت قسوتها على قلبي أربعين صباحا. وقيل: الأصل المصحح للقلوب والأعمال: أكل الحلال. ويخاف على آكل الحرام، والمتشابه، ألا يقبل له عمل، ولا تسمع له دعوة. ألا تسمع قوله تعالى: إنما يتقبل الله من المتقين [المائدة: 27] وآكل الحرام، المسترسل في الشبهات ليس بمتق على الإطلاق. وقد عضد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس ! إن الله طيب ولا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر [ ص: 498 ] المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم [البقرة: 172] وقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا [المؤمنون: 51] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يقول: يا رب ! يا رب ! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟ !، ولما شرب أبو بكر جرعة لبن من شبهة استقاءها، فأجهده ذلك حتى تقيأها. فقيل له: أكل ذلك في شربة؟ ! فقال: والله ! لو لم تخرج إلا بنفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به).

                                                                                              وعند هذا يعلم الواحد منا قدر المصيبة التي هو فيها، وعظم المحنة التي ابتلي بها؛ إذ المكاسب في هذه الأوقات قد فسدت، وأنواع الحرام والشبهات قد عمت، فلا يكاد أحد منا اليوم يتوصل إلى الحلال، ولا ينفك عن الشبهات. فإن الواحد منا - وإن اجتهد فيما يعمله - فكيف يعمل فيمن يعامله، مع استرسال الناس في المحرمات والشبهات، وقلة من يتقي ذلك من جميع الأصناف، والطبقات، مع ضرورة المخالطة، والاحتياج للمعاملة. وعلى هذا: فالخلاص بعيد، والأمر شديد، ولولا النهي عن القنوط واليأس، لكان ذلك الأولى بأمثالنا من الناس. لكنا إذا دفعنا عن أنفسنا أصول المحرمات، واجتهدنا في ترك ما يمكننا من الشبهات، فعفو الله تعالى مأمول، وكرمه مرجو، فلا ملجأ إلا هو، ولا مفزع إلا إليه، ولا استعانة إلا به، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

                                                                                              تنبيه:

                                                                                              هذا الحديث أصل عظيم من أصول الشريعة. حتى لقد قال أبو داود : كتبت [ ص: 499 ] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، الثابت منها: أربعة آلاف حديث. وهي ترجع إلى أربعة أحاديث: قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) و (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) و (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) و (الحلال بين والحرام بين). وقد جعل غيره مكان (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) قوله: (ازهد في الدنيا يحبك الله). وقد نظم هذا المعنى أبو الحسن طاهر بن مفوز فقال:


                                                                                              عمدة الدين عندنا كلمات أربع من كلام خير البرية
                                                                                              اتق المشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنية



                                                                                              قلت: وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم أجمعين حسن، غير أنهم لو أمعنوا النظر في هذا الحديث كله، من أوله إلى آخره، لوجدوه متضمنا لعلوم الشريعة كلها، ظاهرها وباطنها. وإن أردت الوقوف على ذلك فأعد النظر فيما عقدناه من الجمل في الحلال، والحرام، والمتشابهات، وما يصلح القلوب، [ ص: 500 ] وما يفسدها، وتعلق أعمال الجوارح بها. وحينئذ يستلزم ذلك الحديث معرفة تفاصيل أحكام الشريعة كلها، أصولها وفروعها. والله هو المسئول أن يستعملنا بما علمنا، ويوفقنا لما يرضى به عنا. إنه ولي ذلك والقادر عليه.




                                                                                              الخدمات العلمية