الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3662 [ 1862 ] وعن أنس بن مالك قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة، وما شرابهم إلا الفضيخ: البسر والتمر، فإذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، قال: فجرت في سكك المدينة، فقال لي أبو طلحة: اخرج فاهرقها، فهرقتها، فقالوا: أو قال بعضهم: قتل فلان، قتل فلان، وهي في بطونهم، قال: فلا أدري هو من حديث أنس، فأنزل الله عز وجل: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات [المائدة: 93].

                                                                                              رواه البخاري (5582) ومسلم (1980) وأبو داود (3673) والنسائي (8 \ 287 و 288).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و(قول أنس : وما شرابهم إلا الفضيخ البسر والتمر ) الفضيخ: هو أن يفضخ البسر، ويصب عليه الماء حتى يغلي. قاله الحربي . وقال أبو عبيد : هو ما فضخ من البسر من غير أن تمسه نار، فإن كان معه تمر فهو خليط.

                                                                                              قلت: وعلى هذا يدل قوله في أول الرواية الأخرى: ( وكانت عامة [ ص: 252 ] خمورهم يومئذ خليط البسر والتمر ).

                                                                                              وهذه الأحاديث على كثرتها تبطل مذهب أبي حنيفة والكوفيين القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب، وما كان من غيره لا يسمى خمرا، ولا يتناوله اسم الخمر، وإنما يسمى نبيذا، وهذا مخالف للغة والسنة.

                                                                                              ألا ترى أنه لما نزل تحريم الخمر فهمت الصحابة جميعهم من ذلك تحريم كل ما يسكر نوعه ؟ فسووا في التحريم بين المعتصر من العنب وغيره، ولم يتوقفوا في ذلك، ولا سألوا عنه; لأنهم لم يشكل عليهم شيء من ذلك، فإن اللسان لسانهم، والقرآن نزل بلغتهم، ولو كان عندهم في ذلك شك أو توهم لتوقفوا عن الإراقة حتى يستكشفوا ويسألوا، لا سيما وكان النبيذ عندهم مالا محترما منهيا عن إضاعته قبل التحريم، فلما فهموا التحريم نصا ترجح عندهم مقتضى الإراقة والإتلاف على مقتضى الصيانة والحفظ.

                                                                                              ثم كان هذا من جميعهم من غير خلاف من أحد منهم، فصار القائل بالتفريق سالكا غير سبيلهم، ثم إنه قد ثبتت أحاديث نصوص في التسوية بين تلك الأشياء، وأن كل ذلك خمر على ما يأتي بعد هذا.

                                                                                              وقد خطب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الناس فقال: ألا وإن الخمر نزل تحريمها يوم نزل، وهي من خمسة أشياء: من الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والعسل. والخمر ما خامر العقل، وهذه الخطبة بمحضر الصحابة - رضوان الله عليهم - وهم أهل اللسان، ولم ينكر ذلك عليه أحد، وهو الذي جعل الله الحق على لسانه وقلبه.

                                                                                              وإذا ثبت أن كل ذلك يقال عليه خمر; فيلزمه تحريم قليله وكثيره، ولا يحل شيء منه تمسكا بتحريم مسمى الخمر، ولا مخصص ولا مفصل يصح في ذلك، بل قد وردت الأحاديث الصحيحة والحسان بالنص على أن ما حرم كثيره حرم قليله.

                                                                                              روى الترمذي من حديث جابر بن [ ص: 253 ] عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ). قال: هذا حديث حسن غريب. وروى أبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام ) وإسناده صحيح.

                                                                                              وأما الأحاديث التي تمسك بها المخالف فلا يصح شيء منها على ما قد بين عللها المحدثون في كتبهم، وليس في الصحاح شيء منها، ثم العجب من المخالفين في هذه المسألة; فإنهم قالوا: إن القليل من الخمر المعتصر من العنب حرام ككثيره، وهو مجمع عليه، فإذا قيل لهم: فلم حرم القليل من الخمر، وليس مذهبا للعقل؟ فلا بد أن يقال: لأنه داعية إلى الكثير أو للتعبد، فحينئذ يقال لهم: كل ما قدرتموه في قليل الخمر هو بعينه موجود في قليل النبيذ، فيحرم أيضا; إذ لا فارق بينهما، إلا مجرد الاسم إذا سلم ذلك.

                                                                                              وهذا القياس أرفع أنواع القياس; لأن الفرع فيه مساو للأصل في جميع أوصافه وهذا كما نقوله في قياس الأمة على العبد في سراية العتق.

                                                                                              ثم العجب من أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - وأصحابه، فإنهم يتوغلون في القياس، ويرجحونه على أخبار الآحاد، ومع ذلك فقد تركوا هذا القياس الجلي المعضود بالكتاب والسنة، وإجماع صدر الأمة.

                                                                                              تفصيل: ذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم إلى أن كل ما يسكر نوعه حرم شربه، قليلا كان أو كثيرا، نيئا كان أو مطبوخا، ولا فرق بين المستخرج من العنب أو غيره كما قررناه، وأن من شرب شيئا من ذلك حد. فأما المستخرج من العنب المسكر النيء فهو الذي انعقد الإجماع على تحريم كثيره وقليله، ولو [ ص: 254 ] النقطة منه. وأما ما عدا ذلك فالجمهور على تحريمه على ما ذكرناه.

                                                                                              وخالف الكوفيون في القليل مما عدا ما ذكر، وهو الذي لا يبلغ الإسكار، وفي المطبوخ من المستخرج من العنب: فذهب قوم من أهل البصرة إلى قصر التحريم على عصير العنب، ونقيع الزبيب النيء، وأما المطبوخ منهما والنيء والمطبوخ مما سواهما فحلال ما لم يقع الإسكار.

                                                                                              وذهب أبو حنيفة إلى قصر التحريم على المعتصر من ثمرات النخيل والأعناب على تفصيل. فيرى أن سلافة العنب يحرم قليلها وكثيرها إلا أن تطبخ حتى ينقص ثلثاها. وأما نقيع الزبيب والتمر فيحل مطبوخهما، وإن مسته النار مسا قليلا من غير اعتبار بحد. وأما النيء منه فحرام، ولكنه مع تحريمه إياه لا يوجب الحد فيه. وهذا كله ما لم يقع الإسكار، فإن وقع الإسكار استوى الجميع. هذه حكاية الإمام أبي عبد الله .

                                                                                              والصحيح ما ذهب إليه الجمهور على ما قررناه، والحمد لله.

                                                                                              وفي حديث أنس هذا أبواب من الفقه، منها: أن خبر الواحد كان معمولا به عندهم، معلوما لهم، ألا ترى أنهم لم يتوقفوا عند إخبار المخبر، بل بادروا إلى إتلاف الخمر، والامتناع مما كان مباحا لهم.

                                                                                              ومنها: أن نداء المنادي عن الأمير يتنزل في العمل منزلة سماع قوله .

                                                                                              ومنها: أن المحرم الأكل أو الشرب لا ينتفع به في شيء من الأشياء، لا من بيع، ولا من غيره.

                                                                                              وفيه: كسر أواني الخمر وعليه تخرج إحدى الروايتين عن مالك في كسرها; لما داخلها من الخمر، ولعسر غسلها، وفي الأخرى: إذا طبخ فيها الماء وغسلت جاز استعمالها، وعلى هذا فإذا كانت الأواني مضراة في الخمر لا ينتفع بها لشيء من الأشياء; تكسر على كل حال، ولذلك شدد مالك في الزقاق، فإن تعلق الرائحة بها عسر الانفكاك، بل لا ينفك.




                                                                                              الخدمات العلمية