الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              28 (6) باب

                                                                                              أول ما يجب على المكلفين

                                                                                              [ 16 ] عن ابن عباس ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال : إنك ستقدم على قوم أهل كتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل ، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم ، فإذا فعلوا ، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم ، وترد على فقرائهم ، فإذا أطاعوا بها ، فخذ منهم وتوق كرائم أموالهم .

                                                                                              وفي رواية عن ابن عباس ، عن معاذ ، قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنك تأتي قوما من أهل الكتاب ، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، فإن هم أطاعوا لذلك ، فأعلمهم أن الله افترض . . . وذكر الحديث نحوه ، وزاد : واتق دعوة المظلوم ; فإنه ليس بينها وبين الله حجاب .

                                                                                              رواه أحمد ( 1 \ 233 ) ، والبخاري ( 1458 ) و ( 4347 ) و (7371) ، ومسلم ( 19 ) ، وأبو داود ( 1584 ) ، والترمذي ( 625 ) ، والنسائي ( 5 \ 52 و 55 ) ، وابن ماجه ( 1783 ) .

                                                                                              [ ص: 181 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 181 ] (6) ومن باب أول ما يجب على المكلفين

                                                                                              (قوله : " إنك ستقدم على قوم أهل كتاب ") يعني به : اليهود والنصارى ; لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب ، وإنما نبهه على هذا ; ليتهيأ لمناظرتهم ، ويعد الأدلة لإفحامهم ; لأنهم أهل علم سابق ، بخلاف المشركين وعبدة الأوثان .

                                                                                              و (قوله : " فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله ") قد تقدم أن أصل العبادة التذلل والخضوع ، وسميت وظائف الشرع على المكلفين : عبادات ; لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى . والمراد بالعبادة هنا : هو النطق بشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ; كما جاء في الرواية الأخرى مفسرا : فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله .

                                                                                              و (قوله : " فإذا عرفوا الله ، فأخبرهم ") أي : إن أطاعوا بالنطق بذلك ، أي : بكلمتي التوحيد ; كما قال في الرواية الأخرى : فإن هم أطاعوا بذلك فأعلمهم ، فسمى الطواعية بذلك والنطق به : معرفة ; لأنه لا يكون غالبا إلا عن المعرفة . وهذا الذي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به معاذا ، هو الدعوة قبل القتال ; التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوصي بها أمراءه ، وقد اختلف في حكمها على ما يأتي في الجهاد .

                                                                                              وعلى هذا فلا يكون في حديث معاذ حجة لمن تمسك به من المتكلمين على أن أول واجب على كل مكلف : معرفة الله تعالى بالدليل والبرهان ، بل هو حجة لمن يقول : إن أول [ ص: 182 ] الواجبات التلفظ بكلمتي الشهادة ، مصدقا بها .

                                                                                              وقد اختلف المتكلمون في أول الواجبات على أقوال كثيرة ، منها ما يشنع ذكره ، ومنها ما ظهر ضعفه ، والذي عليه أئمة الفتوى ، وبهم يقتدى كمالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهم من أئمة السلف : أن أول الواجبات على المكلف : الإيمان التصديقي الجزمي الذي لا ريب معه بالله تعالى ورسله وكتبه ، وما جاءت به الرسل ، على ما تقرر في حديث جبريل ، كيفما حصل ذلك الإيمان ، وبأي طريق إليه توصل ، وأما النطق باللسان : فمظهر لما استقر في القلب من الإيمان ، وسبب ظاهر تترتب عليه أحكام الإسلام . وتفصيل ما أجملناه يستدعي تفصيلا وتطويلا يخرج عن المقصود ، ولعلنا بعون الله تعالى نكتب في هذه المسألة جزءا ; فإنها حرية بذلك .

                                                                                              وقد احتج بهذا الحديث من قال بأن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة ; وهو أحد القولين لأصحابنا وغيرهم ; من حيث إنه - عليه الصلاة والسلام - إنما خاطبهم بالتوحيد أولا ، فلما التزموا ذلك خاطبهم بالفروع التي هي الصلاة والزكاة ، وهذا لا حجة فيه ; لوجهين :

                                                                                              أحدهما : أنه لم ينص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه إنما قدم الخطاب بالتوحيد لما ذكروه ، بل يحتمل ذلك ، ويحتمل أن يقال : إنه إنما قدمه لكون الإيمان شرطا مصححا للأعمال الفروعية ، لا للخطاب بالفروع ; إذ لا يصح فعلها شرعا إلا بتقدم وجوده ، ويصح الخطاب بالإيمان وبالفروع معا في وقت واحد ، وإن كانت في الوجود متعاقبة ; كما بيناه في " الأصول " ; وهذا الاحتمال أظهر مما تمسكوا به ، ولو لم يكن أظهر ، فهو مساو له ; فيكون ذلك الخطاب مجملا بالنسبة إلى هذا الحكم .

                                                                                              وثانيهما : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رتب هذه القواعد ; ليبين الأوكد فالأوكد ، والأهم فالأهم ; كما بيناه في حديث ابن عمر الذي قبل هذا ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              [ ص: 183 ] واقتصار النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذكر القواعد الثلاث ; لأنها كانت هي المتعينة عليهم في ذلك الوقت المتأكد فيه ; ولا يظن أن الصوم والحج لم يكونا فرضا إذ ذاك ; لأن إرسال معاذ إلى اليمن كان في سنة تسع ، وقد كان فرض الحج ، وأما الصوم : ففرض في السنة الثانية من الهجرة ، ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ باليمن على الصحيح .

                                                                                              وقول من قال : إن الرواة سكتوا عن ذكر الصوم والحج ; قول فاسد ; لأن الحديث قد اشتهر ، واعتنى الناس بنقله سلفا وخلفا ; فلو ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له شيئا من ذلك لنقل .

                                                                                              و (قوله : " إن الله فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم ، فترد على فقرائهم ") دليل لمالك على أن الزكاة لا تجب قسمتها على الأصناف المذكورين في الآية ، وأنه يجوز للإمام أن يصرفها إلى صنف واحد من الأصناف المذكورين في الآية ; إذا رآه نظرا ومصلحة دينية ، وسيأتي هذا كاملا في كتاب الزكاة ، إن شاء الله تعالى .

                                                                                              وفيه دليل لمن يقول : يدفعها من وجبت عليه للإمام العدل ، الذي يضعها مواضعها ، ولا يجوز لمن وجبت عليه أن يلي تفرقتها بنفسه إذا أقام الإمام من تدفع إليه ، ومن ذلك تفصيل يعرف في الفروع .

                                                                                              و (قوله : " وإياك وكرائم أموالهم ") أي : خيارها ونفائسها ; حذره من ذلك ; نظرا لأرباب الأموال ، ورفقا بهم ، وكذلك أيضا : لا يأخذ من شرار المال ولا معيبه ; نظرا للفقراء ; فلو طابت نفس رب المال بشيء من كرائم أمواله ; جاز [ ص: 184 ] للمصدق أخذها منه ، ولو أن المصدق رأى أن يأخذ معيبة على وجه النظر والمصلحة للفقراء جاز .

                                                                                              و (قوله : " واتق دعوة المظلوم ; فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ") الرواية الصحيحة في " فإنه " بضمير المذكر ; على أن يكون ضمير الأمر والشأن ، ويحتمل : أن يعود على مذكر الدعوة ; فإن الدعوة دعاء .

                                                                                              ووقع في بعض النسخ : فإنها بهاء التأنيث ، وهو عائد على لفظ الدعوة . ويستفاد منه : تحريم الظلم ، وتخويف الظالم ، وإباحة الدعاء للمظلوم عليه ، والوعد الصدق بأن الله تعالى يستجيب للمظلوم فيه ، غير أنه قد تعجل الإجابة فيه ، وقد يؤخرها إملاء للظالم ; كما قال - عليه الصلاة والسلام - : إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ، وكما قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن الله تعالى يرفع دعوة المظلوم على الغمام ، ويقول لها : لأنصرنك ولو بعد حين .




                                                                                              الخدمات العلمية