الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4114 [ 2159 ] وعن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أهل الأجناد - أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه - فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام.

                                                                                              قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين! فدعوتهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا; فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء. فقال: ارتفعوا عني! ثم قال: ادع لي الأنصار! فدعوتهم له، فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني! ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح! فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه! فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! وكان عمر يكره خلافه - نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله! أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله؟ وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف - وكان متغيبا في بعض حاجته - فقال: إن عندي من هذا علما! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه. قال: فحمد الله عمر بن الخطاب، ثم انصرف.

                                                                                              زاد في رواية: وقال له أيضا: لو أنه رعى الجدبة وترك الخصبة أكنت معجزه؟ قال: نعم. قال: فسر إذن! قال: فسار حتى أتى المدينة، فقال: هذا المحل - أو هذا المنزل - إن شاء الله.

                                                                                              وفي أخرى: فرجع عمر من سرغ.

                                                                                              رواه أحمد (1 \ 194) والبخاري (5729) ومسلم (2219) (98 و 99 و 100) وأبو داود (3103).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقوله: " إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خرج إلى الشام " كان هذا الخروج منه بعدما فتح بيت المقدس سنة سبع عشرة على ما ذكره خليفة بن خياط ، وكان يتفقد أحوال رعيته وأحوال أمرائه، وكان قد خرج قبل ذلك إلى الشام لما حاصر أبو عبيدة إيلياء وهي البيت المقدس عندما سأل أهلها أن يكون صلحهم على يدي عمر ، فقدم وصالحهم ثم رجع، وذلك سنة ست عشرة من الهجرة.

                                                                                              وقوله: " حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد " " سرغ " رويناه بفتح الراء [ ص: 616 ] وسكونها، وهي قرية بتبوك - قاله ابن حبيب . قال ابن وضاح : بينها وبين المدينة ثلاث عشرة مرحلة، وقيل: هي آخر عمل الحجاز .

                                                                                              ففيه بيان ما يجب على الإمام من تفقد أحوال رعيته ومباشرة ذلك بنفسه، والسفر إلى ذلك وإن طال.

                                                                                              و " الأمراء " جمع أمير، وكان قد قسم الشام على أربعة أمراء، تحت كل واحد منهم جند وناحية: أبو عبيدة بن الجراح ، وشرحبيل بن حسنة ، ويزيد بن أبي سفيان ، ومعاذ بن جبل - ثم لم يمت عمر حتى جمع الشام لمعاوية.

                                                                                              وفيه دليل على إباحة العمل والولاية لمن كانت له أهلية ذلك من العلم والصلاح إذا اعتقدوا أنهم متمكنون من العمل بالحق والقيام به، فإذا عملوا بذلك حصل لهم أجر أئمة العدل.

                                                                                              وقوله: " ادع لي المهاجرين الأولين! فاستشارهم " دليل على استشارة أولي العلم والفضائل وتقديم أهل السوابق، وهذا من عمر - رضي الله عنه - عمل بقوله تعالى: وشاورهم في الأمر وقد استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه غير مرة، وإن كان أكمل الناس عقلا، وأغزرهم علما، ولكن كان ذلك ليسن ويطيب قلوب أصحابه.

                                                                                              و " المهاجرون الأولون " من صلى إلى [ ص: 617 ] القبلتين، وأما من لم يسلم إلا بعد تحويل القبلة فلا يعد في الأولين.

                                                                                              و " المشيخة " الشيوخ، وفيها لغات بكسر الشين وفتحها، والكسر أشهر. ويقال أيضا: شيوخا ومشايخ. وهذه كلها جمع شيخ، مع زيادة الميم. فأما من غير ميم فهو جمع شيوخ وأشياخ وشيخان وشيخة - بكسر الشين، فأما بالفتح فهي مؤنثة شيخ، فأما الشيخ فهو مصدر شاخ يشيخ، ويقال فيه شيخوخة.

                                                                                              و " مهاجرة الفتح " هم الذين هاجروا قبل الفتح بيسير، وقيل: هم مسلمة الفتح - وفيه بعد; لأن الهجرة قد ارتفعت بعد الفتح، وإنما أخرهم عمر عن غيرهم لتأخرهم في الإسلام والهجرة، ولكن استشارهم لشيخهم ولكمال خبرتهم للأمور، ولما استشارهم لم يختلف عليه منهم أحد، فترجح عنده رأيهم، ونادى في الناس: "إني مصبح على ظهر" أي: على ظهر طريق، أو ظهر بعير - مرتحلا "فأصبحوا عليه" أي: مرتحلين.

                                                                                              وهذا يدل على أنه إنما عزم على الرجوع لرأي أولئك المشيخة؛ لما ظهر أنه أرجح من رأي غيرهم ممن خالفهم، ووجه أرجحية هذا الرأي أنه جمع فيه بين الحزم والأخذ بالحذر وبين التوكل والإيمان بالقدر، وبيان ذلك بحجة عمر على أبي عبيدة - رضي الله عنهما - حين قال له " أفرارا من قدر الله؟! " وذلك أن أبا عبيدة ظهر له ألا يرجع ويتوكل على الله ويسلم للقدر; لأن ما يقدر عليه لا ينجيه منه رجوع ولا فرار، فأجابه عمر - رضي الله عنه - بأن قال له " لو غيرك قالها ! " أي: ليت غيرك يقول ذلك القول. [ ص: 618 ] فكأنه قال: لا يليق هذا القول بك لعلمك وفهمك، وإنما يليق ذلك بغيرك ممن قل علمه وقصر فهمه.

                                                                                              ثم احتج عليه بأن قال: " نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله " ; إذ لا محيص للإنسان عما قدره الله عليه، لكن أمرنا الله بالتحرز من المخاوف والهلكات، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات، والحذر، وجلب المنافع، ودفع الضرر، ثم المقصر في ذلك ملوم عادة وشرعا، ومنسوب إلى التفريط عقلا وسمعا، وإن زعم أنه المتوكل على الله المسلم لأمر الله.

                                                                                              ولما بين عمر ذلك المعنى بالمثال لاح الحق وارتفع الجدال، ثم لم يبرح عمر من مكانه حتى جاءه الحق ببرهانه، فحدثهم عبد الرحمن بما قاله في ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر بذلك عمر - رضي الله عنه - سرورا ظهر لديه، فحمد الله، وأثنى عليه؛ حيث توافق الرأي والسمع، وارتفع الخلاف، وحصل الجمع، فرجع من موضعه ذلك إلى المدينة سالما موفورا، وكان في سعيه ذلك مصيبا مشكورا.

                                                                                              وعند هذا يعلم الفطن العاقل أن تلك الأقوال التي حكيت عنه في ندمه على الرجوع من سرغ ومن فتياه بإباحة القدوم على الوباء والفرار منه لم يصح عنه شيء من ذلك، وكيف يندم على هذا النظر القويم ويرجع عن هذا المنهج المستقيم الذي قد تطابق عليه العقل والسمع، واصطحب عليه الرأي والشرع؟! هذا ما لا يكون، فالحاكون عنه هم المتقولون، والله تعالى أعلم.

                                                                                              ومن أعظم فوائد هذا الحديث إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على العمل بالرأي والاجتهاد وقبول أخبار الآحاد، كما بينا ذلك في الأصول.

                                                                                              [ ص: 619 ] وقوله: " هذا المحل " أي المدينة ، يعني أنها المحل الذي لا يرغب عنه، ولا يفضل غيره عليه، وإن كثر خصب البلاد، واتسع حال أهلها، يقال بكسر الحاء وفتحها، والفتح هو الأصل المطرد; لأن ما كان على فعل يفعل الأصل فيه أن يأتي المكان منه بالفتح، إلا أحرفا سمع فيها الكسر والفتح.

                                                                                              تكميل: قال أبو عمر رحمه الله: لم يبلغني أن أحدا من حملة العلم فر من الطاعون إلا ما ذكره ابن المديني أن علي بن زيد بن جدعان هرب من الطاعون إلى السيالة ، فكان يجمع كل جمعة ويرجع، فكان إذا جمع صاحوا به: فر من الطاعون! فطعن، فمات بالسيالة . وذكر أبو حاتم عن الأصمعي : هرب بعض البصريين من الطاعون فركب حمارا له، ومضى بأهله نحو سفوان ، فسمع حاديا يحدو خلفه:


                                                                                              لن يسبق الله على حمار ولا على ذي منعة طيار إذ يأتي الحتف على مقدار
                                                                                              قد يصبح الله أمام الساري



                                                                                              [ ص: 620 ] وذكر المدائني قال: وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان فخرج هاربا منه، فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها سكر ، فقدم عليه رسول لعبد الملك فقال له: ما اسمك؟ فقال: طالب بن مدرك . فقال: أوه! ما أراني راجعا إلى الفسطاط - فمات في تلك القرية.

                                                                                              وروى أبو عمر عن الأصمعي قال: لما وقع طاعون الجارف بالبصرة فني أهلها على ريح، وامتنع الناس من دفن موتاهم، فدخلت السباع البصرة على ريح الموتى، وخلت سكة بني جرير فلم يبق الله فيها سوى جارية، فسمعت صوت الذئب في سكتهم ليلا، فأنشأت تقول:


                                                                                              ألا أيها الذئب المنادي بسحرة إلي أنبئك الذي قد بدا ليا
                                                                                              بدا لي أني قد نعيت وإنني بقية قوم ورثوني البواكيا
                                                                                              وإني بلا شك سأتبع من مضى ويتبعني من بعد من كان تاليا






                                                                                              الخدمات العلمية