الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4385 (31) باب

                                                                                              قصة موسى مع الخضر عليه السلام

                                                                                              [ 2285 ] عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى عليه السلام صاحب بني إسرائيل ليس هو موسى صاحب الخضر عليه السلام، فقال: كذب عدو الله، سمعت أبي بن كعب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قام موسى عليه السلام خطيبا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم. قال: فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه أن عبدا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى عليه السلام: أي رب ! كيف لي به؟ فقيل له: احمل حوتا - في رواية: مالحا - في مكتل، فحيث تفقد الحوت فهو ثم، فانطلق وانطلق معه فتاه - وهو يوشع بن نون - فحمل موسى عليه السلام حوتا في مكتل وانطلق هو وفتاه يمشيان، حتى أتيا الصخرة فرقد موسى عليه السلام وفتاه، فاضطرب الحوت في المكتل حتى خرج من المكتل، فسقط في البحر، قال: وأمسك الله عنه جرية الماء حتى كان مثل الطاق، فكان للحوت سربا، وكان لموسى وفتاه عجبا، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، ونسي صاحب موسى أن يخبره، فلما أصبح موسى عليه السلام قال لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا [الكهف: 62] قال: ولم ينصب موسى حتى جاوز المكان الذي أمر به قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا [الكهف: 63] قال موسى: ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا [الكهف: 64] قال: يقصان آثارهما حتى أتيا الصخرة فرأى رجلا مسجى عليه بثوب - وفي رواية: مستلقيا على القفا، أو قال: على حلاوة القفا - فسلم عليه موسى، فقال له الخضر: أنى بأرضك السلام، من أنت؟ ! قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم - وفي رواية: قال: مجيء ما جاء بك؟ ! قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدا، قال: إنك على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، قال له موسى عليه السلام: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا [الكهف: 66 - 69] قال له الخضر: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا [الكهف: 70]. قال: نعم، فانطلق الخضر وموسى يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة، فكلماهم أن يحملوهما، فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول، فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا، قال: قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا [الكهف: 72 - 73] ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل إذا غلام يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه، فاقتلعه بيده، فقتله - وفي رواية: فذعر عندها موسى عليه السلام ذعرة منكرة - فقال موسى: أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا [الكهف: 74]. قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا [الكهف: 75] قال: وهذه أشد من الأولى، قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية [الكهف: 76 - 77] - وفي رواية: لئاما - فطافا في المجالس ف استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض [الكهف: 77] يقول: مائل، قال الخضر بيده هكذا، فأقامه، قال له موسى: قوم أتيناهم فلم يضيفونا، ولم يطعمونا لو شئت لاتخذت عليه أجرا [الكهف: 77]. قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا [الكهف: 78] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله موسى، لوددت أنه كان صبر، حتى يقص علينا من أخبارهما". قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كانت الأولى من موسى نسيانا". قال: "وجاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة، ثم نقر في البحر فقال له الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر".

                                                                                              قال سعيد بن جبير: وكان يقرأ: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا)، وكان يقرأ: (وأما الغلام فكان كافرا).

                                                                                              وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحمة الله علينا وعلى موسى لولا أنه عجل لرأى العجب، ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة. قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا [الكهف: 76] ولو صبر لرأى العجب".

                                                                                              قال: وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه: "رحمة الله علينا وعلى أخي كذا، رحمة الله علينا".

                                                                                              وقال بعد قوله: هذا فراق بيني وبينك أخذ بثوبه قال: سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فإذا جاء الذي يسخرها وجدها منخرقة فتجاوزها، فأصلحوها بخشبة، وأما الغلام فطبع يوم طبع كافرا، وكان أبواه قد عطفا عليه، فلو أنه أدرك أرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة... إلى آخر الآية. [الكهف: 81 و 82].

                                                                                              رواه أحمد ( 5 \ 117 )، والبخاري (4726)، ومسلم (2380) (170-174)، وأبو داود (4705-4707)، والترمذي (3148).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (31) ومن باب قصة موسى مع الخضر - عليهما السلام -

                                                                                              .. قوله: " إن نوفا البكالي "، لم يختلف في أن نوفا هو بفتح النون، وإسكان الواو وفتح الفاء منونة، وأما البكالي: فروايتي فيه بكسر الباء، وفتح الكاف وتخفيفها على كل من قرأته عليه في البخاري ومسلم ، وهي المعروفة، وقد ضبطها الخشني ، وأبو بكر - بفتح الباء والكاف، وتشديد الكاف - والأول الصواب. وبكال : بطن من حمير ، وقيل: من همدان ، وإليهم ينسب نوف هذا، وهو نوف بن فضالة على ما قاله ابن دريد ، وغيره. يكنى بأبي زيد ، وكان عالما فاضلا، وإماما لأهل دمشق ، وقيل: هو ابن امرأة كعب الأحبار ، وقيل: ابن أخته.

                                                                                              و (قول ابن عباس : " كذب عدو الله ") قول أصدره غضب على من يتكلم بما لم يصح، فهو إغلاظ، وردع، وقد صار غير نوف إلى ما قاله نوف ، لكن الصحيح ما قاله ابن عباس على ما حكاه في الحديث.

                                                                                              [ ص: 194 ] و (قوله: " قام موسى خطيبا، فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ") مساق هذه الرواية هو أكمل ما سيق الحديث عليه فلنبحث فيه، وظاهر هذا اللفظ: أن الذي عتب الله تعالى على موسى إنما هو أن قال: أنا أعلم. فأضاف الأعلمية إليه، ولم يقل: الله أعلم بمن هو أعلم الناس، فيفوض ذلك إلى الله، فيكون هذا من نوع ما عتبه النبي صلى الله عليه وسلم على لوط عليه السلام حيث قال: قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد [هود: 80] وسيأتي تكميل هذا المعنى في كتاب التفسير - إن شاء الله تعالى -. فكان الأولى بموسى عليه السلام أن يقول: الله أعلم بمن هو أعلم الناس، لكن لما لم يعلم في زمانه رسولا آتاه الله كتابا فيه علم كل شيء وتفصيل الأحكام سواه، قال ذلك حسب ما كان في علمه. لكنه تعالى لم يرض منه بذلك لكمال معرفته بالله تعالى، ولعلو منصبه. وفي بعض طرق البخاري : أن السائل قال لموسى : هل في الأرض أعلم منك؟ قال: لا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه.

                                                                                              قلت: وهذان اللفظان هما اللذان يتوجه العتب على موسى فيهما، وقد روي بألفاظ أخر، يبعد توجه العتب عليها، فقد روي أنه قال: لا أعلم في الأرض خيرا ولا أعلم مني. وفي أخرى قيل له: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ فقال: لا. فهذان اللفظان قد نفى فيهما العلم فيما سئل عنه عن نفسه، وهو حق صحيح وتبرؤ صريح، فكيف يتوجه على من قال مثل ذلك عتب، أو ينسب إلى تقصير؟ فالصحيح من حيث المعنى الذي صدر من موسى عليه السلام معنى اللفظين السابقين، فإنه جزم فيهما بأنه أعلم أهل الأرض، وهذا محل العتب على مثله، [ ص: 195 ] فإنه كان الأولى به أن يفوض علم ذلك إلى الله تعالى، وهذا يدل على صحة ما قلناه فيما تقدم من أن الذنوب المنسوبة إلى الأنبياء المعددة عليهم إنما هي من باب ترك الأولى، وعوتبوا عليها بحسب مقاديرهم، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين.

                                                                                              و (قوله تعالى: " إن عبدا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك "، وفي الرواية الأخرى: " بل عبدنا الخضر ") اسم الخضر : بليا بن ملكان على ما قاله بعض المفسرين، وسمي الخضر ؛ لأنه كان أينما صلى اخضر ما حوله، وفي الترمذي من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ". وقال: هذا حديث حسن صحيح.

                                                                                              و " مجمع البحرين ": ملقاهما. قال قتادة : هما بحرا فارس والروم . السدي : هي الكر . والرس بأرمينية ، أبي: وهما بإفريقية . القرطبي : بطنجة . وحكي عن ابن عباس : إن بحري العلم: الخضر وموسى ، وكأن هذا لا يصح عنه، والله أعلم.

                                                                                              و (قوله: " هو أعلم منك ") أي: بأحكام مفصلة، وحكم نوازل معينة، لا مطلقا، بدليل قول الخضر لموسى : إنك على علم علمكه الله لا أعلمه أنا، وأنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت . وعلى هذا فيصدق على كل واحد منهما: أنه أعلم من الآخر بالنسبة إلى ما يعلمه كل واحد منهما، ولا يعلمه الآخر.

                                                                                              فلما سمع موسى هذا تشوفت نفسه الفاضلة، وهمته العالية لتحصيل علم ما لم يعلم، وللقاء [ ص: 196 ] من قيل فيه: إنه أعلم، فعزم فسأل سؤال الذليل: كيف السبيل؟ فأمر بالارتحال على كل حال، وقيل: له: احمل معك حوتا مالحا في مكتل، وهو الزنبيل. فحيث يحيا وتفقده فثم السبيل، فانطلق مع فتاه لما واتاه، مجتهدا طلبا قائلا: لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا [الكهف: 60] والحقب: بضم الحاء والقاف: الدهر، والجمع أحقاب، وبضم الحاء وسكون القاف، ثمانون سنة، ويقال أكثر من ذلك، والجمع حقاب، والحقبة بكسر الحاء، واحدة الحقب، وهي: السنون. من الصحاح.

                                                                                              وفيه من الفقه: رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم، والصاحب، واغتنام لقاء الفضلاء، والعلماء، وإن بعدت أقطارهم، وذلك كان دأب السلف الصالح، وبسبب ذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح، وحصلوا على السعي الناجح، فرسخت في العلوم لهم أقدام، وصح لهم من الذكر والأجر أفضل الأقسام. ثم إن موسى أزعجه القلق، فانطلق مغمورا بما عنده من الشوق والحرق، يمشي مع فتاه على الشط، ولا يبالي بمن حط، لا يجد نصبا، ولا يخطئ سببا. إلى أن أويا إلى الصخرة فناما في ظلها. قال بعض المفسرين: وكانت على مجمع البحرين، وعندها ماء الحياة - حكى معناها الترمذي عن سفيان بن عيينة - فانتضح منه على الحوت فحيي واضطرب، فخرج من المكتل يضطرب حتى سقط في الماء، فأمسك الله جرية الماء عن موضع دخوله حتى كان مثل الطاق، وهو النقب الذي يدخل منه.

                                                                                              [ ص: 197 ] و (قوله: " فكان للحوت سربا ") أي: مسلكا. عن مجاهد قال قتادة : جمد الماء فصار كالسرب.

                                                                                              و (قوله: " وكان لموسى وفتاه عجبا ") لما تذكرا، فرجعا، فعجبا من قدرة الله على إحياء الحوت، ومن إمساك جري الماء حتى صار بحيث يسلك فيه.

                                                                                              و (قوله: " فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ") يعني: بعد أن قاما من نومهما، ونسيا حوتهما، أي: غفلا عنه، ولم يطلباه لاستعجالهما. وقيل: نسي يوشع الحوت، وموسى أن يأمره فيه بشيء. وقيل: نسي يوشع فنسب النسيان إليهما للصحبة، كقوله تعالى: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [الرحمن: 22] وعلى هذا القول يدل قوله في الحديث: " ونسي صاحب موسى أن يخبره "، ويظهر منه: أن يوشع أبصر ما كان من الحوت ونسي أن يخبر موسى في ذلك الوقت.

                                                                                              و (قوله: " فلما أصبح قال موسى : لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا [الكهف: 62]. ) هذا يدل على أنهما كانا تزودا، وقيل: كان زادهما الحوت، وكان مملحا.

                                                                                              قلت: والظاهر من الحديث: أنه إنما حمل الحوت معه، ليكون فقده دليلا على موضع الخضر ، كما تقدم من قوله تعالى لموسى : " احمل معك حوتا في مكتل، فحيث تفقد الحوت فهو ثم "، وعلى هذا فيكون تزودا شيئا آخر غير الحوت. والنصب: التعب والمشقة. وقيل: عنى به هنا: الجوع.

                                                                                              وفيه دليل على جواز الإخبار بما يجده الإنسان من الألم والأمراض، وأن ذلك لا يقدح في الرضا، ولا في التسليم للقضاء، لكن إذا لم يصدر ذلك عن ضجر ولا تسخط.

                                                                                              [ ص: 198 ] و (قوله: " ولم ينصب حتى جاوز المكان الذي أمر به ") أي: لم يجد موسى ألم النصب إلا بعد أن جاوز موضع فقد الحوت، وكأن الله تعالى جعل وجدان النصب بسبب طلب الغداء سبب تذكر ما كان من الحوت. ومن هنا قيل: إن النصب هنا هو الجوع.

                                                                                              و (قوله: " أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ") هذا قول يوشع جوابا لموسى ، وإخبارا له عما جرى. ومعنى أوينا انضممنا، وهي هنا بقصر الهمزة لأنه لازم، وقد تقدم ذكر الخلاف في المتعدي في قصره ومده. ونسبة الفتى النسيان إلى نفسه نسبة عادية لا حقيقية.

                                                                                              و (قوله: وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره [الكهف: 63]. ) أن مع الفعل بتأويل المصدر، وهو منصوب بدل اشتمال من الضمير في أنسانيه، وهو بدل الظاهر من المضمر، وهذا إنما ذكره يوشع في معرض الاعتذار، وذلك أن في البخاري : أن موسى قال لفتاه: " لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، فاعتذر بذلك القول "، ويعني بذلك: أن الشيطان سبب للنسيان، والغفلة، بما يورده على القلب من الخوض في غير المعنى المطلوب، ومن المعلوم أن النسيان لا صنع فيه للإنسان، وأنه مغلوب عليه، ولذلك لم يؤاخذ الله تعالى به، وإنما محل المؤاخذة الإهمال والتفريط. والانصراف عن الأمور المهمة إلى ما ليس بمهم حتى ينسى المهم، وهذا هو فعل الشيطان المذموم أن يشغل ذكر الإنسان بما ليس بمهم، ويزينه له حتى ينصرف عن المهم فيذم على ذلك ويعاقب، فيحصل مقصود الشيطان من الإنسان.

                                                                                              و (قوله: واتخذ سبيله في البحر عجبا [الكهف: 63]. ) أي: اتخذ الحوت [ ص: 199 ] طريقه في البحر سربا، تعجب منه يوشع ، ويتعجب به غيره ممن شاهده، أو سمع قضيته.

                                                                                              و نبغ نطلب. و فارتدا : رجعا. و قصصا تتبعا لآثار طريقهما. و الصخرة هي التي كان أويا إليها. و " المسجى ": المغطى. و " مستلقيا على القفا " أي: مباشرا بظهره وقفاه الأرض مستقبلا بوجهه السماء كهيئة الميت.

                                                                                              و (قوله: " أو على حلاوة القفا ") شك من بعض الرواة. و " حلاوة القفا " يعني بها - والله أعلم -: أن هذه الضجعة مما تستحلى، لأنها ضجعة استراحة، فكأنه قال: أو حلاوة ضجعة القفا، ويقال بضم الحاء وفتحها، وحلاء بالضم والمد، وبه وبالقصر، وكأن هذه الضجعة من الخضر كانت بعد تعب عبادة. وآثر هذه الضجعة لما فيها من تردد البصر في المخلوقات، ورؤية عجائب السماوات، فكأن الخضر في هذه الضجعة متفرغ عن الخليقة، مملوء بما لاح له من الحق والحقيقة، ولذلك لما سلم عليه موسى عليه السلام كشف الثوب عن وجهه، وقال: وعليك السلام، من أنت؟

                                                                                              و (قوله: " أنى بأرضك السلام ") معناه: من أين تعرف السلام بهذه الأرض التي أنت فيها؟ ! وهذا يحتمل وجهين:

                                                                                              أحدهما: أن ذلك الموضع كان قفرا لم يكن به أحد يصحبه، ولا أنيس فيكلمه، ويحتمل أن يكون أهل ذلك الموضع لا يعرفون السلام الذي سلم به موسى ، إما لأنهم ليسوا على دين موسى ، وإما لأنه ليس من كلامهم.

                                                                                              و " أنى " تأتي بمعنى: حيث، وكيف، وأين، ومتى. حكاه القاضي . وفي هذا من الفقه: تسليم القائم على المضطجع، وهذا القول من الخضر كان بعد أن رد عليه السلام، [ ص: 200 ] لا قبله، كما قد ذكرناه، ومساق هذه الرواية يدل: على أن اجتماع موسى عليه السلام بالخضر كان في البر عند الصخرة، وهو ظاهر قوله: " حتى إذا أتى الصخرة فرأى رجلا مسجى "، وفي بعض طرق البخاري : " حتى أتى الصخرة، فإذا رجل مسجى " فعطفه بالفاء المعقبة، وإذا المفاجئة، غير أنه قد ذكر البخاري ما يقتضي أنه رآه في كبد البحر، وذلك أنه قال فيها: فوجد خضرا على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه، وجعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه. و " كبد البحر ": وسطه. وهذا يدل على أنه اجتمع به في البحر، ويحتمل أن موسى مشى على الماء، وتلاقيا عليه، وهذا لا يستبعد على موسى والخضر ، فإن الذي خرق لهما من العادة أكثر من هذا وأعظم. وعلى هذا فهذه الزيادة تضم إلى الرواية المتقدمة، ويجمع بينهما بأن يقال: إن وصول موسى للصخرة، واجتماعه مع الخضر كان في زمان متقارب، أو وقت واحد لطي الأرض، وتسخير البحر، والقدرة صالحة، وهذه الحالة خارقة للعادة، ولما كان كذلك عبر عنها بصيغ التعقيب والاتصال، والله تعالى أعلم.

                                                                                              و (قوله: " نعم ") هو حرف جواب في الإيجاب، فكأنه قال: أنا موسى بني إسرائيل ، فهو نص في الرد على نوف ، وعلى من قال بقوله: وهم أكثر اليهود .

                                                                                              و (قوله: " مجيء ما جاء بك ") قيدها ابن ماهان بالهمز والتنوين، وعلى هذا تكون " ما " نكرة صفة لمجيء، وهي التي تكون للتفخيم والتعظيم، كقولهم: لأمر ما تسود من تسود، ولأمر ما تدرعت الدروع. فيكون معناه: مجيء عظيم، وأمر مهم حملك على أن تركت ما كنت عليه من أمر بني إسرائيل ، واقتحمت الأسفار، [ ص: 201 ] وقطع المفاوز والقفار. وقد زاد فيه بعض الرواة: " أن الخضر قال له: وعليك السلام، أنى بأرضنا يا نبي بني إسرائيل ، أما كان لك فيهم شغل؟ ! قال: بلى ولكني أمرت أن أصحبك، مستفيدا منك ". فأجاب بجواب المتعلم المسترشد بين يدي العالم المرشد ملازما للأدب والحرمة، ومعظما لمن شرفه الله بالعلم، وأعلى رسمه فقال: جئتك لتعلمني مما علمت رشدا. قرأه الجماعة بضم الراء وسكون الشين، وقرأه يعقوب وأبو عمرو بالفتح فيهما، وهما لغتان، ويقال: رشد: بالفتح يرشد رشدا بالضم، ورشد بالكسر يرشد رشدا بالفتح، ومعنى الرشد: الاستقامة في الأمور، وإصابة وجه السداد، والصواب فيها، وضده الغي. وهو منصوب على المصدر، ويكون في موضع الحال، ويصح أن يكون مفعولا من أجله، وفيه من الفقه التذلل، والتواضع للعالم، وبين يديه، واستئذانه في سؤاله، والمبالغة في احترامه وإعظامه، ومن لم يفعل هكذا فليس على سنة الأنبياء، ولا على هديهم، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه ".

                                                                                              و (قوله: " إنك على علم من علم الله علمكه الله، لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت ") ظاهر هذا: أن الخضر كان لا يعلم التوراة، ولا ما علمه موسى من الأحكام، وقد جاء هذا الكلام في بعض روايات البخاري بغير هذا اللفظ، وبزيادة فيه، فقال: " أما يكفيك أن التوراة بين يديك، وأن الوحي يأتيك يا موسى ؟ إن لي علما لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علما لا ينبغي لي أن أعلمه ".

                                                                                              [ ص: 202 ] قلت: ولا بعد فيما ظهر من رواية مسلم ؛ لأن الخضر إن كان نبيا فقد اكتفى بما تعبده الله به من الأحكام، وإن كان غير نبي فليس متعبدا بشريعة بني إسرائيل ، إذ يمكن أن لا يكون منهم. والله أعلم، وسيأتي القول في نبوته. وأما مساق رواية البخاري ، فهو مساق حسن لا يرد عليه من هذا الاستبعاد شيء؛ لأن مقتضاه: أن لكل واحد منهما علما خاصا به لا يعلمه الآخر، ويجوز أن يشتركا في علم التوراة، وغيرها مما شاء الله أن يشركهما فيه من العلوم، ويظهر لي أن الذي خص به موسى عليه السلام: العلم بالأحكام، والمصالح الكلية التي تنتظم بها مصالح الدنيا؛ لأنه أرسل إلى عامة بني إسرائيل .

                                                                                              وقول موسى : هل أتبعك على أن تعلمن [الكهف: 66]. ، سؤال ملاطفة، أي: هل يمكن كوني معك حتى أتعلم منك؟ فأجابه بما يقتضي أن ذلك ممكن لولا المانع الذي من جهتك، وهو عدم صبرك، فقال جازما في قضيته، لما علمه من حالته: إنك لن تستطيع معي صبرا [الكهف: 67]. ، ثم بين وجه عذره عن ذلك بقوله: وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا [الكهف: 68]. ، معناه: إنك لا تصبر عن الإنكار والسؤال، وأنت في ذلك كالمعذور، لأنك تشاهد أمورا ظاهرة، ولا تعرف بواطنها وأسرارها. وانتصبت خبرا على التمييز المنقول عن الفاعل، وقيل: على المصدر الملاقي في المعنى؛ لأن قوله: لم تحط معناه: لم تخبر، فكأنه قال: لم تخبره خبرا، وإليه أشار مجاهد . والخبير بالأمور: هو العالم بخفاياها، وبما يختبر منها.

                                                                                              وقوله: قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا [الكهف: 69]. ، [ ص: 203 ] هذا تفويض إلى الله تعالى في الصبر، وجزم بنفي المعصية، وإنما كان منه ذلك؛ لأن الصبر أمر مستقبل، ولا يدري كيف يكون حاله فيه، ونفي المعصية معزوم عليه حاصل في الحال، فالاستثناء فيه ينافي العزم عليه، والله تعالى أعلم. ويمكن أن يفرق بينهما بأن الصبر ليس مكتسبا لنا بخلاف فعل المعصية وتركها، فإن ذلك كله مكتسب لنا.

                                                                                              وقوله: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا [الكهف: 70]. ، هذا من الخضر تأديب، وإرشاد لما يقتضي دوام الصحبة، ووعد بأنه يعرفه بأسرار ما يراه من العجائب، فلو صبر ودأب لرأى العجب، لكنه أكثر من الاعتراض، فتعين الفراق والإعراض.

                                                                                              و (قوله: " فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ") يعني: الخضر وموسى ، ولم يذكر معهما فتى موسى ، فدل على أنه لم يكن معهما، أو أنه تخلف عنهما، ويحتمل أنه اكتفى بذكر المتبوع عن التابع.

                                                                                              و (قوله: " فعرفوا الخضر ، فحملوهما بغير نول ") أي: بغير شيء ناله أصحاب السفينة منهما، أي: بغير جعل، والنول والنال والنيل: العطاء. وفيه ما يدل على قبول الرجل الصالح ما يكرمه به من يعتقد فيه صلاحا، ما لم يتسبب هو بإظهار صلاحه لذلك، فيكون قد أكل بدينه وذلك محرم وربا.

                                                                                              [ ص: 204 ] وقوله: لتغرق أهلها [الكهف: 71]. ، قرأه حمزة والكسائي بالمثناة تحت مفتوحة. وأصلها بالرفع على أنه فاعل يغرق، والباقون بمثناة فوق مضمومة. أهلها: بالنصب، فعلى الأول تكون اللام للمآل، كما قال تعالى: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا [القصص: 8] وعليها: فلم ينسب له أنه أراد الإغراق، وعلى القراءة الثانية: تكون اللام: لام كي، ويكون نسب إليه: أنه قصد بفعله ذلك إغراقهم، وحمله على ذلك فرط الشفقة عليهم، ولأنهم قد أحسنوا فلا يقابلون بالإساءة، ولم يقل: لتغرقني؛ لأن الذي غلبت عليه في الحال: فرط الشفقة عليهم، ومراعاة حقهم.

                                                                                              وقوله: لقد جئت شيئا إمرا [الكهف: 71]. ، أي: ضعيف الحجة، يقال: رجل إمر: أي: ضعيف الرأي ذاهبه، يحتاج إلى أن يؤمر، قال معناه أبو عبيد . مجاهد : منكرا. مقاتل : عجبا. الأخفش : يقال: أمر أمره، يأمر أمرا، أي: اشتد، والاسم: الإمر. قال الراجز:


                                                                                              قد لقي الأقران مني نكرا داهية دهياء إدا إمرا

                                                                                              وفيه من الفقه: العمل بالمصالح، إذا تحقق وجهها، وجواز إصلاح كل المال بفساد بعضه.

                                                                                              وقوله: لا تؤاخذني بما نسيت [الكهف: 73]. ، أي: من عهدك، فتكون " ما " مع الفعل بتأويل المصدر، أي: سهوي وغفلتي. وصدق، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كانت الأولى من موسى نسيانا ".

                                                                                              وقوله: ولا ترهقني من أمري عسرا [الكهف: 73]. ، أي: لا تفندني فيما [ ص: 205 ] تركته، قاله الضحاك . وقال مقاتل : لا تكلفني ما لا أقدر عليه من التحفظ عن السهو.

                                                                                              و (قوله: " فإذا غلام يلعب مع الغلمان ") قد تقدم: أن الغلام في الرجال يقال على من لم يبلغ، ويقابله الجارية في النساء. قال الكلبي : اسم هذا الغلام: شمعون . وقال الضحاك : حيسون . وقال وهب : اسم أبيه سلاس ، واسم أمه: رحمى ، وقال ابن عباس : كان شابا يقطع الطريق .

                                                                                              قلت : ويظهر من كلام ابن عباس هذا: أنه كان بالغا، وأنه بلغ سن التكليف، وليس هذا معروفا في إطلاق اسم الغلام في اللغة، ومساق الحديث يدل على أنه لم يبلغ سن التكليف، فلعل هذا القول لم يصح عن ابن عباس . بل الصحيح عنه: أنه كان لم يبلغ ، كما يأتي.

                                                                                              و (قوله: " فذعر موسى عند هذا ذعرة شديدة ") أي: فزع فزعا شديدا عند هذه الفعلة التي هي قتله الغلام، وعند ذلك لم يتمالك موسى أن بادر بالإنكار، تاركا للاعتذار، فقال: أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا [الكهف: 74]. هذه قراءة العامة، وقرأه الكوفيون، وابن عامر : زكية بغير ألف، وتشديد الياء. قال ثعلب : الزكية أبلغ. قال أبو عبيد : الزكية في الدين، والزاكية في البدن. قال الكسائي : هما بمعنى واحد، كقاسية وقسية. ابن عباس : مسلمة. أبو عمرو : التي [ ص: 206 ] ما حل ذنبها. ابن جبير : يريد على الظاهر.

                                                                                              وقوله: بغير نفس ، يعني: لم تقتل نفسا فتستحق القتل و " النكر ": أشد المنكر، وأفحشه، قاله قتادة . وفيه لغتان: ضم الكاف، وسكونها، وقرئ بهما. وهذه بادرة من موسى ترك بها كل ما كان التزم له من الصبر، وترك المخالفة، لكن حمله على ذلك: استقباح ظاهر الحال، وتحريم ذلك في شرعه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " وهذه أشد من الأولى ".

                                                                                              و (قوله: " رحمة الله علينا وعلى موسى ") قال الراوي: وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه. هذا إنما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في الأدعية وأشباهها، مما يعود عليه بالثواب والأجر الأخروي، حرصا على تحصيل المنازل الرفيعة عند الله تعالى، كما قال في الوسيلة: " إنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو ".

                                                                                              وحاصله: أن القرب من الله تعالى، وثوابه ليس مما يؤثر الغير به بل تنبغي المنافسة فيه، والمسابقة إليه، بخلاف أمور الدنيا، وحظوظها، فإن الفضل في تركها، وإيثار الغير بما يحوز منها.

                                                                                              و (قوله: " ولكنه أخذته ذمامة من صاحبه ") هو بالذال المعجمة مفتوحة، وهي بمعنى: المذمة - بفتح الذال وكسرها - وهي: الرقة، والعار من ترك الحرمة. يقال: أخذتني منه مذمة ومذمة، وذمامة، بمعناه، وكأنه استحيا من تكرار مخالفته، ومما صدر عنه من تغليظ الإنكار.

                                                                                              وقوله: قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا ، إنما [ ص: 207 ] ذكر (لك) في هذه المرة، ولم يذكرها في الأولى مقابلة له على قلة احترامه في هذه الكرة، فإن مقابلته ب: (لك) مع كاف خطاب المفرد يشعر بقلة احترامه. والله أعلم.

                                                                                              وقوله: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني [الكهف: 76]. ، هذا القول أبرزه من موسى استحياؤه من كثرة المخالفة، وتهديده لنفسه عند معاودتها للاعتراض بالمفارقة.

                                                                                              وقوله: قد بلغت من لدني عذرا [الكهف: 76]. ، أي: قد صرت عندي معذورا، وقد تقدم الفرق بين لدني وعندي، وأن في لدني لغات، وقرئت: (من لدني) بضم الدال، [وتخفيف النون، وسكون الدال، وإشمامها الضم، وتخفيف النون لأبي بكر عن عاصم . وبضم الدال]، وتشديد النون، والأولى لنافع والثالثة للباقين.

                                                                                              وقوله: فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية لئام ف استطعما أهلها [الكهف: 77]. قال قتادة : القرية أيلة . وقيل: أنطاكية . و " لئام " هنا: بخلاء، واللؤم في الأصل: هو البخل مع دناءة الآباء. و " الاستطعام ": سؤال الطعام، والمراد به هنا: أنهما سألا الضيافة بدليل قوله تعالى: فأبوا أن يضيفوهما فاستحق أهل القرية أن يذموا وينسبوا إلى اللؤم كما وصفهم بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، ويظهر من ذلك: أن الضيافة كانت عليهم واجبة، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما يجب لهما من الضيافة. وهذا هو الأليق بحال الأنبياء والفضلاء، وبعيد أن يذم من ترك المندوب هذا الذم، مع أنه يحتمل أن يقال: إن الضيافة لما كانت من المكارم المعروفة المعتادة عند أهل البوادي، ذم المتخلف عنها عادة، كما قد قالوا: " شر [ ص: 208 ] القرى التي تبخل بالقرى " ويحتمل أن يكون سؤالهما الضيافة عند حاجتهما إلى ذلك، وقد بينا: أن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يرد به جوعه، ففيه ما يدل: على جواز المطالبة بالضيافة، كما قال صلى الله عليه وسلم: " إذا نزلتم بقوم فلم يضيفوكم فاطلبوا منهم حق الضيف ". وقد تقدم القول في الضيافة وأحكامها، ويعفو الله عن الحريري ، فإنه تسخف في هذه الآية وتمجن، فاستدل بها على الكدية والإلحاح فيها، وأن ذلك ليس بعيب على فاعله ولا منقصة عليه فقال:


                                                                                              فإن رددت فما بالرد منقصة     عليك قد رد موسى قبل والخضر

                                                                                              وهذا لعب بالدين، وانسلال عن احترام النبيين، فهي: شنشنة أدبية وهفوة سخافية، ويرحم الله السلف الصالح فإنهم بالغوا في وصية كل ذي عقل راجح، فقالوا: مهما كنت لاعبا بشيء، فإياك أن تلعب بدينك.

                                                                                              وقوله: فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه [الكهف: 77]. ، الجدار: الحائط. وينقض: يسقط. ووصفه بالإرادة مجاز مستعمل، وقد فسره في الحديث بقوله: " يقول: مائل " فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن، وهو مذهب الجمهور، ومما يدل على استعمال ذلك المجاز وشهرته، قول الشاعر:


                                                                                              يريد الرمح صدر أبي براء     ويرغب عن دماء بني عقيل

                                                                                              وقال آخر:


                                                                                              إن دهرا يلف شملي بسلمى     لزمان يهم بالإحسان

                                                                                              [ ص: 209 ] وقال آخر:


                                                                                              في مهمه فلقت به هاماتنا     فلق الفؤوس إذا أردنا نصولا

                                                                                              والنصول هنا: الثبوت في الأرض، من قولهم: نصل السهم: إذا ثبت في الرمية، فشبه وقع السيوف على رؤوسهم بوقع الفؤوس في الأرض الشديدة، فإن الفأس يقع فيها ويثبت، ولا يكاد يخرج. والمجاز موجود في القرآن والسنة كما هو موجود في كلام العرب، وقد استوفينا مباحث هذه المسألة في الأصول.

                                                                                              و (قوله: " قال الخضر بيده - هكذا - فأقامه ") يعني به أنه أشار إليه بيده، فقام. فيه دليل على كرامات الأولياء، وكذلك كل ما وصف عن أحوال الخضر في هذا الحديث، وكلها أمور خارقة للعادة. هذا إذا تنزلنا على أنه ولي لا نبي، وقد اختلف فيه أئمة أهل السنة . والظاهر من مساق قصته واستقراء أحواله، مع قوله: وما فعلته عن أمري أنه نبي يوحى إليه بالتكاليف والأحكام، كما أوحي إلى الأنبياء، غير أنه ليس برسول.

                                                                                              وقوله: (لو شئت لتخذت عليه أجرا) [الكهف: 77]. هذه قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ويعقوب ، وقراءة غيرهم: لاتخذت [الكهف: 77] وهما لغتان بمعنى واحد من [ ص: 210 ] الأخذ، وهذه صدرت من موسى سؤالا على جهة العرض، لا الاعتراض، فعند ذلك قال له الخضر : هذا فراق بيني وبينك ، أي: هذا وقت ذلك، بحكم ما شرطته على نفسك، ثم وعده بأن يخبره بحكم تلك الأحكام، فقال: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ، القراءة المتواترة بتخفيف السين، جمع مسكين. سموا بذلك على جهة الشفقة والترحم، وقيل: كانوا فيها أجراء، وروي عن ابن عباس أنه قرأها: (مساكين) بتشديد السين، جمع مساك، لإمساكهم السفينة، قيل: كانوا عشرة، خمسة منهم يعملون في البحر، وخمسة منهم زمنى، وقد تقدم الفرق بين المسكين والفقير في كتاب الزكاة.

                                                                                              وقوله: وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا [الكهف: 79]. ، وراء في أصلها: بمعنى خلف، فقال بعض المفسرين: إنه كان خلفهم، وكان رجوعهم عليه، والأكثر على أن معنى وراء هنا: أمام، وهذا القول أولى لقراءة سعيد : (وكان أمامهم)، ولما يأتي في بقية الحديث، وقال بعضهم: وراء: يكون من الأضداد. قال الشاعر:


                                                                                              أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي     وقومي تميم والفلاة ورائيا

                                                                                              أي: أمامي. وأصل هذا: أن كل ما يوارى عنك فهو وراء، وقيل: اسم هذا الملك: هدد بن بدد بن جريج . وقال الكلبي : الجلندى . والغصب: أخذ مال الغير على جهة القهر والغلبة والمجاهرة. وقد بين وجه الحكمة في خرق السفينة في الرواية الأخرى بقوله: " فإذا جاء الذي يسخرها وجدها منخرقة فيجاوزها، فأصلحوها بخشبة ، ويحصل من هذا: الحض على الصبر في الشدائد، فكم في [ ص: 211 ] ضمن ذلك المكروه من الفوائد، وهذا معنى قوله تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [البقرة: 216].

                                                                                              و (قوله: " وأما الغلام فكان كافرا ") هذا حديث مرفوع من رواية أبي ، كما قال في الرواية الأخرى: " طبع يوم طبع كافرا "، وقد روي أن أبيا كان يقرأ: (أما الغلام فكان كافرا، وكان أبواه مؤمنين)، وهذا محمول على أن أبيا فسر، لا أنه قرأ كذلك؛ لأنه لم يثبتها في المصحف، وهو من جملة كتبته. والجمهور على أن هذا الغلام لم يكن بلغ سن التكليف، وقد ذهب ابن جبير إلى أنه بلغ سن التكليف، وقد حكي ذلك عن ابن عباس كما تقدم. والصحيح عنه أنه كان صغيرا لم يبلغ كما تقدم من كتابه إلى نجدة الحروري ، كما ذكرناه في الجهاد، وهذا هو المعروف من اسم الغلام كما قد تقدم. وإنما صار ابن جبير إلى ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "كان كافرا"، والكفر والإيمان من صفات المكلفين، ولا يطلق على غير مكلف إلا بحكم التبعية لأبويه، وأبوا الغلام كانا مؤمنين بالنص، فلا يصدق عليه اسم الكافر إلا بالبلوغ، فتعين أن يصار إليه، وقد يطلق الغلام على الكبير إذا كان قريبا من زمان الغلومية توسعا، وهو موجود في كلام العرب، كما قالت ليلى الأخيلية :


                                                                                              شفاها من الداء العضال الذي بها     غلام إذا هز القناة شفاها

                                                                                              وقال صفوان لحسان :


                                                                                              تلق ذباب السيف عني فإنني     غلام إذا هوجيت لست بشاعر

                                                                                              [ ص: 212 ] قلت: وما صار إليه الجمهور أولى تمسكا بحقيقة لفظ الغلام، ولقوله صلى الله عليه وسلم: " وأما الغلام فطبع يوم طبع كافرا " أي: خلق قلبه على صفة قلب الكافر من القسوة، والجهل، ومحبة الفساد، وضرر العباد، ولقوله: " ولو أدرك لأرهق أبويه طغيانا وكفرا " أي: لو بلغ. ولما علم الله تعالى ذلك منه، أعلم الخضر بذلك، وأمره بقتله، فيكون قتله من باب دفع الضرر، كقتل الحيات، والسباع العادية، لا من باب القتل المترتب على التكليف، وهذا لا إشكال على أصول أهل السنة فيه، فإن الله تعالى الفعال لما يريد، القادر على ما يشاء لا يتوجه عليه وجوب، ولا حق، ولا يثبت عليه لوم ولا حكم، وأما على أصول أهل البدع القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين وما يتولد على ذلك من الأصول الفاسدة من التجويز، والتعديل، والإيجاب على الله تعالى، فلا يلتفت إليها، ولا يعرج عليها، لظهور فسادها، كما بيناه في الأصول.

                                                                                              و (قوله: " وكان أبواه قد عطفا عليه ") أي: أحباه، وأقبلا عليه بشفقتهما، وحنوهما، فخاف الخضر ، لما أعلمه الله تعالى بمآل حاله أنه إن عاش لهما حتى [ ص: 213 ] يكبر ويستقل بنفسه جبلهما بحكم محبتهما له أن يطيعاه ويوافقاه على ما يصدر عنه من الكفر والفساد، فيكفران بذلك، وهذا معنى قوله: فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا [الكهف: 80] وعلى هذا فيكون: (فخشينا) من كلام الخضر ، وهو الذي يشهد له مساق الكلام، وهو قول كثير من المفسرين، وذهب بعضهم إلى أنه من كلام الله تعالى، وفسر (فخشينا) بمعنى: (علمنا)، وحكى أن أبيا قرأها: (فعلم ربك). ومعنى يرهقهما يلحق بهما ما يشق عليهما، ويتعبهما، والطغيان هنا: الزيادة في المفاسد.

                                                                                              وقوله: فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما [الكهف: 81]. ، وهذا قول الخضر قطعا، وهو يشهد بأن قوله: فخشينا من قوله، و يبدلهما قرئ مشددا ومخففا، وهما لغتان. و (زكاة): منصوب على التمييز، يعني: نماء وصلاحا، ودينا. و رحما معطوف على زكاة، أي: رحمة، يقال: رحمة، ورحما، وألفه للتأنيث، ومذكره رحيم، وقيل: إن الرحمى هنا بمعنى: الرحم، قرأها ابن عباس ، وأوصل رحما، أي: رحما. وحكي عنه: أنهما رزقا جارية ولدت نبيا. وقيل: كان من نسلها سبعون نبيا، ويفيد هذا تهوين المصائب بفقد الأولاد، وإن كانوا قطعا من الأكباد، ومن سلم للقضاء سفرت عاقبته عن اليد البيضاء.

                                                                                              وقوله: وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة [الكهف: 82]. ، قيل: [ ص: 214 ] اسمهما أصرم وأصيرم ، وقد تقدم: أن اليتم في الناس من قبل فقد الأب، وفي غيرهم من الحيوان من قبل الأم.

                                                                                              وقوله: وكان تحته كنز لهما [الكهف: 82] أي: تحت الجدار، وظاهر الكنز أنه مال مكنوز، أي: مجموع. وقال ابن جبير : كان صحف العلم. وقال ابن عباس : كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ! عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ! عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ! عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ! عجبت لمن يعرف الدنيا وتقليبها بأهلها كيف يطمئن إليها ! لا إله إلا الله محمد رسول الله.

                                                                                              وقوله: وكان أبوهما صالحا [الكهف: 82] قال أهل التفسير: إنه كان جدهما السابع، وكان يسمى كاسحا . ففيه ما يدل: على أن الله تعالى يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده وإن بعدوا عنه، وقد روي: أن الله تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذويه. وعلى هذا يدل قوله تعالى: إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين [الأعراف: 196].

                                                                                              وقوله: فأراد ربك أن يبلغا أشدهما [الكهف: 82] أي: قوتهما وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة. واختلف النحويون، هل هو واحد على بناء الجمع، كأنعم، ولا نظير لهما من لفظهما. وكان سيبويه يقول: هو جمع، واحده: شدة. قال الجوهري : وهو صحيح في المعنى؛ لأنه يقال: بلغ الغلام شدته. ولكنه لا تجمع فعلة على أفعل، وأما أنعم: فهو جمع: نعم من قولهم: يوم بؤس، ويوم نعم. وأما قول من قال: واحده شد مثل كلب وأكلب، فإنما هو قياس، كما قالوا في واحد الأبابيل: أبول، قياسا على: عجول، وليس هو شيء سمع من العرب.

                                                                                              وقد أضاف الخضر عليه السلام قضية استخراج كنز الغلامين لله تعالى، وأضاف عيب السفينة إلى نفسه تنبيها على التأدب في إطلاق الكلمات [ ص: 215 ] على الله تعالى، فيضاف إليه ما يستحسن منها، ويطلق عليه، ولا يضاف ما يستقبح منها إليه، وهذا كما قاله تعالى: بيدك الخير [آل عمران: 26] واقتصر عليه، ولم ينسب الشر إليه، وإن كان بيده الخير والشر، والنفع والضر، إذ هو على كل شيء قدير، وبكل شيء خبير.

                                                                                              و (قوله: " وجاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة، ثم نقر في البحر، فقال الخضر : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر ") وحرف السفينة: طرفها. وحرف كل شيء: طرفه، وشفيره، وحده. ومنه حرف الجبل: وهو أعلاه المحدد. والحرف: واحد حروف التهجي. والحرف: الكلمة. والحرف: اللغة، كما تقدم. والحرف: الناقة الضامرة. والحرف: الجهة الواحدة. ومنه قوله تعالى: ومن الناس من يعبد الله على حرف [الحج: 11] أي: يعبده في الرخاء، ولا يعبده في الشدة. والحرف: مأخوذ من الانحراف، وهو الميل.

                                                                                              والعلم هاهنا: بمعنى: المعلوم، كما قال تعالى: ولا يحيطون بشيء من علمه [البقرة: 255] أي: من معلوماته. وهذا من الخضر عليه السلام تمثيل، أي: معلوماتي ومعلوماتك في علم الله تعالى لا أثر لها، كما أن ما أخذ هذا العصفور من البحر لا أثر له بالنسبة إلى ماء البحر. وإنما مثل له ذلك بالبحر؛ لأنه أكبر ما نشاهده مما بين أيدينا. وهذا نحو مما قاله تعالى: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي [الكهف: 109] وإطلاق لفظ النقص هنا تجوز قصد به التمثيل، والتفهم، إذ لا نقص في علم الله تعالى ولا نهاية لمعلوماته. وقد أورد البخاري هذا اللفظ من رواية ابن جريج على لفظ أحسن مساقا من هذا وأبعد عن الإشكال، فقال: " ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا [ ص: 216 ] كما أخذ هذا العصفور بمنقاره من البحر " وهو مفسر للفظ كتاب مسلم . والله تعالى أعلم.

                                                                                              وفي هذا الحديث تنبيه على أصول عظيمة:

                                                                                              منها: أن لله تعالى بحكم ملكه وملكه أن يفعل ما يريد، ويحكم في خلقه بما يشاء مما ينفعنا، أو يضرنا، فلا مدخل لعقولنا في أفعاله، ولا معارضة لأحكامه، بل يجب علينا الرضا والتسليم، فإن إدراك العقل لأسرار أحكام الربوبية قاصر سقيم، فلا يتوجه عليه في فعله لم؟ وكيف؟ كما لا يتوجه عليه في وجوده أين، وحيث.

                                                                                              ومنها: أن العقل لا يحسن، ولا يقبح ، وأن ذلك راجع إلى الشرع، فما حسنه بالثناء عليه فهو حسن، وما قبحه بالذم عليه فهو القبيح.

                                                                                              ومنها: أن لله تعالى فيما يجريه حكما وأسرارا راعاها، ومصالح راجعة إلى خلقه اعتبرها. كل ذلك بمشيئته وإرادته من غير وجوب عليه، ولا حكم عقلي يتوجه إليه، بل ذلك بحسب ما سبق في علمه، ونافذ حكمه، فما اطلع عليه من تلك الأسرار عرف، وما لا فالعقل عنده يقف. وحذار من الاعتراض والإنكار ! فإن مآل ذلك إلى الخيبة وعذاب النار.

                                                                                              ومنها: أنه عالم بما كان، وبما يكون، وبما لا يكون: أن لو كان كيف كان يكون. وفوائد هذا الحديث كثيرة، وعلومه غزيرة، وفيما ذكرناه كفاية. والله الموفق للهداية.

                                                                                              تنبيه على مغلطتين:

                                                                                              الأولى: وقع لبعض الجهال: أن الخضر أفضل من موسى عليهما السلام، متمسكا بهذه القصة، وبما اشتملت عليه. وهذا إنما يصدر ممن قصر نظره على هذه القصة، ولم ينظر في شيء من أحوال موسى عليه السلام، ولا فيما خصه الله تعالى من الرسالة، وسماع كلام الله تعالى المنزه عن الحروف والأصوات، وإعطائه التوراة التي فيها علم كل شيء، وأن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته، ومخاطبون بأحكام توراته حتى عيسى [ ص: 217 ] عليه السلام، ألا ترى: أن الله تعالى قال: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا [المائدة: 44] والإنجيل وإن كان هدى فليس فيه من الأحكام إلا قليل، ولم يجئ عيسى عليه السلام ناسخا لأحكام التوراة، بل معلما لها، ومبينا أحكامها، كما قال تعالى حكاية عنه: ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل [آل عمران: 48] وعلى هذا فهو أمامهم، وإمامهم، وأعلمهم، وأفضلهم. ويكفي من ذلك قوله تعالى: يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي [الأعراف: 144]. وأن موسى من أولي العزم من الرسل، وأن أول من ينشق عنه القبر نبينا صلى الله عليه وسلم، فيجد موسى عليه السلام متعلقا بساق العرش، وأنه ليس في محشر يوم القيامة أكثر من أمته بعد أمة نبينا صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من فضائله.

                                                                                              فأما الخضر عليه السلام فلم يتفق على أنه نبي، بل هو أمر مختلف فيه، هل هو نبي أو ولي، فإن كان نبيا فليس برسول بالاتفاق، إذ لم يقل أحد: أن الخضر عليه السلام أرسل إلى أمة، والرسول أفضل من نبي ليس برسول. وإن تنزلنا على أنه رسول، فرسالة موسى أعظم، وأمته أكثر، فهو أفضل. وإن قلنا: إن الخضر كان وليا، فلا إشكال أن النبي أفضل من الولي. وهذا أمر مقطوع به عقلا ونقلا، والصائر إلى خلافه كافر، فإنه أمر معلوم من الشرائع بالضرورة، ولأنه واحد من أمة موسى ، أو غيره من الأنبياء، ونبي كل أمة أفضل منها قطعا، آحادا أو جمعا، وإنما كانت قصة موسى مع الخضر امتحانا لموسى ليتأدب ويعتبر، كما قد ابتلي غيره من الأنبياء بأنواع من المحن والبلاء.

                                                                                              المغلطة الثانية: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق يلزم منه هد الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية إنما يحكم بها على الأغنياء [ ص: 218 ] والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل: إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم. قالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع والكليات، كما اتفق للخضر ، فإنه استغنى بما تجلى له من تلك العلوم عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون.

                                                                                              قلت: وهذا القول زندقة، وكفر يقتل قائله، ولا يستتاب؛ لأنه إنكار ما علم من الشرائع، فإن الله تعالى قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته، فإن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه، وبين خلقه، وهم المبلغون عنه رسالاته وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك وخصهم بما هنالك، كما قال الله تعالى: الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس [الحج: 75] وقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته [الأنعام: 124] وقال تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه [البقرة: 213] وأمر بطاعتهم في كل ما جاءوا به، وأخبر: أن الهدى في طاعتهم، والاقتداء بهم، في غير موضع من كتابه، وعلى ألسنة رسله، كقوله تعالى: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، [المائدة: 92] وكقوله: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله [النساء: 64] وقال: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [الأنعام: 90] وقال: وإن تطيعوه تهتدوا [النور: 54] وقال صلى الله عليه وسلم: " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما، كتاب الله، وسنة نبيه ". ومثل هذا لا يحصى كثرة.

                                                                                              [ ص: 219 ] وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري، وإجماع السلف، والخلف: على ألا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل الكرام. فمن قال: إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل بحيث يستغنى بها عن الرسل، فهو كافر، يقتل ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول، وبيان ذلك: أنه من قال: يأخذ عن قلبه، وإن ما وقع فيه هو حكم الله، وأنه يعمل بمقتضاه، وإنه لا يحتاج في ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة، فإن هذا نحو مما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن روح القدس نفث في روعي " ولقد سمعنا عن بعض الممخرقين المتظاهرين بالدين أنه قال: أنا لا آخذ عن الموتى، وإنما آخذ عن الحي الذي لا يموت، وإنما أروي عن قلبي عن ربي، ومثل هذا كثير، فنسأل الله الهداية، والعصمة، وسلوك طريق سلف هذه الأمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.




                                                                                              الخدمات العلمية