الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4707 [ 2509 ] وعن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم إني أتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه، فإنما أنا بشر ، فأي المؤمنين آذيته، شتمته، لعنته، جلدته ، فاجعلها له صلاة وزكاة".

                                                                                              وفي رواية: "ورحمة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة" .

                                                                                              وفي رواية: "اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر"، وفيها : "فاجعلها له كفارة، وقربة تقربه بها"، وذكره . قال أبو الزناد : جلده لغة أبي هريرة.

                                                                                              رواه أحمد ( 2 \ 316 )، والبخاري (6361)، ومسلم (2601) (89 و 90 و 91).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله : لمن أصاب من الخير شيئا ما أصابه هذان ) هذا الكلام من السهل الممتنع ، وذلك أن معناه أن هذين الرجلين ما أصابا منك خيرا ، وإن كان غيرهما قد أصابه ، لكن تنزيل هذا المعنى على أفراد ذلك الكلام فيه صعوبة ، ووجه التنزيل يتبين بالإعراب ، وهو أن اللام في : لمن ، هي لام الابتداء ، وهي متضمنة للقسم ، ومن : موصولة في موضع رفع بالابتداء ، وصلتها : أصاب ، وعائدها : المضمر في أصاب ، وما بعدها متعلق به ، وخبره محذوف ، تقديره : والله لرجل أصاب منك خيرا : فائز أو ناج . ثم نفى عن هذين الرجلين إصابة ذلك الخير بقوله : ما أصابه هذان ، ولا يصح أن يكون (ما أصابه) خبرا لـ (من) المبتدأ ، لخلوها عن عائد يعود على نفس المبتدأ ، وأما الضمير في (أصابه) فهو للخير ، لا لمن ، فتأمله يصح لك ما قلناه ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              و (قوله : " اللهم إني بشر أغضب كما يغضب البشر ، فأي المسلمين لعنته أو سببته أو جلدته ، فاجعل ذلك له كفارة ورحمة ") ظاهر هذا أنه خاف أن [ ص: 584 ] يصدر عنه في حال غضبه شيء من تلك الأمور ، فيتعلق به حق مسلم ، فدعا الله تعالى ، ورغب إليه في أنه : إن وقع منه شيء من ذلك لغير مستحق في ألا يفعل بالمدعو عليه مقتضى ظاهر ذلك الدعاء ، وأن يعوضه من ذلك مغفرة لذنوبه ورفعة في درجاته ، فأجاب الله تعالى طلبة نبيه صلى الله عليه وسلم ووعده بذلك ، فلزم ذلك بوعده الصدق وقوله الحق ، وعن هذا عبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " شارطت ربي " ، و " شرط علي ربي " ، و " اتخذت عنده عهدا لن يخلفنيه " لا أن الله تعالى يشترط عليه شرط ، ولا يجب عليه لأحد حق ، بل ذلك كله بمقتضى فضله وكرمه على حسب ما سبق في علمه .

                                                                                              فإن قيل : فكيف يجوز أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم لعن أو سب ، أو جلد لغير مستحقه ، وهو معصوم من مثل ذلك في الغضب والرضا ؛ لأن كل ذلك محرم وكبيرة ، والأنبياء معصومون عن الكبائر ، إما بدليل العقل ، أو بدليل الإجماع ، كما تقدم .

                                                                                              قلت : قد أشكل هذا على العلماء ، وراموا التخلص من ذلك بأوجه متعددة ، أوضحها وجه واحد ، وهو : أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يغضب لما يرى من المغضوب عليه من مخالفة الشرع ، فغضبه لله تعالى لا لنفسه ، فإنه ما كان يغضب لنفسه ولا ينتقم لها ، وقد قررنا في الأصول : أن الظاهر من غضبه تحريم الفعل المغضوب من أجله . وعلى هذا فيجوز له أن يؤدب المخالف له باللعن والسب والجلد والدعاء عليه بالمكروه ، وذلك بحسب مخالفة المخالف ، غير أن ذلك المخالف قد يكون ما صدر منه فلتة أوجبتها غفلة ، أو غلبة نفس ، أو شيطان ، وله فيما بينه وبين الله تعالى عمل خالص ، وحال صادق ، يدفع الله عنه بسبب ذلك أثر ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم له من ذلك القول أو الفعل . وعن هذا عبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل ، أن تجعلها له طهورا ، [ ص: 585 ] وزكاة ، وقربة تقربه بها يوم القيامة " أي : عوضه من تلك الدعوة بذلك ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              قلت : وقد يدخل في قوله : أيما أحد من أمتي دعوت عليه : الدعوات الجارية على اللسان من غير قصد للوقوع ، كقوله : " تربت يمينك " و " عقرى حلقى " . ومن هذا النوع قوله لليتيمة : " لا كبر سنك " ، فإن هذه لم تكن عن غضب ، وهذه عادة غالبة في العرب يصلون كلامهم بهذه الدعوات ، ويجعلونها دعاما لكلامهم من غير قصد منهم لمعانيها ، وقد قدمنا في كتاب الطهارة في هذا كلاما للبديع ، وهو من القول البديع . وبما ذكرناه يرتفع الإشكال ويحصل الانفصال .

                                                                                              ووجه لغة أبي هريرة في : جلده : أنه قلب التاء دالا لقرب [ ص: 586 ] مخرجهما ، ثم أدغم التاء في الدال ، وهي على عكس اللغة المشهورة ، فإنهم فيها قلبوا الدال تاء ، وأدغموا الدال في التاء ، وهو الأولى .




                                                                                              الخدمات العلمية