الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              5196 [ 2822 ] وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد مات كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده . والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله .

                                                                                              رواه أحمد (2 \ 313) ، والبخاري (3027) ، ومسلم (2918) (75) .

                                                                                              [ ص: 259 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 259 ] و (قوله : " لقد مات كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ") كذا جاء هذا الحديث في الأم : قد مات كسرى ، بلفظ الماضي المحقق بقد ، وقد وقع هذا اللفظ في كتاب الترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وعنه سعيد بن المسيب ، وعنه الزهري ، وعنه سفيان ، وبهذا السند رواه مسلم ، غير أن الترمذي قال : " إذا هلك كسرى " ، ولم يقل : " قد مات " وبين اللفظين بون عظيم ، فلفظ مسلم يقتضي أن كسرى قد كان وقع موته ، فأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا يدل حديث أبي بكرة الذي خرجه البخاري ، قال : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى ، قال : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " ، يعني : أنه لما مات كسرى ولوا عليهم ابنته ، وعلى هذا فلا يصح أن يقال : مكان : " قد مات " : " إذا مات " ، ولا " إذا هلك " ; لأن " إذا " للمستقبل ، ومات للماضي ، وهما متناقضان ، فلا يصح الجمع بينهما لاتحاد الراوي ، واختلاف المعنى ، إلا على تأويل بعيد ، وهو أن يقدر أن أبا هريرة سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم مرتين ، فسمع أولا : إذا هلك كسرى ، وبعده : قد هلك كسرى . فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قال الحديث الأول قبل موت كسرى ; لأنه علم أنه يموت ويهلك ، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم أيضا قال الحديث الثاني بعد موته ، ويحتمل أن يفرق بين الموت [ ص: 260 ] والهلاك ، فيقال : إن موت كسرى كان قد وقع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر عنه بذلك ، وأما هلاك ملكه ، فلم يقع ذلك إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وموت أبي بكر ، وإنما هلك ملكه في خلافة عمر -رضي الله عنه - على يدي سعد بن أبي وقاص وغيره من الأمراء الذين ولاهم عمر حرب فارس ، فهزموا جموعه ، وفتحوا بلاده ، وانتقلوا كنوزه إلى المدينة ، وذخائره ، وحليته ، حتى تاجه كما هو المعروف في كتب التواريخ ، وكان موت كسرى وتمزيق ملكه بسبب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، كما خرجه البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي ، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين ، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى ، فلما قرأه مزقه ، فحسبت أن ابن المسيب قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق ، فعجل الله تعالى موته ، ومزق بعد ذلك ملكه . وقد تقدم أن كل ملك للفرس يقال له كسرى ، وكل ملك للروم يقال له قيصر . وكل ملك للحبشة يقال له : النجاشي . ويقال كسرى ، بفتح الكاف ، وهو قول الأصمعي ، والكسر لغيره .

                                                                                              و (قوله : " فلا كسرى بعده ، ولا قيصر بعده ") . قال القاضي : معناه عند أهل العلم : لا يكون كسرى بالعراق ، ولا قيصر بالشام ، فأعلم بانقضاء ملكهما وزواله من هذين القطرين ، فكان كما قال ، وانقطع أمر كسرى بالكلية ، وتمزق ملكه واضمحل ، وتخلى قيصر عن الشام ، ورجع القهقرى إلى داخل بلاده ، واحتوى المسلمون على ملكهما وكنوزهما ، وأنفقا في سبيل الله ، كما أخبر عنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .




                                                                                              الخدمات العلمية