الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              5208 [ 2826 ] وعن أبي سعيد ، وذكر بعض ما تضمنه هذا الحديث ، قال فيه : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ترى ؟ قال : عرشا على الماء . فقال صلى الله عليه وسلم : ترى عرش إبليس على البحر .

                                                                                              رواه مسلم (2925) ، والترمذي (2249) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله : " فرفصه ") رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالفاء والصاد المهملة - رواية الجماعة . قال بعض الشارحين : الرفص : الضرب بالرجل ، مثل الرفس .

                                                                                              قلت : وهذا ليس بمعروف عند أهل اللغة ، وإنما رفس ، بالسين المهملة . يقال : رفسه يرفسه ويرفسه : إذا ضربه برجله . فأما رفص بالصاد : فهو من الرفصة ، وهي النوبة من الماء تكون بين القوم ، وهم يترافصون الماء ، أي : يتناوبونه ، وقد وقع عند الصدفي : فرفضه ، بضاد معجمة . قال القاضي : وهو وهم .

                                                                                              قلت : ويحتمل أن يقال : ليس بوهم ، ويكون معناه من الرفض ، وهو الرمي ، وكأنه أعرض عنه ، ولم يلتفت إليه لما سمع منه ما سمع ، فعل المغضب . وأبعد من هذه ما وقع في البخاري من رواية المروزي : فرقصه ، بالقاف والصاد [ ص: 264 ] المهملة ، وفي حديث كتاب الأدب من البخاري ، فرضه ، بالضاد المعجمة من الرض ، وقال بعضهم فيه : فرصه ، بالصاد المهملة ; أي : ضغطه .

                                                                                              و (قوله : يأتيني صادق وكاذب ) يعني به تابعه من الشيطان ، كان تارة يصدق له وتارة يكذب ، وهذه حالة الكهان .

                                                                                              و (قوله : " خلط عليك الأمر ") أي : لبس عليك تابعك الجني حالك .

                                                                                              و (قوله صلى الله عليه وسلم : " خبئت لك خبيئا ") رواية الجماعة : خبيئا ، بكسر الباء ، وعند التميمي : خبأ ، بسكونها ، وكلاهما بمعنى . في الصحاح : الخبء : ما خبئ ، وكذلك : الخبيء ، وكلاهما مهموز ، واختلف في هذا المخبأ ما هو ؟ فالأكثر على أنه : أضمر له في نفسه : يوم تأتي السماء بدخان مبين [ الدخان : 10 ] وقال الداودي : وكانت في يده سورة الدخان مكتوبة ، وعلى هذا فيكون قوله : الدخ ، يعني به الدخان . قالوا : هي لغة معروفة في الدخان ، وأنشدوا :


                                                                                              عند رواق البيت يغشى الدخا

                                                                                              وحكى هذه اللغة في الصحاح ، ووجدته في كتاب الشيخ : الدخ ، ساكن [ ص: 265 ] الخاء . ومصححا عليه ، أعني : الذي جاء في الحديث ، وكأنه على الوقف ، وأما الذي في الشعر فهو مشدد الخاء ، وكذلك قرأته في الحديث فيما أعلم ، وقيل : إنما أراد ابن صياد أن يقول : الدخان ، فزجره النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الدخ ، وهذا فيه بعد . وقيل : الدخ : نبت موجود بين النخيل والبساتين خبأه له . واخسأ : زجر للكلب ، ولمن يذم ويهان .

                                                                                              و (قوله : " لن تعدو قدرك ") أي : لن تجاوز حالة الكهان المتخرصين الكذابين ، لا يليق بك إلا ذلك ، وإنما اختبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لينظر هل طريقته طريقة الكهان أو لا ؟ فظهر أنه كذلك ، وأن الشياطين تلعب به ، وتلبس عليه .

                                                                                              و (قوله صلى الله عليه وسلم لعمر - رضي الله عنه - : " إن يكنه فلن تسلط عليه ، وإن لم يكنه فلا خير في قتله ") هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتضح له شيء من أمر كونه هو الدجال أم لا ؟ وليس هذا نقصا في حق النبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه لم يكن يعلم إلا ما علمه الله ، وهذا مما لم يعلمه الله تعالى به ، ولا هو مما ترهق إلى علمه حاجة لا شرعية ، ولا عادية ، ولا مصلحية ، ولعل الله تعالى قد علم في إخفائه مصلحة فأخفاه ، والذي يجب الإيمان به : أنه لا بد من خروج الدجال يدعي الإلهية ، وأنه كذاب أعور ، كما جاء في الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي قد حصلت لمن عاناها العلم القطعي بذلك .

                                                                                              و (قوله : " وإن لم يكنه ، فلا خير لك في قتله ") أي : لأنه صبي حينئذ . وقيل : لأنه كان لقومه عهد من النبي صلى الله عليه وسلم ، كما عاهد يهود المدينة ، أو لأنه من حلفاء بني النجار كما تقدم . وهذا الضمير المتصل في (يكنه) هو خبرها ، وقد وضع موضع المنفصل ، واسمها مستتر فيها ، ونحوه قول أبي الأسود الدؤلي : [ ص: 266 ]

                                                                                              دع الخمر تشربها الغواة فإنني رأيت أخاها مغنيا بمكانها
                                                                                              فإن لا يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمه بلبانها

                                                                                              أي : فإلا يكن هو إياها أو تكن هي إياه .

                                                                                              و (قوله : طفق يتقي ) أي : أخذ وجعل ، وقد تقدم أنها من أفعال المقاربة . ويتقي : يستتر بجذوع النخل ، أي : بأصول النخل .

                                                                                              و (قوله : فثار ابن صياد ) أي : وثب وثبة شديدة .

                                                                                              و (قوله صلى الله عليه وسلم : لو تركته بين ") أي : كان يعبر عن حاله في نومه ، هل هو الدجال ، أم لا ؟ وقد يشكل هذا مع قوله : " رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ . . . " وبالإجماع على أن النائم غير مؤاخذ بما يقوله في حال نومه ، ولا بما يصدر عنه ، ولا يعول على هذا الإشكال ; لأن هذا ليس من باب المؤاخذة ، ولا التكليف ، وإنما هو من باب النظر في قرائن الأحوال ; فإن النائم الغالب عليه [ ص: 267 ] أنه يتكلم في نومه بما يكون غالبا عليه في يقظته ، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتظر أن يظهر له منه في حال نومه ما يدل على حاله دلالة خاصة به ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              و (قوله : " إني لأنذركم الدجال ، وما من نبي إلا وقد أنذره قومه ، لقد أنذره نوح قومه ") إنما كان هذا من الأنبياء لما علموا من عظيم فتنته ، وشدة محنته ، على ما يأتي تفصيلها في الأحاديث المذكورة بعد ، ولأنهم لما لم يعين لواحد منهم زمان خروجه ، توقع كل واحد منهم خروجه في زمان أمته ، فبالغ في التحذير . وفائدة هذا الإنذار الإيمان بوجوده والعزم على معاداته ومخالفته ، وإظهار تكذيبه وصدق الالتجاء إلى الله تعالى في التعوذ من فتنته . وهذا مذهب أهل السنة ، وعامة أهل الفقه والحديث ، خلافا لمن أنكر أمره وأبطله من الخوارج وبعض المعتزلة ، وخلافا للجبائي من المعتزلة ، ومن وافقنا على إثباته من الجهمية وغيرهم ، لكن زعموا أن ما عنده مخارق وحيل ، قال : لأنها لو كانت أمورا صحيحة لكان ذلك إلباسا للكاذب بالصادق ، وحينئذ لا يكون فرق بين النبي والمتنبئ ، وهذا هذيان لا يلتفت إليه ; فإن هذا إنما كان يلزم لو أن الدجال يدعي النبوة ، وليس كذلك ; فإنه إنما ادعى الإلهية ، وكذبه في هذه الدعوى واضح للعقول ; إذ أدلة حدثه ونقصه وفقره مدرك بأول الفطرة ، بحيث لا يجهله من له أدنى فكرة ، وقد زاد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى إيضاحا في هذا الحديث من ثلاثة أوجه :

                                                                                              أحدها : بقوله : " ولكن أقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لأمته ، إنه أعور ، وإن الله ليس بأعور " وهذا تنبيه للعقول القاصرة أو الغافلة على أن من كان ناقصا في ذاته ، عاجزا عن إزالة نقصه ، لم يصلح لأن يكون إلها لعجزه وضعفه ، ومن كان عاجزا عن إزالة نقصه كان أعجز عن نفع غيره ، وعن مضرته .

                                                                                              [ ص: 268 ] وثانيها : قوله : " إنه مكتوب بين عينيه كافر ، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب " وهذا أمر مشاهد للحس يشهد بكذبه وكفره .

                                                                                              وثالثها : قوله : " تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت " ، وهذا نص جلي في أن الله تعالى لا يرى في هذه الدار ، وهو موافق لقوله تعالى : لا تدركه الأبصار [ الأنعام : 103 ] أي : في الدنيا ، ولقوله تعالى لموسى - عليه السلام - : لن تراني [ الأعراف : 143 ] أي في الدنيا . ولقوله : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا الآية [ الشورى : 51 ] .

                                                                                              وحاصل هذا : أن الصادق قد أخبر أن الله تعالى لا يراه أحد في الدنيا ، والدجال يراه الناس ، فليس بإله ، وهذا منه صلى الله عليه وسلم نزول إلى غاية البيان ، بحيث لا يبقى معه ريبة لإنسان ، وقد تقدم الخلاف في رؤية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ربه في كتاب الإيمان ، وقد قلنا : إنه لم يثبت في الباب قاطع يعتمد عليه ، والأصل : التمسك بما دلت هذه الأدلة عليه ، وقد تأول بعض الناس قوله صلى الله عليه وسلم : " مكتوب بين عينيه كافر " . وقال : معنى ذلك ما ثبت من سمات حدثه ، وشواهد عجزه ، وظهور نقصه . قال : ولو كان على ظاهره وحقيقته لاستوى في إدراك ذلك المؤمن والكافر ، وهذا عدول وتحريف عن حقيقة الحديث من غير موجب لذلك ، وما ذكره من لزوم المساواة بين المؤمن والكافر في قراءة ذلك لا يلزم ; لوجهين :

                                                                                              أحدهما : أن الله تعالى يمنع الكافر من إدراكه ، لا سيما وذلك الزمان قد [ ص: 269 ] انحرفت فيه عوائد ، فليكن هذا منها . وقد نص على هذا في بعض طرقه فقال : " يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب " ، وقراءة غير الكاتب خارقة للعادة .

                                                                                              وثانيهما : أن المؤمن إنما يدركه لتثبته ويقظته ، ولسوء ظنه بالدجال ، وتخوفه من فتنته ، فهو في كل حال يستعيد النظر في أمره ، ويستزيد بصيرة في كذبه ، فينظر في تفاصيل أحواله ، فيقرأ سطور كفره وضلاله ويتبين عين محاله . وأما الكافر فمصروف عن ذلك كله بغفلته وجهله ، وكما انصرف عن إدراك نقص عوره ، وشواهد عجزه ، كذلك يصرف عن فهم قراءة سطور كفره ورمزه .

                                                                                              وأما الفرق بين النبي والمتنبئ ، فالمعجزة لا تظهر على يدي المتنبئ ; لأنه يلزم منه انقلاب دليل الصدق دليل الكذب ، وهو محال ، وللبحث فيها مجال في علم الكلام ، وأما من قال أن ما يأتي به الدجال حيل ومخارق ، فهو معزول عن الحقائق ; لأن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من تلك الأمور حقائق لا يحيل العقل شيئا منها ، فوجب إبقاؤها على حقائقها ، وسيأتي تفصيلها . والرواية في (تعلموا) بتشديد اللام بمعنى : اعلموا وتعلموا .

                                                                                              و (قوله : " فرفعت لنا غنم ") أي : أبصرناها على بعد ، وكأن الآل الذي هو السراب رفعها لهم ; أي : أظهرها . والعس ، بضم العين : القدح الكبير .

                                                                                              و (قول ابن صياد لأبي سعيد : أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو كافر " وأنا مسلم إلخ . . .) هذا الحديث من أوله إلى آخره يدل على أن هذه القصة اتفقت لأبي سعيد مع ابن صياد بعد أن كبر ، وصار رجلا وولد له ، وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن ابن صياد أسلم وحج ، وأنه حفظ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك ذكره [ ص: 270 ] ابن جرير وغيره في الصحابة ، غير أنه قد ظهرت منه في هذا الحديث أمور بعضها كفر ، وذلك قوله : لو عرض علي ما كرهت ، فإن من يرضى لنفسه دعوى الإلهية ، وحالة الدجال هو كافر ، ولا يتصور في هذا خلاف ، وبعضها يشعر بأنه الدجال ، وهو قوله : والله إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو . زاد الترمذي : وأين هو الساعة من الأرض ، وأعرف والده . فإن هذا يقارب النص في أنه هو ، وما لبس به من أنه مسلم فسيكفر ، أو هو منافق كافر في الحال ، وحجه وغيره محبط بكفره ، أو لعله كان ذلك منه نفاقا . وأما كونه لا يولد له ، ولا يدخل مكة والمدينة ، فيحتمل أن يكون ذلك منه إذا خرج على الناس ، والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك .

                                                                                              و (قول أبي سعيد الخدري له : تبا لك سائر اليوم ) ، أي : خسارا لك دائما ; لأن اليوم هنا يراد به الزمان ، وتبا : منصوب بفعل مضمر لا يستعمل إظهاره ; أي : لقيت تبا ، أي : تبابا ، أو صادفت ، أو لقاه الله تبابا .




                                                                                              الخدمات العلمية