الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              5223 (14) باب

                                                                                              في صفة الدجال وما يجيء معه من الفتن

                                                                                              [ 2828 ] عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأنا أعلم بما مع الدجال منه ، معه نهران يجريان ، أحدهما رأي العين ماء أبيض ، والآخر رأي العين نار تأجج ، فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه نارا ، وليغمض ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه ، فإنه ماء بارد ، وإن الدجال ممسوح العين ، عليها ظفرة غليظة ، مكتوب بين عينيه كافر ، يقرؤه كل مؤمن ، كاتب وغير كاتب .

                                                                                              وفي رواية : " الدجال أعور العين اليسرى جفال الشعر ، معه جنة ونار ، فناره جنة وجنته نار " . (رواه أحمد (2 \ 383 و 386) ، ومسلم (2934) (104 و 105) .

                                                                                              [ ص: 273 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 273 ] (14 و 15) ومن باب : صفة الدجال

                                                                                              (قوله : " لأنا أعلم بما مع الدجال منه ") هذا جواب قسم محذوف ; أي : والله لأنا أعلم ; أي : أن الدجال لا يعلم حقيقة ما معه من الجنة والنار ، ولا من النهرين ; أي أنه يظنهما كما يراهما غيره ، فيظن جنته جنة وماءه ماء ، وحقيقة الأمر على الخلاف من ذلك ، فيكون قد لبس عليه فيهما ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد علم حقيقة كل واحد منهما ، ولذلك بينه ، فقال : " ناره ماء بارد " . وفي اللفظ الآخر : " فجنته نار وناره جنة " وهذا الكلام رواه مسلم عن حذيفة من قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الطريق ، وقد رواه من طريق أخرى موقوفا على حذيفة من قوله ، وقد رواه أبو داود من حديث ربعي بن خراش قال : اجتمع حذيفة وأبو مسعود ، فقال حذيفة : لأنا أعلم بما مع الدجال منه .

                                                                                              و (قوله : " رأي العين ") منصوب على الظرف ; أي : حين رأي العين ، أو في رأي العين ، ويصح أن يقال فيه : إنه مصدر صدره محذوف ، تقديره : تراه رأي العين . وكل ما يظهره الله على يدي الدجال من الخوارق للعادة محن امتحن الله بها عباده ، وابتلاء ابتلاهم به ، ليتميز أهل التنزيه والتوحيد بما يدل عليه العقل السديد [ ص: 274 ] من استحالة الإلهية على ذوي الأجسام ، وإن أتوا على دعواهم بأمثال تلك الطوام ، أو ليغتر أهل الجهل باعتقاد التجسيم ، حتى يوردهم ذلك نار الجحيم . وفتنة الدجال من نحو فتنة أهل المحشر بالصورة الهائلة التي تأتيهم فتقول لهم : أنا ربكم ، فيقول المؤمنون : نعوذ بالله منك ، كما تقدم في الإيمان . ومقتضى روايتي حذيفة : أن معه نهرين وجنتين ، وأنهما مختلفتان في المعنى واللفظ لأن النهر لا يقال عليه جنة ، ولا الجنة يقال عليها نهر . هذا هو الظاهر ، ويحتمل أن يقال : إن ذينك النهرين في جنة ونار ، فحسن أن يعبر بأحدهما عن الآخر .

                                                                                              و (قوله : " فإما أدركن ذلك أحدكم ") كذا الرواية عند جميع الشيوخ ، والصواب : إسقاط النون ، لأنه فعل ماض ، وإنما تدخل هذه النون على الفعل المستقبل كقوله : فإما نذهبن بك [ الزخرف : 41 ] و فإما يأتينكم مني هدى [ البقرة : 38 ] ونحوه كثير .

                                                                                              و (قوله : " الدجال ممسوح العين عليها ظفرة غليظة ") هي بالظاء المعجمة والفاء ، وهما مفتوحتان ، وهي جلدة تغشي العين ، إن لم تقطع غشيت العين . ومعنى ممسوح العين ; أي : مطموس ضوؤها وإدراكها ، فلا يبصر بها شيئا .

                                                                                              و (قوله : " الدجال أعور العين اليسرى ") الأعور : هو الذي أصابه في عينه عور ، وهو العيب الذي يذهب إدراكها ، وهكذا صح في حديث حذيفة : " اليسرى " ، وقد صح من حديث ابن عمر مرفوعا أنه أعور عينه اليمنى ، كأنها عنبة [ ص: 275 ] طافية ، ورواه الترمذي أيضا وصححه ، وهذا اختلاف يصعب الجمع فيه بينهما ، وقد تكلف القاضي أبو الفضل الجمع بينهما ، فقال : جمع الروايتين عندي صحيح ، وهو أن كل واحدة منهما عوراء من وجه ما ; إذ العور في كل شيء : العيب ، والكلمة العوراء : هي المعيبة . فالواحدة عوراء بالحقيقة ، وهي التي وصفت في الحديث بأنها ليست جحراء ، ولا ناتئة ، وممسوحة ومطموسة . وطافئة - على رواية الهمز - والأخرى عوراء لعيبها اللازم لها لكونها جاحظة ، أو كأنها كوكب ، أو كأنها عنبة طافية -بغير همز- وكل واحدة منهما يصح فيها الوصف بالعور بحقيقة العرف والاستعمال ، أو بمعنى العور الأصلي الذي هو العيب .

                                                                                              قلت : وحاصل كلامه : أن كل واحدة من عيني الدجال عوراء . إحداهما بما أصابها حتى ذهب إدراكها ، والثانية عوراء بأصل خلقتها معيبة . لكن يبعد هذا التأويل : أن كل واحدة من عينيه قد جاء وصفها في الروايات بمثل ما وصفت به الأخرى من العور ، فتأمله ، فإن تتبع تلك الألفاظ يطول .

                                                                                              و (قوله : " جفال الشعر ") أي : كثيره . قال ذو الرمة يصف شعر امرأة :

                                                                                              وأسود كالأساود مسبكرا على المتنين منسدلا جفالا

                                                                                              وشعر الدجال مع كثرته جعد قطط ، وهو الشديد الجعودة ، الذي لا يمتد إلا باليد ، كشعور السودان ، وفي القطط لغتان : الفتح والكسر في الطاء الأولى .




                                                                                              الخدمات العلمية