الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              889 [ 461 ] وعن علقمة قال : قال عبد الله : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم (قال إبراهيم بن سويد : زاد أو نقص ، الوهم منه) فلما سلم قيل له : يا رسول الله ! أحدث في الصلاة شيء ؟ قال : وما ذاك ؟ قالوا : صليت كذا وكذا . قال : فثنى رجله واستقبل القبلة ، فسجد سجدتين ، ثم سلم ، ثم أقبل علينا بوجهه فقال : إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به ، ولكن إنما أنا بشر ، أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني ، فإذا شك أحدكم في الصلاة فليتحر الصواب فليتم عليه ، ثم يسجد سجدتين .

                                                                                              وفي رواية : فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب .

                                                                                              وفي أخرى : فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب .

                                                                                              وفي أخرى : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين ، قال : ثم سجد سجدتين .

                                                                                              وفي أخرى : أنه - عليه الصلاة والسلام - صلى خمسا (من غير شك) .

                                                                                              رواه أحمد (6 \ 28)، والبخاري (1226)، ومسلم (572) (89 و 90 و 92 و 96)، وأبو داود (1019 - 1022)، والترمذي (392 و 393)، والنسائي (3 \ 31 - 33)، وابن ماجه (1211) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقولهم في حديث ابن مسعود : أحدث في الصلاة شيء ؟ سؤال عن [ ص: 184 ] جواز النسخ على ما ثبت من العبادة ، ويدل هذا : على أنهم كانوا يتوقعونه .

                                                                                              وقوله : وما ذاك ؟ سؤال من لم يشعر بما وقع منه ، ولا يقين عنده ، ولا غلبة ظن .

                                                                                              وقولهم : صليت كذا أو كذا : إخبار من حقق ما وقع . وقبول النبي - صلى الله عليه وسلم - قول المخبر عما وقع له دليل على قبول الإمام قول من خلفه في إصلاح الصلاة ، إذا كان الإمام على شك ، بلا خلاف . وهل يشترط في المخبر عدد ; لأنه من باب الشهادة ، أو لا يشترط ذلك ، لأنه من باب قبول الخبر ؟ قولان :

                                                                                              الأول : لأشهب وابن حبيب ، وأما إن كان الإمام جازما في اعتقاده بحيث يصمم عليه ، فلا يرجع إليهم ، إلا أن يفيد خبرهم العلم فيرجع إليهم ، وإن لم يفد خبرهم العلم ; فذكر ابن القصار في ذلك عن مالك قولين : الرجوع إلى قولهم ، وعدمه . وبالأول قال ابن حبيب ، ونصه : إذا صلى الإمام برجلين فصاعدا فإنه يعمل على يقين من وراءه ، ويدع يقين نفسه ، قال المشايخ : يريد الاعتقاد .

                                                                                              وبالثاني قال ابن مسلمة ، ونص ما حكي عنه : يرجع إلى قولهم إن كثروا ، ولا يرجع إذا قلوا ، وينصرف ، ويتمون لأنفسهم .

                                                                                              وقوله : لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به : يفهم منه أن الأصل في الأحكام بقاؤها على ما قررت وإن جوز غير ذلك ، وأن تأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة .

                                                                                              وقوله : إنما أنا بشر أنسى كما تنسون : دليل على جواز النسيان على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما طريقه البلاغ من الأفعال وأحكام الشرع . قال القاضي عياض : وهو [ ص: 185 ] مذهب عامة العلماء والأئمة النظار ، وظاهر القرآن والأحاديث ، لكن شرط الأئمة أن الله تعالى ينبهه على ذلك ، ولا يقره عليه ، ثم اختلفوا : هل من شرط التنبيه اتصاله بالحادثة على الفور ؟ وهذا مذهب القاضي أبي بكر والأكثر من العلماء ، أو يجوز في ذلك التراخي ما لم ينخرم عمره ، وينقطع تبليغه ؟ وإليه نحا أبو المعالي . ومنعت طائفة من العلماء السهو عليه في الأفعال البلاغية ، والعبادات الشرعية ، كما منعوه اتفاقا في الأقوال البلاغية ، واعتذروا عن الظواهر الواردة في ذلك ، وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق ، وشذت الباطنية وطائفة من أرباب علم القلوب ، فقالوا : لا يجوز النسيان عليه ، وإنما ينسى قصدا ، ويتعمد صورة النسيان ليسن ، ونحا إلى قولهم عظيم من أئمة التحقيق ; وهو أبو المظفر الإسفراييني في كتابه " الأوسط " ، وهذا منحى غير سديد ، وجمع الضد مع الضد مستحيل بعيد .

                                                                                              قلت : والصحيح أن السهو عليه جائز مطلقا ; إذ هو واحد من نوع البشر ، فيجوز عليه ما يجوز عليهم إذا لم يقدح في حاله ، وعليه نبه حيث قال : إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ، غير أن ما كان منه فيما طريقه بلاغ الأحكام قولا أو فعلا ، لا يقر على نسيانه ، بل ينبه عليه إذا تعينت الحاجة إلى ذلك المبلغ ، فإن أقر على نسيانه ذلك ، فإنما ذلك من باب النسخ ; كما قال تعالى : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله [ الأعلى : 6-7]

                                                                                              وقوله : فليتحر الصواب فليتم عليه ، و (فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب) ظاهره ما صار إليه الكوفيون من عمله على غلبة ظنه ، وقد ذكرنا أن [ ص: 186 ] الجمهور ردوه إلى حديث أبي هريرة ، وهذا لم تضم إليه ضرورة تعارض ، إذ يمكن أن يحمل كل واحد من الحديثين على حالة غير الأخرى ، فيحمل حديث أبي هريرة فيمن شك ، ويحمل هذا الحديث فيمن ظن ، ولا تعارض بينهما ، والتحري وإن كان هو القصد ، كما قال تعالى : فأولئك تحروا رشدا [ الجن : 14 ] فكما يقصد المتيقن يقصد المظنون ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              فإن قيل : الموجب لتأويل هذا الحديث ورده إلى حديث أبي هريرة : أن الصلاة في ذمته بيقين ، ولا تبرأ ذمته إلا بيقين ، قلنا : لا نسلم ، بل تبرأ ذمته بغلبة الظن ; بدليل : أن صحة الصلاة تتوقف على شروط مظنونة باتفاق ; كطهارة النجاسة ، وطهارة الحدث باختلاف ، والموقوف على المظنون مظنون ، فلا يلزم اليقين ، وإن كان الأولى هو اليقين ، والله تعالى أعلم . وقوله : إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين : يقتضي التسوية بين ما كان للنقص ، وبين ما كان للزيادة ، فإما أن يكون هذا الأمر بهما على الوجوب ، أو على الندب . والتفرقة التي حكيناها عن أصحابنا مخالفة لهذا الظاهر فتلغى .

                                                                                              وقوله في الرواية الأخرى التي لا شك فيها : أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى خمسا ثم سجد ; حجة على أبي حنيفة حيث قال : تبطل الصلاة بزيادة الخامسة ، وهو حجة [ ص: 187 ] لمالك على صحة ذلك في غير الثنائية ، فلو زاد في الثنائية ركعة فقد زاد مثل نصفها ، وقد اختلف فيما إذا زاد مثل نصف الصلاة فأكثر ، فقيل : النصف كثير فتعاد الصلاة منه في الصبح وغيرها . وهذا قول مطرف وابن القاسم . وقيل : إنما تفسد بزيادة ركعتين ، وليست زيادة ركعة واحدة تبطل في الصبح ولا غيرها ، وهو قول عبد الملك ، فأما لو زاد مثل الصلاة ; ففي بطلانها بذلك روايتان ; مشهورهما : البطلان . والثانية : رواية عبد الملك ومطرف : وهي الصحة ، ويجزئه سجود السهو ، وسبب هذا الخلاف اعتبار الزيادة ; هل هي كثيرة بالنسبة أم لا ؟




                                                                                              الخدمات العلمية