الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومنه ) أي ومن خطاب الوضع ( فساد وصحة ) لأنهما من الأحكام ، وليسا داخلين في الاقتضاء والتخيير ، لأن الحكم بصحة العبادة وبطلانها ، وبصحة المعاملة وبطلانها : لا يفهم منه اقتضاء ولا تخيير ، فكانا من خطاب الوضع .

وهذا قول الأكثر من أصحابنا وغيرهم . وقال جماعة : معنى الصحة : الإباحة ، ومعنى البطلان : الحرمة . وذهب ابن الحاجب وجمع إلى أن الصحة والبطلان أمر عقلي غير مستفاد من الشرع . فلا يكون داخلا في الحكم الشرعي ( وهي ) أي الصحة ( في عبادة : سقوط القضاء ) أي قضاء العبادة ( بالفعل ) أي : بفعلها . بمعنى أن لا يحتاج إلى فعلها ثانيا . وهذا عند الفقهاء ، وعند المتكلمين : موافقة الأمر وإن لم يسقط القضاء . فصلاة من ظن الطهارة صحيحة على قول المتكلمين ، فاسدة على قول الفقهاء . فالمتكلمون نظروا لظن المكلف .

والفقهاء لما في نفس الأمر . لكن قال البرماوي : اللائق بقواعد الفريقين العكس . وقال ابن دقيق العيد : هذا البناء فيه نظر ; لأن من قال : موافقة الأمر إن أراد الأمر الأصلي : فلم تسقط ، أو الأمر بالعمل بالظن : فقد تبين فساد الظن . فيلزم أن لا تكون صحيحة من حيث عدم موافقة الأمر الأصلي ولا الأمر بالعمل بالظن . قال في شرح التحرير : وما قاله ظاهر . قال : والقضاء واجب على قول الفقهاء وقول المتكلمين عند الأكثر ، وقطعوا به ، وهو الصحيح ، ويكون الخلاف بين الفريقين لفظيا . انتهى . ( و ) الصحة ( في معاملة : ترتب أحكامها ) أي أحكام المعاملة ( المقصودة بها ) أي بالمعاملة ( عليها ) وذلك لأن العقد لم يوضع إلا لإفادة مقصود كمال النفع في البيع . وملك البضع في النكاح . فإذا أفاد مقصوده [ ص: 147 ] فهو صحيح . وحصول مقصوده : هو ترتب حكمه عليه ، لأن العقد مؤثر لحكمه وموجب له .

قال الآمدي : ولا بأس بتفسير الصحة في العبادات بهذا . قال الطوفي : لأن مقصود العبادة رسم التعبد وبراءة ذمة العبد منها . فإذا أفادت ذلك كان هو معنى قولنا : إنها كافية في سقوط القضاء ، فتكون صحيحة ( ويجمعهما ) أي ويجمع العبادة والمعاملة في حد صحتهما قوله ( ترتب أثر مطلوب من فعل عليه ) أي على ذلك الفعل . فالفقهاء فسروا الأثر المطلوب بإسقاط القضاء . والمتكلمون بموافقة الشرع ( فبصحة عقد يترتب أثره ) من التمكن من التصرف فيما هو له ، كالبيع إذا صح العقد ترتب أثره من ملك ، وجواز التصرف فيه من هبة ووقف وأكل ولبس وانتفاع وغير ذلك .

وكذا إذا صح عقد النكاح والإجارة والوقف وغيرها من العقود ، ترتب عليها أثرها مما أباحه الشرع له به . فينشأ ذلك عن العقد . وترتب العتق على الكتابة الفاسدة لوجود الصفة ، وترتب صحة التصرف في الوكالة والمضاربة الفاسدة ، لوجود الإذن في التصرف ، لا من جهة العقد في الثلاث ( و ) بصحة ( عبادة ) يترتب ( إجزاؤها ، وهو ) أي إجزاؤها ( كفايتها في إسقاط التعبد ويختص ) الإجزاء ( بها ) أي بالعبادة ، سواء كانت واجبة أو مستحبة . وتفسير إجزائها بكفايتها في إسقاط التعبد ينقل عن المتكلمين . قال في شرح التحرير : وهو أظهر . وقيل : الإجزاء هو الكفاية في إسقاط القضاء .

وينقل عن الفقهاء . فعلى القول الأول : فعل المأمور به بشروطه يستلزم الإجزاء بلا خلاف . وعلى الثاني : يستلزمه عند الأكثر . قال ابن مفلح : وإلا لكان الأمر بعد الامتثال مقتضيا إما لما فعل ، وهو تحصيل الحاصل ، وإما لغيره ، فالمجموع مأمور به ، فلم يفعل إلا بعضه . والفرض خلافه ( وكصحة قبول ونفيه ، كنفي إجزاء ) يعني أن القبول مثل الصحة ، فلا يفارقها في إثبات ولا نفي .

فإذا وجد أحدهما وجد الآخر ، وإذا انتفى أحدهما انتفى الآخر . وهذا المقدم في التحرير . والذي رجحه ابن عقيل في الواضح . وقيل : إن القبول أخص من الصحة ، إذ كل مقبول صحيح ولا عكس . واستدل لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 148 ] { من أتى عرافا لم تقبل له صلاة أربعين صباحا } و { إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة حتى يرجع إلى مواليه } و { من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا } ونحو ذلك . فيكون القبول هو الذي يحصل به الثواب . والصحة قد توجد في الفعل ولا ثواب فيه ، لكن قد أتى نفي القبول في الشرع تارة بمعنى نفي الصحة ، كما في حديث { لا يقبل الله صلاة بغير طهور ، ولا صدقة من غلول } .

و { لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار } و { لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ } ونحو قوله تعالى ( { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به } ) وتارة بمعنى نفي القبول مع وجود الصحة ، كما في الأحاديث السابقة في الآبق ، وشارب الخمر ، ومن أتى عرافا . وقد حكى القولين في الواضح . ورجح أن الصحيح لا يكون إلا مقبولا ، ولا يكون مردودا ، إلا وهو باطل . قال ابن العراقي : ظهر لي في الأحاديث التي نفي فيها القبول ولم تنتف معه الصحة - كصلاة شارب الخمر ونحوه - أنا ننظر فيما نفي ، فإن قارنت ذلك الفعل معصية ، كحديث شارب الخمر ونحوه ; انتفى ، القبول . أي الثواب ، لأن إثم المعصية أحبطه ، وإن لم تقارنه معصية . كحديث { لا صلاة إلا بطهور } ونحوه ، فانتفاء القبول سببه انتفاء الشرط ، وهو الطهارة ونحوها ، ويلزم من عدم الشرط عدم المشروط . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية