الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( و ) أما ( التعارض ) فهو ( تقابل دليلين ولو عامين ) في الأصح ( على سبيل الممانعة ) وذلك إذا كان أحد الدليلين : يدل على الجواز ، والدليل الآخر : يدل على المنع . فدليل الجواز : يمنع التحريم ، ودليل التحريم : يمنع الجواز ، فكل منهما مقابل للآخر ، ومعارض له ، ومانع له ، وذكر بعض أصحابنا عن قوم : منع تعارض عمومين بلا مرجح ، وقد خص الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد الصبح والعصر بقوله صلى الله عليه وسلم { من نام عن صلاة [ ص: 634 ] أو نسيها فليصلها إذا ذكرها } وذكر القاضي وأصحابه والموفق والشافعية تعارضهما ; لأن كلا منهما عام من وجه وخاص من وجه .

( و ) أما ( التعادل ) فهو ( التساوي ) ، ( ولكن تعادل ) دليلين ( قطعيين محال ) اتفاقا . سواء كانا عقليين أو نقليين ، أو أحدهما عقليا ، والآخر نقليا . إذ لو فرض ذلك لزم اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما .

وترجيح أحدهما على الآخر محال ، فلا مدخل للترجيح في الأدلة القطعية ; لأن الترجيح فرع التعارض ، ولا تعارض فيها ، فلا ترجيح ( والمتأخر ) منهما ( ناسخ ) للمتقدم إن علم التاريخ بالقطع ( ولو ) كان الدليلان ( آحادا ) على الأصح ; لأنه انضم إلى ذلك : أن الأصل فيه الدوام والاستمرار . ( ومثله ) أي ومثل القطعيين في عدم التعارض ( قطعي ، وظني ) لأنه لا تعادل بينهما ولا تعارض ، لانتفاء الظن ; لأنه يستحيل وجود ظن في مقابلة يقين ، فالقطعي هو المعمول به ، والظن لغو ، ولذلك لا يتعارض حكم مجمع عليه مع حكم آخر ليس مجمعا عليه .

( ويعمل بالقطعي ) دون الظني ( وكذا ) دليلان ( ظنيان ) في عدم التعارض عند الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأصحابه وأكثر الشافعية والكرخي والسرخسي وحكاه الإسفراييني عن أصحابه ، وحكاه ابن عقيل عن الفقهاء ( فيجمع بينهما ) إن أمكن بأن علم التاريخ ، وكان أحدهما عاما ، والآخر خاصا . أو أحدهما مطلقا ، والآخر مقيدا ، ونحو ذلك ، حتى لو كان أحد الدليلين من السنة والآخر من الكتاب على أصح الأقوال ، وقيل : يقدم الكتاب على السنة ; لحديث معاذ المشتمل على أنه { يقضي بكتاب الله ، فإن لم يجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وأقره عليه } . رواه أبو داود وغيره ، وقيل : تقدم السنة على الكتاب لقوله تعالى " لتبين للناس ما نزل إليهم " وأما قوله صلى الله عليه وسلم في البحر { هو الطهور ماؤه الحل ميتته } رواه أبو داود وغيره ، مع قوله تعالى وتقدس { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير } فكل من الآية والحديث : يتناول خنزير البحر ، فيتعارض عموم الكتاب والسنة في خنزير البحر فقدم بعضهم الكتاب فحرمه ، وقال به من أصحابنا أبو علي النجاد [ ص: 635 ] وبعضهم قدم السنة فأحله ، وهو ظاهر كلام أحمد ، وعليه جمهور أصحابه .

( فإن تعذر ) الجمع بينهما ( وعلم التاريخ ) بأن علم السابق منهما ( فالثاني ناسخ ) للأول ( إن قبله ) أي قبل النسخ ( وإن اقترنا خير ) المجتهد في العمل ، والإفتاء بأيهما شاء ( وإن جهل ) التاريخ ( وقبله ) أي : قبل الدليل النسخ ( رجع إلى غيرهما ) أي : إلى العمل بغيرهما إن أمكن ( وإلا ) أي : وإن لم يمكن ( اجتهد في الترجيح ) ، ( و ) متى لم يمكنه ، بأن اجتهد في الترجيح ، ولم يظهر له فيها شيء ، فإنه ( يقف ) عن العمل بواحد منهما ( إلى أن يعلمه ) وقال الشيخ تقي الدين : إن عجز عن الترجيح ، أو تعذر : قلد عالما ، وهذا كله على عدم التعادل في الظنيين ، وعلى القول الثاني في أصل المسألة ، وهو جواز تعادلها . وبه قال القاضي وابن عقيل والأكثر من غير أصحابنا : أن المجتهد يخير في العمل بما شاء منهما ، كتخير أحد أصناف الكفارة عند الإخراج ، ومن هنا جاز للعامي أن يستفتي من شاء من المفتين ، ويعمل بقوله .

وحيث قلنا بالتخيير - على القول بالتعادل أو بعدمه - فلا يعمل ولا يفتى إلا بواحد في الأصح . قال الباقلاني : وليس له تخيير المستفتي والخصوم ، ولا الحكم في وقت بحكم ، وفي وقت بحكم آخر ، بل يلزم أحد القولين . قال : وهل يتعين أحد الأقوال بالشروع فيه كالكفارة ، أو بالتزامه كالنذر ؟ لهم فيه قولان . انتهى . واحتج من منع التعادل في الأمارتين في نفس الأمر مطلقا بأنه لو وقع ، فإما أن يعمل بهما ، وهو جمع بين المتنافيين ، أو لا يعمل بواحد منهما ، فيكون وضعهما عبثا ، وهو محال على الله تعالى ، أو يعمل بأحدهما على التعيين ، وهو ترجيح من غير مرجح ، أو لا على التعيين ، بل على التخيير ، والتخيير بين المباح وغيره : يقتضي ترجيح أمارة الإباحة بعينها ، لأنه لما جاز له الفعل ، والترك كان هذا معنى الإباحة ، فيكون ترجيحا لإحدى الأمارتين بعينها ، واحتج من جوز تعادل الأمارتين في نفس الأمر بالقياس على جواز تعادلهما في الذهن ، وبأنه لا يلزم من فرضه محال . وقال العز بن عبد السلام في قواعده : لا يتصور في الظنون تعارض ، كما لا يتصور في العلوم . إنما يقع التعارض بين أسباب الظنون ، فإذا تعارضت : فإن حصل الشك لم يحكم بشيء ، وإن [ ص: 636 ] وجد ظن في أحد الطرفين حكمنا به ; لأن ذهاب مقابله يدل على ضعفه . وإن كان كل منهما مكذبا للآخر تساقطا ، وإن لم يكذب كل واحد منهما صاحبه عمل به حسب الإمكان ، كدابة عليها راكبان : يحكم لهما بها ; لأن كلا من اليدين لا تكذب الأخرى . انتهى . قال البرماوي : وهو نفيس ; لأن الظن هو الطرف الراجح ، ولو عورض بطرف آخر راجح : لزم أن يكون كل واحد منهما راجحا مرجوحا وهو محال .

التالي السابق


الخدمات العلمية