الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مسألة : إذا عرفت أن الحرام ضد الواجب

              ; لأنه المقتضى تركه والواجب هو المقتضى فعله ، فلا يخفى عليك أن الشيء الواحد يستحيل أن يكون واجبا حراما طاعة معصية ; لكن ربما تخفى عليك حقيقة الواحد ، فالواحد ينقسم إلى واحد بالنوع وإلى واحد بالعدد . أما الواحد بالنوع كالسجود مثلا ، فإنه نوع واحد من الأفعال ; فيجوز أن ينقسم إلى الواجب والحرام ويكون انقسامه بالأوصاف والإضافات كالسجود لله تعالى والسجود للصنم ، إذ أحدهما واجب والآخر حرام ولا تناقض .

              وذهب بعض المعتزلة إلى تناقض ، فإن السجود نوع واحد مأمور به فيستحيل أن ينهى عنه ، بل الساجد للصنم عاص بقصد تعظيم الصنم لا بنفس السجود . وهذا خطأ فاحش ، فإنه إذا تغاير متعلق الأمر والنهي لم يتناقض ، والسجود للصنم غير السجود لله تعالى ; لأن اختلاف الإضافات والصفات يوجب المغايرة إذ الشيء لا يغاير نفسه .

              والمغايرة تارة تكون باختلاف النوع وتارة باختلاف الوصف وتارة باختلاف الإضافة ، وقد قال الله تعالى : { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله } ، وليس المأمور به هو المنهي عنه ، والإجماع منعقد على أن الساجد للشمس عاص بنفس السجود والقصد جميعا .

              فقولهم : إن السجود نوع واحد لا يغني مع انقسام هذا النوع إلى أقسام مختلفة المقاصد ، إذ المقصود بهذا السجود تعظيم الصنم دون تعظيم الله تعالى ، واختلاف وجوه الفعل كاختلاف نفس الفعل في حصول الغيرية الرافعة للتضاد ، فإن التضاد إنما يكون بالإضافة إلى واحد ولا وحدة مع المغايرة [ ص: 62 ]

              مسألة : ما ذكرناه في الواحد بالنوع ظاهر ،

              أما الواحد بالتعيين كصلاة زيد في دار مغصوبة من عمرو فحركته في الصلاة فعل واحد بعينه هو مكتسبه ومتعلق قدرته ; فالذين سلموا في النوع الواحد نازعوا ههنا فقالوا : لا تصح هذه الصلاة ، إذ يؤدي القول بصحتها إلى أن تكون العين الواحدة من الأفعال حراما واجبا ، وهو متناقض فقيل لهم : هذا خلاف إجماع السلف ، فإنهم ما أمروا الظلمة عند التوبة بقضاء الصلوات المؤداة في الدور المغصوبة مع كثرة وقوعها ، ولا نهوا الظالمين عن الصلاة في الأراضي المغصوبة ، فأشكل الجواب على القاضي أبي بكر رحمه الله فقال : يسقط الوجوب عندها لا بها بدليل الإجماع ولا يقع واجبا ; لأن الواجب ما يثاب عليه .

              وكيف يثاب على ما يعاقب عليه وفعله واحد هو كون في الدار المغصوبة وسجوده وركوعه أكوان اختيارية هو معاقب عليها ومنهي عنها ؟ وكل من غلب عليه الكلام قطع بهذا نظرا إلى اتحاد أكوانه في حالة من أحواله وأن الحادث منه الأكوان لا غيرها وهو معاقب عليها عاص بها ، فكيف يكون متقربا بما هو معاقب عليه ومطيعا بما هو به عاص ؟ وهذا غير مرضي عندنا ، بل نقول : الفعل وإن كان واحدا في نفسه فإذا كان له وجهان متغايران يجوز أن يكون مطلوبا من أحد الوجهين مكروها من الوجه الآخر ، وإنما المحال أن يطلب من الوجه الذي يكره بعينه ، وفعله من حيث إنه صلاة مطلوب ومن حيث إنه غصب مكروه ، والغصب معقول دون الصلاة والصلاة معقولة دون الغصب ، وقد اجتمع الوجهان في فعل واحد ومتعلق الأمر والنهي الوجهان المتغايران .

              وكذلك يعقل من السيد أن يقول لعبده : " صل اليوم ألف ركعة وخط هذا الثوب ولا تدخل هذه الدار ، فإن ارتكبت النهي ضربتك وإن امتثلت الأمر أعتقتك " . فخاط الثوب في الدار وصلى ألف ركعة في تلك الدار ، فيحسن من السيد أن يضربه ويعتقه ويقول أطاع بالخياطة والصلاة وعصى بدخول الدار ، فكذلك فيما نحن فيه من غير فرق . فالفعل وإن كان واحدا فقد تضمن تحصيل أمرين مختلفين يطلب أحدهما ويكره الآخر . ولو رمى سهما واحدا إلى مسلم بحيث يمرق إلى كافر أو إلى كافر بحيث يمرق إلى مسلم ، فإنه يثاب ويعاقب ويملك سلب الكافر ويقتل بالمسلم قصاصا لتضمن فعله الواحد أمرين مختلفين .

              فإن قيل : ارتكاب المنهي عنه إذا أخل بشرط العبادة أفسدها بالاتفاق ، ونية التقرب بالصلاة شرط ، والتقرب بالمعصية محال ، فكيف ينوي التقرب ؟ فالجواب من أوجه : الأول : أن الإجماع إذا انعقد على صحة هذه الصلاة فليعلم به بالضرورة أن نية التقرب ليس بشرط أو نية التقرب بهذه الصلاة ممكن ، وأبو هاشم الجبائي ومن خالف في صحة الصلاة مسبوق بإجماع الأمة على ترك تكليف الظلمة قضاء الصلوات مع كثرتهم ، وكيف ينكر سقوط نية التقرب ؟ وقد اختلفوا في اشتراط نية الفرضية ونية الإضافة إلى الله تعالى ، فقال قوم : لا يجب إلا أن ينوي الظهر أو العصر فهو في محل الاجتهاد .

              وقد ذهب قوم إلى أن الصلاة تجب في آخر الوقت والصبي إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ آخره أجزأه ، ولو بلغ في وسط الوقت مع أنه لا تتحقق الفرضية في حقه .

              فإن قيل من نوى الصلاة فقد تضمنت نيته القربة قلنا : إذا صحت الصلاة بالإجماع واستحال نية التقرب فتلغى تلك النية . ويصح أن يقال تعلقت نية التقرب ببعض أجزاء [ ص: 63 ] الصلاة من الذكر والقراءة وما لا يزاحم حق المغصوب منه ، فإن الأكوان هي التي تتناول منافع الدار .

              ثم كيف يستقيم من المعتزلة هذا وعندهم لا يعلم المأمور كونه مأمورا ولا كون العبادة واجبة قبل الفراغ من الامتثال كما سيأتي ؟ فكيف ينوي التقرب بالواجب وهو لا يعرف وجوبه ؟ الجواب الثاني ، وهو الأصح أنه ينوي التقرب بالصلاة ويعصي بالغصب .

              وقد بينا انفصال أحدهما عن الآخر ; ولذلك يجد المصلي من نفسه نية التقرب بالصلاة وإن كان في دار مغصوبة ; لأنه لو سكن ولم يفعل لكان غاصبا في حالة النوم وعدم استعمال القدرة ، وإنما يتقرب بأفعاله وليست تلك الأفعال شرطا لكونه غاصبا فإن قيل : هو في حالة القعود والقيام غاصب بفعله ، ولا فعل له إلا قيامه وقعوده ، وهو متقرب بفعله فيكون متقربا بعين ما هو عاص به .

              قلنا : هو من حيث إنه مستوف منافع الدار غاصب ومن حيث إنه أتى بصورة الصلاة متقرب كما ذكرناه في صورة الخياطة ، إذ قد يعقل كونه غاصبا ولا يعلم كونه مصليا ، ويعلم كونه مصليا ولا يعلم كونه غاصبا .

              فهما وجهان مختلفان وإن كان ذات الفعل واحدا . الجواب الثالث : هو أنا نقول : تنكرون على القاضي رحمه الله حيث حكم بأن الفرض يسقط عندها لا بها بدليل الإجماع ؟ فسلم أنه معصية ; ولكن الأمر لا يدل على الإجزاء إذا أتى بالمأمور ولا النهي يدل على عدم الإجزاء ، بل يؤخذ الإجزاء من دليل آخر كما سيأتي .

              فإن قيل : هذه المسألة اجتهادية أم قطعية ؟ قلنا : هي قطعية والمصيب فيها واحد ; لأن من صحح أخذ من الإجماع وهو قاطع ، ومن أبطل أخذ من التضاد الذي بين القربة والمعصية ، ويدعى كون ذلك محالا بدليل العقل فالمسألة قطعية .

              فإن قيل : ادعيتم الإجماع في هذه المسألة وقد ذهب أحمد بن حنبل إلى بطلان هذه الصلاة وبطلان كل عقد منهي عنه حتى البيع في وقت النداء يوم الجمعة ، فكيف تحتجون عليه بالإجماع ؟ قلنا : الإجماع حجة عليه ، إذ علمنا أن الظلمة لم يؤمروا بقضاء الصلوات مع كثرة وقوعها مع أنهم لو أمروا به لانتشر ، وإذا أنكر هذا فيلزمه أظهر منه وهو أن لا تحل امرأة لزوجها وفي ذمته دانق ظلم به ، ولا يصح بيعه ولا صلاته ولا تصرفاته ، وإنه لا يحصل التحليل بوطء من هذه حاله ; لأنه عصى بترك رد المظلمة ولم يتركها إلا بتزويجه وبيعه وصلاته وتصرفاته ، فيؤدي إلى تحريم أكثر النساء وفوات أكثر الأملاك ، وهو خرق للإجماع قطعا وذلك لا سبيل إليه

              التالي السابق


              الخدمات العلمية