الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل [ ( 6 ) الفرق بين السارق والمنتهب ] .

وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم ، وترك قطع المختلس والمنتهب والغاصب فمن تمام حكمة الشارع أيضا ; فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه ، فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز ويكسر القفل ، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك ، فلو لم يشرع قطعه لسرق الناس بعضهم بعضا ، وعظم الضرر ، واشتدت المحنة بالسراق ، بخلاف المنتهب والمختلس ; فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس ، فيمكنهم أن يأخذوا على يديه ، ويخلصوا حق المظلوم ، أو يشهدوا له عند الحاكم ، وأما المختلس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه وغيره ، فلا يخلو من نوع تفريط يمكن به المختلس من اختلاسه ، وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس ، فليس كالسارق ، بل هو بالخائن أشبه ; وأيضا فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالبا ، فإنه الذي يغافلك ويختلس متاعك في حال تخليك عنه وغفلتك عن حفظه ، وهذا يمكن الاحتراز منه غالبا ، فهو كالمنتهب ; وأما الغاصب فالأمر فيه ظاهر ، وهو أولى بعدم القطع من المنتهب ، ولكن يسوغ كف عدوان هؤلاء بالضرب والنكال والسجن الطويل والعقوبة بأخذ المال كما سيأتي .

فإن قيل : فقد وردت السنة بقطع جاحد العارية ، وغايته أنه خائن ، والمعير سلطه على قبض ماله .

والاحتراز منه ممكن بأن لا يدفع إليه المال ; فبطل ما ذكرتم من الفرق . [ ص: 48 ] قيل : لعمر الله لقد صح الحديث بأن { امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده ، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يدها } ، فاختلف الفقهاء في سبب القطع : هل كان لسرقتها ؟ وعرفها الراوي بصفتها ; لأن المذكور هو سبب القطع كما يقوله الشافعي وأبو حنيفة ومالك أو كان السبب المذكور هو سبب القطع مما يقوله أحمد ومن وافقه ؟ ونحن في هذا المقام لا ننتصر لمذهب معين ألبتة ، فإن كان الصحيح قول الجمهور اندفع السؤال ، وإن كان الصحيح هو القول الآخر فموافقته للقياس والحكمة والمصلحة ظاهر جدا ; فإن العارية من مصالح بني آدم التي لا بد لهم منها ، ولا غنى لهم عنها ، وهي واجبة عند حاجة المستعير وضرورته إليها إما بأجرة أو مجانا ، ولا يمكن المعير كل وقت أن يشهد على العارية ، ولا يمكن الاحتراز بمنع العارية شرعا وعادة وعرفا ، ولا فرق في المعنى بين من توصل إلى أخذ متاع غيره بالسرقة وبين من توصل إليه بالعارية وجحدها ، وهذا بخلاف جاحد الوديعة ; فإن صاحب المتاع فرط حيث ائتمنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية