الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ من أدرك ركعة من الصبح ]

المثال الثامن والعشرون : رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في أن من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ، بكونها خلاف الأصول بالمتشابه من نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ، قالوا : والعام عندنا يعارض الخاص ; فقد تعارض حاظر ومبيح ، فقدمنا الحاظر احتياطا ; فإنه يوجب عليه إعادة الصلاة ، وحديث الإتمام يجوز له المضي فيها ، وإذا تعارضا صرنا إلى النص الذي يوجب الإعادة لتتيقن براءة الذمة ، فيقال : لا ريب أن قوله صلى الله عليه وسلم : { من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته ، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته } حديث واحد ، قاله صلى الله عليه وسلم في وقت واحد ، وقد وجبت طاعته في شطره ; فتجب طاعته في الشطر الآخر ، وهو محكم خاص لا يحتمل إلا وجها واحدا ، لا يحتمل غيره ألبتة ، وحديث النهي عن الصلاة في أوقات النهي عام مجمل قد خص منه عصر يومه بالإجماع ، وخص منه قضاء الفائتة والمنسية بالنص ، وخص منه ذوات الأسباب بالسنة كما قضى النبي صلى الله عليه وسلم سنة الظهر بعد العصر ، وأقر من قضى سنة الفجر بعد صلاة الفجر ، وقد أعلمه أنها سنة الفجر ، وأمر من [ ص: 246 ] صلى في رحله ثم جاء مسجد جماعة أن يصلي معهم وتكون له نافلة ، وقاله في صلاة الفجر ، وهي سبب الحديث ، وأمر الداخل والإمام يخطب أن يصلي تحية المسجد قبل أن يجلس .

[ فرق بين الابتداء والدوام ]

وأيضا فإن الأمر بإتمام الصلاة وقد طلعت الشمس فيها أمر بإتمام لا بابتداء ، والنهي عن الصلاة في ذلك الوقت نهي عن ابتدائها لا عن استدامتها ; فإنه لم يقل : " لا تتموا الصلاة في ذلك الوقت ، وإنما قال : لا تصلوا " .

وأين أحكام الابتداء من الدوام وقد فرق النص والإجماع والقياس بينهما ؟ فلا تؤخذ أحكام الدوام من أحكام الابتداء ولا أحكام الابتداء من أحكام الدوام في عامة مسائل الشريعة ; فالإحرام ينافي ابتداء النكاح والطيب دون استدامتهما ، والنكاح ينافي قيام العدة والردة دون استدامتها ، والحدث ينافي ابتداء المسح على الخفين دون استدامته ، وزوال خوف العنت ينافي ابتداء النكاح على الأمة دون استدامته عند الجمهور ، والزنا من المرأة ينافي ابتداء عقد النكاح دون استدامته عند الإمام أحمد ومن وافقه ، والذهول عن نية العبادة ينافي ابتداءها دون استدامتها ، وفقد الكفاءة ينافي لزوم النكاح في الابتداء دون الدوام ، وحصول الغنى ينافي جواز الأخذ من الزكاة ابتداء ولا ينافيه دواما .

وحصول الحجر بالسفه والجنون ينافي ابتداء العقد من المحجور عليه ولا ينافي دوامه ، وطريان ما يمنع الشهادة من الفسق والكفر والعداوة بعد الحكم بها لا يمنع العمل بها على الدوام ويمنعه في الابتداء ، والقدرة على التكفير بالمال تمنع التكفير بالصوم ابتداء لا دواما ، والقدرة على هدي التمتع تمنع الانتقال إلى الصوم ابتداء لا دواما ، والقدرة على الماء ابتداء التيمم اتفاقا ، وفي منعه لاستدامة الصلاة بالتيمم خلاف بين أهل العلم ، ولا يجوز إجارة العين المغصوبة ممن لا يقدر على تخليصها ، ولو غصبها بعد العقد من لا يقدر المستأجر على تخليصها منه لم تنفسخ الإجارة وخير المستأجر بين فسخ العقد وإمضائه ، ويمنع أهل الذمة من ابتداء إحداث كنيسة في دار الإسلام ولا يمنعون من استدامتها ، ولو حلف لا يتزوج ولا يتطيب أو لا يتطهر فاستدام ذلك لم يحنث وإن ابتدأه حنث ، وأضعاف أضعاف ذلك من الأحكام التي يفرق فيها بين الابتداء والدوام ; فيحتاج في ابتدائها إلى ما لا يحتاج إليه في دوامها ، وذلك لقوة الدوام وثبوته واستقرار حكمه ، وأيضا فهو مستصحب بالأصل ، وأيضا فالدافع أسهل من الرافع ، وأيضا فأحكام التبع يثبت فيها ما لا يثبت في المتبوعات ، والمستدام تابع لأصله الثابت ; فلو لم يكن في المسألة نص لكان القياس يقتضي صحة ما ورد به النص ، فكيف وقد توارد عليه النص والقياس ؟ [ ص: 247 ] فقد تبين أنه لم يتعارض في هذه المسألة عام وخاص ولا نص وقياس ، بل النص فيها والقياس متفقان ، والنص العام لا يتناول مورد الخاص ولا هو داخل تحت لفظه ، ولو قدر صلاحية لفظه له فالخاص بيان لعدم إرادته ، فلا يجوز تعطيل حكمه وإبطاله ، بل يتعين إعماله واعتباره ، ولا تضرب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض ، وهذه القاعدة أولى من القاعدة التي تتضمن إبطال إحدى السنتين وإلغاء أحد الدليلين ، والله الموفق .

ثم نقول : الصورة التي أبطلتم فيها الصلاة - وهي حالة طلوع الشمس - وخالفتم السنة أولى بالصحة من الصورة التي وافقتم فيها السنة ; فإنه إذا ابتدأ العصر قبل الغروب فقد ابتدأها في وقت نهي ، وهو وقت ناقص ، بل هو أولى الأوقات بالنقصان ، كما جعله النبي صلى الله عليه وسلم وقت صلاة المنافقين حين تصير الشمس بين قرني شيطان ، وحينئذ يسجد لها الكفار ، وإنما كان النهي عن الصلاة قبل ذلك الوقت حريما له وسدا للذريعة ، وهذا بخلاف من ابتدأ الصلاة قبل طلوع الشمس ; فإن الكفار حينئذ لا يسجدون لها ، بل ينتظرون بسجودهم طلوعها فكيف يقال : تبطل صلاة من ابتدأها في وقت تام لا يسجد فيه الكفار للشمس وتصح صلاة من ابتدأها وقت سجود الكفار للشمس سواء ، وهو الوقت الذي تكون فيه بين قرني الشيطان فإنه حينئذ يقارنها ليقع السجود له كما يقارنها وقت الطلوع ليقع السجود له ؟ فإذا كان ابتداؤها وقت مقارنة الشيطان لها غير مانع من صحتها فلأن تكون استدامتها وقت مقارنة الشيطان غير مانع من الصحة بطريق الأولى والأحرى ، فإن كان في الدنيا قياس صحيح فهذا من أصحه ; فقد تبين أن الصورة التي خالفتم فيها النص أولى بالجواز قياسا من الصورة التي وافقتموه فيها .

وهذا مما حصلته عن شيخ الإسلام - قدس الله روحه - وقت القراءة عليه ، وهذه كانت طريقته ، وإنما يقرر أن القياس الصحيح هو ما دل عليه النص ، وأن من خالف النص للقياس فقد وقع في مخالف القياس والنص معا ، وبالله التوفيق .

ومن العجب أنهم قالوا : لو صلى ركعة من العصر ثم غربت الشمس صحت صلاته وكان مدركا لها ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر } وهذا شطر الحديث ، وشطره الثاني : { ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر } .

التالي السابق


الخدمات العلمية